البحث
الصفة
في هذا الفصل نتحدث عن مرفق اقتصادي مهم، كان له أثره طوال المرحلة المدنية، هو "الصفة" (1)، وعلى الرغم من امتداد فعاليته طوال الحياة المدنية فإننا سنتحدث عنه جملة في هذا الباب الأول، حتى لانجزئه إلى أقسام، وتفادياً لصعوبة التقسيم، إذ ليس بين أيدينا ما هو دوره في كل مرحلة من المراحل الثلاث التي تحدثنا عنها عند تقسيمنا للبحث.
التعريف بالصفة:
قال القاضي عياض: الصفة ظلة في مؤخرة مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يأوي إليه المساكين، وإليها تنسب أهل الصفة (2).
وقال ابن تيمية: الصفة كانت في مؤخر مسجد النبي صلى الله عليه وسلم في شمالي المسجد بالمدينة المنورة (3).
وقال ابن حجر: الصفة مكان في مؤخر المسجد النبوي مظلل أعد لنزول الغرباء فيه ممن لا مأوى له ولا أهل (4).
وهكذا تجمع الأقوال كلها على أمر واحد، انها مكان في مؤخر مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولكن ما هو أصل الفكرة وكيف حدثت؟.
والذي يظهر من دراسة السيرة أنه بعد قدوم المهاجرين وبناء المسجد، كان بعض المسلمين من المهاجرين يلجأون إلى النوم في المسجد، وربما كان ذلك لضيق المكان الذي أنزلوا فيه.
ففي حديث نافع عند البخاري، أن عبدالله بن عمر أخبره أنه كان ينام وهو شاب أعزب لا أهل له في مسجد النبي صلى الله عليه وسلم (1).
وعبدالله بن عمر هاجر مع أبيه وأغلب الظن أن المكان الذي نزل فيه عمر كان مكاناً ضيقاً فوجد في المسجد فسحة يقضي ليله فيه، ولعل غيره كان يفعل ذلك. فالمسجد بعد صلاة العشاء وحتى صلاة الصبح يكون خالياً، ونوم إنسان فيه لا يضايق أحداً، ولا شك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان على علم بذلك. .
واستمر الأمر كذلك حتى مضى عام ونصف على الهجرة عندما نزلت الآيات بتحويل القبلة إلى الكعبة بعد أن كانت تجاه بيت المقدس. أي أن القبلة تحولت إلى الجهة المقابلة تماماً. وهنا حدث أن بني أو سقف القسم الخلفي من المسجد لتكون الصلاة تجاه الكعبة، وترك القسم السابق على ما كان عليه، وعند ذلك الفرصة مواتية لمن أراد النوم في المسجد القديم الذي أصبح القسم الخلفي من المسجد النبوي الشريف ومن هنا نشأت فكرة الاستفادة من هذا المكان الذي أطلق عليه اسم الصفة (2).
وقد قرر هذا الإمام الحافظ الذهبي فقال: إن القبلة قبل أن تتحول كانت في شمال المسجد، فلما حولت القبلة بقي حائط القبلة الأولى مكان أهل الصفة (1).
وعلى هذا فالصفة لم تأخذ وضعها كدار ضيافة إلا في نهاية هذه الفترة التي نتحدث عنها في هذا الباب.
أهل الصفة:
قال أبو هريرة: (أَهْلُ الصُّفَّةِ أَضْيَافُ أَهْلِ الْإِسْلَامِ لَا يَأْوُونَ عَلَى أَهْلٍ وَلَا مَالٍ وَلَا عَلَى أَحد) (2).
إن المهاجرين الأول الذين هاجروا قبل النبي صلى الله عليه وسلم أو معه أو بعده حتى نهاية الفترة الأولى قبل غزوة بدر، استطاع الأنصار أن يستضيفوهم في بيوتهم وأن يشاركوهم النفقة، ولكن فيما بعد كبر حجم المهاجرين مما لم يعد هناك قدرة للأنصار على استيعابهم. .
