البحث
رسالة للوالي في حسن السيرة في الرعية
رسالة للوالي في حسن السيرة في الرعية
قال الوليد بن مزيد: كتب الأوزاعي إلى الوالي أبي بلج:
أما بعد:
صرف الله عنا وعنك الميل عن الحق من بعد المعرفة، والجهل عما نفع، واتباع الهوى بغير هدىً منه.
فإن أبا الدرداء كان يقول: لن تزالوا بخير ما أحببتم خياركم، وما قيل فيكم بالحق فعرفتموه. فإن عارف الحق كعامله.
وقد تقدمك أمران (1).
أما أحدهما: فالكتاب له مصدق، والسنة عليه شاهدة، والنصر به مؤيد، وأمر الناس عليه جامع.
وأما الآخر: فالتجوز على الألفة إلى غل لا مودة فيه، وإلى طمع لا أمانة فيه، وإلى بيع حكم لا عمل فيه، حتى وهنت القوة وظهر في الإسلام فساده (1).
وقد رأيت كتباً ظهرت فيما عندكم، ومقالة سوء بعقوبة فرط (2)، وصحبة غليظة للمسلمين.
وقد أوصى رسول الله صلى الله عليه وسلم بخفض الجناح لهم، وبالرأفة بهم، والمعدلة بينهم، يعفى عن مسيئهم فيما يجمل العفو فيه، ويعاقب المذنب على قدر ذنبه، لا يقتحم بالعقوبة وجهه.
فإنه بلغنا أن صكة الوجه يوم القيامة لا تُغفر، فكيف من الموت أجمل من عقوبته؟!
لا يثنى إلى حدود الله عطفه، ولا يقف في سيرته على أمره. يريه جهله أنه في الأمور مخير، وأن غبَّه رشد، فهو لِحرم الله عند غضبه ملغٍ، وبالعداة في دين الله وعلى عبادة يسفه (1).
فإنكم جعلتم أمانتكم من أهل ذمتكم مأكلاً وبين أهوائكم (2)، حتى هلكت الأموال، وعلقت الرجال، مع المثلة في اللحي وتقطيع الأبشار (3). ورسول الله صلى الله عليه وسلم يقول فيما بلغنا: (مَنْ ظَلَمَ مُعَاهِدًا أَوْ كَلَّفَهُ فَوْقَ طَاقَتِهِ، فَأَنَا حَجِيجُهُ) فأعظم بندامة من رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قليل - قريب حجيجه!!
لقد أحدثت تلك الأعمال - فيما بلغني - من المسلمين ضغائن، ولبعض ذوي النهى في جهاده معكم ريباً، تأتينا بذلك كتبهم يسألون عنه (1).
أسأل الله يُثني بنا وبكم إلى أمره (2)، ويتغمد ما سلف منا ومنكم بعفوه.
وقد بلغني أن عمر بن عبدالعزيز أتاه أخ له من الأنصار فقال له:
إن شئت كلمتك وأنت عمر بن عبدالعزيز فيما تكره اليوم وتحب غداً، وإن شئت كلمتك اليوم وأنت أمير المؤمنين فيما تحب اليوم وتكره غداً.
فقال عمر: بل كلمني اليوم، وأنا عمر بن عبدالعزيز فيما أكره اليوم وأحب غداً.
جعل الله في طاعته ألفتنا، وفيما يحب تقلبنا ومثوانا، آمين، والسلام (1)(2).
لهذا المعنى، وقف والي الساحل على قبره بعد تسوية التراب عليه وقال:
رحمك الله أبا عمرو، فوالله لقد كنت لك أشدَّ تقية من الذي ولاني، فمن ظلم بعدك فليصبر.
المراجع
- "الجرح والتعديل" (1/ 200).
- تبين هذه الرسالة قوة الإمام الأوزاعي في قول الحق، ومكانته في الدفاع عن حقوق الناس مسلمين وغير مسلمين، وأنه كان مرجع الناس فكتب الشكوى من الحكام تصل إليه.
- أي: أن الرسائل كانت ترد إلى الأوزاعي بالسؤال عن جواز الجهاد مع هؤلاء الحكام وهذه حالهم؟
- أن يثني: أي: يردنا إلى أمره واتباع أحكامه.
- المراد أن العقوبة التي يعامل بها الناس لا تحكمها حدود الله، وإنما تصدر عن هوى الحاكم بحسب غضبه ورضاه، وهو عند الغضب يحكمه السفه، وعدم الوقوف عند حرم الله تعالى.
- أي: جعلتم معاملة أهل الذمة تبعاً لأهوائكم.
- هذه المعاملة السيئة لم تكن قاصرة على أهل الذمة، بل تقدم في الرسالة في وصف المعاملة السيئة للمسلمين قوله: "فكيف من الموت أجمل من عقوبته".
- أي: فساد الأمر الآخر القائك على ما سبق وصفه من التجاوز والظلم.
- عقوبة فرط: أي تجاوز الحد فيها.
- أي: هناك في طريقة الحكم في الرعية مسلكان: عادل وظالم.