1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. آصر العقيدة

آصر العقيدة

الكاتب : صالح أحمد الشامي

آصر العقيدة:

قلت من قبل: إن التربية في مكة - بكل مساراتها - قوامها العقيدة، وإذا كان لكل جماعة من الجماعات الإنسانية رابطاً تجتمع عليه. فإن آصرة التجمع لدى المؤمنين هي العقيدة.

كان الرابط الذي اجتمع العرب عليه هو رابط الدم والنسب، والعشيرة والقبيلة والقوم،. . ومن هذا المنطلق جاء التصنيف الاجتماعي لديهم. .

وفي مناقشة بين الأخنس وأبي جهل. بعد سماعهما القرآن من الرسول صلى الله عليه وسلم قال الأخنس: يا أبا الحكم، ما رأيك فيما سمعت من محمد؟ فقال: ماذا سمعت، تنازعنا نحن وبنو عبد مناف الشرف، أطعموا فأطعمنا، وحملوا فحملنا، وأعطوا فأعطينا، حتى إذا تحاذينا على الركب وكنا كفرسي رهان، قالوا: منا نبي يأتيه الوحي من السماء، فمتى ندرك مثل هذه؟ والله لا نؤمن به أبداً ولا      نصدقه (1).

إذن كان الدافع إلى التكذيب هو الارتباط القبلي. .

وكان على المسلم، وهو يعلن إسلامه، أن يشعر أن آصرة جديدة برزت في حياته ليرتبط مع الآخرين على أساسها هي آصرة العقيدة، إنه أصبح جزءاً من مجموعة "الذين آمنوا" التي يتحدث عنها القرآن. .

ومما زاد هذا الرابط وضوحاً، ذلك البلاء الذي صب على المؤمنين دفعة واحدة في البدء، ثم صب على كل من آمن بعد ذلك. وهكذا وجد المؤمنون أنفسهم في صف واحد يعاملون من منطلق واحد. وبسبب واحد هو إيمانهم وعقيدتهم.

وإذا كان الأهل والقرابة هم الذين يقومون على عمليات التعذيب والتنكيل، فقد كانت الحركة التلقائية هي الانحياز إلى المؤمنين وهكذا أخذت "الجماعة" دورها في ميدان الأحداث..

حين أسلم خالد بن سعيد بن العاص أنبه أبوه، وضربه بمقرعة حتى كسرها على رأسه، وقال: والله لامنعنك القوت، فقال خالد: إن منعتني فإن الله يرزقني ما أعيش به، وانصرف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فكان يكرمه، ويكون معه (2).

وهكذا حصلت المفاصلة بفعل الواقع العملي الذي واجهه المؤمنون من أهلهم وعشيرتهم، فابتعد الأبناء عن الآباء والأهل. .

جاء حصين - والد عمران - إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وأصحابه متوافرون وبينهم عمران، وفي ذلك المجلس أعلن حصين إسلامه، فلما أسلم قام إليه عمران فقبل رأسه ويديه ورجليه، فلما رأى ذلك النبي صلى الله عليه وسلم بكى، وقال: "بكيت من صنيع عمران، دخل حصين وهو كافر فلم يقم إليه عمران، ولم يلتفت ناحيته فلما أسلم قضى حقه فدخلني من ذلك الرأفة" (1).

على أن الإسلام قد تناول العلاقة بين الابن ووالديه الكافرين. وبين ضرورة الإحسان فيها، وذلك في ثلاث سور مكية هي الإسراء والعنكبوت ولقمان، ففي سورة العنكبوت جاء قوله تعالى:

{وَوَصَّيْنَا ٱلْإِنسَٰنَ بِوَٰلِدَيْهِ حُسْنًا ۖ وَإِن جَٰهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَآ ۚ . .} (2)

وفي سورة لقمان:

{وَإِن جَٰهَدَاكَ عَلَىٰٓ أَن تُشْرِكَ بِى مَا لَيْسَ لَكَ بِهِۦ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَا ۖ وَصَاحِبْهُمَا فِى ٱلدُّنْيَا مَعْرُوفًا ۖ } (3)

، ذلك واجب المسلم. ولكن ما ذنبه إذا كانا لا يرضيان إلا بكفره؟.

واستطاع الإسلام بتربيته الاجتماعية هذه أن يصل إلى مدى بعيد في ربط الفرد بالجماعة، بحيث لم يعد الفرد يتحسس آلام الآخرين بل يعيشها حقيقة وواقعاً. وهذا مستوى لم تصل إليه تربية أخرى على الإطلاق.

وعندما رجع عثمان بن مظعون من الهجرة الأولى إلى الحبشة دخل مكة في جوار الوليد بن المغيرة. فلما رأى إيذاء المشركين للمسلمين - وهو آمن - رد عليه جواره. . 

صعب على عثمان أن يتميز على إخوانه ممن هم تحت التعذيب، ووجد أن السياط التي تدمي الجلد وتمزقه أقل على نفسه مما يعانيه حينما يكون في العافية، إخوانه في الشدة. . إنها التربية التي جعلت من المسلمين جسداً واحداً. .


المراجع

  1. سيرة ابن هشام 1/ 316. البداية 3/ 32، 
  2. وقال في حياة الصحابة للكاندهلوي 1/ 43: هو عند ابن سعد 4/ 94 والحاكم 3/ 248.
  3. الإصابة لابن حجر 1/337.
  4. سورة العنكبوت: الآية 8.
  5. سورة لقمان: الآية15.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day