قال ابن تيمية: ثم صار المهاجرون يكثرون بعد ذلك شيئاً بعد شيء، فإن الإسلام صار ينتشر والناس يدخلون فيه، ويكثر المهاجرون إلى المدينة من الفقراء والأغنياء، والآهلين والعزاب، فكان من لم يتيسر له مكان يأوي إليه يأوي إلى تلك الصفة في المسجد (3).
والذي يبدو أن المهاجر الذي يقدم إلى المدينة كان يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم، ثم يوجهه بعد ذلك إلى من يكفله فإن لم يجد فإنه يستقر في الصفة مؤقتاً ريثما يجد السبيل.
جاء في المسند عن عبادة من الصامت قال: (كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يُشْغَلُ فَإِذَا قَدِمَ رَجُلٌ مُهَاجِرٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَفَعَهُ إِلَى رَجُلٍ مِنَّا يُعَلِّمُهُ الْقُرْآنَ فَدَفَعَ إِلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ رَجُلًا وَكَانَ مَعِي فِي الْبَيْتِ أُعَشِّيهِ عَشَاءَ أَهْلِ الْبَيْتِ فَكُنْتُ أُقْرِئُهُ الْقُرْآنَ) (4).
وهكذا استضاف عبادة هذا الرجل في مبيته وطعامه.
وإذا كان القادم إلى المدينة له من يعرفه فيها نزل عليه، وإلا نزل مع أصحاب الصفة.
جاء في حديث طلحة بن عمرو - عند أحمد وابن حبان والحاكم -: (كان الرجل إذا قدم على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان له بالمدينة عريف نزل عليه، فإذا لم يكن له عريف نزل مع أصحاب الصفة) (1).
وفي رواية المسند: قال: أتيت المدينة وليس لي بها معرفة فنزلت في الصفة. .(2).
وقد كان عامة من نزل الصفة من العزاب الذين لا أهل لهم (3).
كما كان عامتهم من المهاجرين، إذ لا حاجة للأنصار للنزول بها فالمدينة بلدهم وفيها دورهم وعشائرهم. وهذا لا يمنع من نزولهم، ولكني لم أجد نصاً يدل على أن أنصارياً نزل بها.
أما ما جاء في الحديث المتفق عليه عن أنس في قصة إرسال النبي سبعين رجلاً من الأنصار فيهم خال أنس "حرام" فليس هناك نص أنهم من أهل الصفة، وإنما كانوا يجيئون بالماء فيضعونه في المسجد ويحتطبون فيبيعونه ويشترون به الطعام لأهل الصفة وللفقراء (4). فهم يساعدون أهل الصفة بعملهم هذا ليس أكثر.
المراجع
- أصلها من صفة البيت، وهي شيء كالظلة قدامه.
- نظام الحكومة النبوية المسمى التراتيب الإدارية لعبدالحي الكتاني 1/ 474.
- الفتاوى 11/ 38.
- فتح الباري 6/ 595 و 1/ 353.
- هذا لفظ البخاري برقم 440، وهو عند مسلم برقم 2479.
- انظر تفصيل بناء المسجد النبوي في كتاب "الفن الإسلامي التزام وإبداع" للمؤلف.
- شرح الزرقاني على المواهب اللدنية 1/ 370.
- رواه البخاري برقم 6452.
- الفتاوى 11/ 40 - 41.
- المسند 5/ 324.
- فتح الباري 11/ 286.
- المسند 3/ 487.
- ويبدو أن العزاب - قبل الصفة - كانوا ينزلون على سعد بن خيثمة، إذ كان عزباً لا أهل له، فكان العزاب من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين ينزلون في بيته ولهذا سمي "بيت العزاب" كما ذكر ذلك الطبري 2/ 382 في تاريخه.
- انظر نص الحديث في البخاري برقم 4090 وعند مسلم في كتاب الإمارة رقم 147.