البحث
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
المؤاخاة بين المهاجرين والأنصار
لم تكن الهجرة محببة إلى نفوس المهاجرين، ولذلك احتاجت نفوسهم إلى إعداد مسبق، كما أوضحت ذلك في القسم الثاني من هذا الكتاب.
ومع ذلك لما وصل القوم إلى المدينة وأصابتهم فيها حمى يثرب، تذكروا مكة، وتجاوز هذا التذكر حديث النفس، ليكون كلاماً على اللسان، فهذا بلال بعد أن صحا من الحمى يرفع عقيرته وينشد:
ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بـواد وحــولي إذخـر وجليل
وهل أردن يـوماً ميـاه مجنـة وهل يبدون لي شامة وطفيل
وأخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك فقال: " اللَّهُمَّ حَبِّبْ إِلَيْنَا الْمَدِينَةَ كَحُبِّنَا مَكَّةَ أَوْ أَشَدَّ اللَّهُمَّ بَارِكْ لَنَا فِي صَاعِها وَفِي مُدِّها. ." (3).
وإزاء هذا الشعور النفسي بالغربة، والحنين إلى مكة، في نفوس أصحابه كان لا بد من عمل يخفف عنهم بعض هذه المعاناة فكانت المؤاخاة.
فقد آخى بين أصحابه صلى الله عليه وسلم ليذهب عنهم تلك الوحشة ويؤنسهم من مفارقة الأهل والعشيرة، وليشد بعضهم أزر بعض. . وهذا ما ألمح إليه صلى الله عليه وسلم بقوله مخاطباً الأنصار: "إن إخوانكم قد تركوا الأموال والأولاد وخرجوا إليكم" (1).
"ولئن كان الخط العريض للمؤاخاة، أنها بين المهاجرين من جانب، وبين الأنصار من جانب آخر، فإن هذا لم يمنع أن تكون بعض هذه الأخوة بين المهاجرين بعضهم مع بعضهم الآخر، ذلك أن الغاية من تعيين هذه الأخوة. هو تحديد المسؤولية في المواساة والنصرة والرفادة، وواضح أن بعض المهاجرين كان أحسن حالاً - من الناحية المادية - من بعضهم الآخر".
"وقد كان لهذه الأخوة أثرها البعيد حتى كان التوارث يقوم على أساسها دون القرابة، قال ابن عباس: (كان المهاجرون حين قدموا المدينة يرث الأنصاري المهاجري، دون ذوي رحمه، للأخوة التي آخى النبي صلى الله عليه وسلم بينهم. .) (2)، واستمر العمل كذلك حتى نزل قوله تعالى:
{وَأُولُوا ٱلْأَرْحَامِ بَعْضُهُمْ أَوْلَىٰ بِبَعْضٍۢ فِى كِتَٰبِ ٱللَّهِ ۗ }
(3) حيث رد الميراث إلى ذوي الأرحام وبقيت النصرى والرفادة" (4).
وقد ظل لهذه الأخوة أثرها في نفوس المؤمنين حتى آخر حياتهم، فقد أرسل عمر بن الخطاب إلى بلال - رضي الله عنهما - وكان مقيماً في الشام مجاهداً يسأله: إلى من تجعل ديوانك يا بلال؟ قال: مع أبي رويحة، لا أفارقه أبداً، للأخوة التي كان رسول الله صلى الله عليه وسلم عقد بيني وبينه" (5).
وإذا كان من شيء نذكره هنا فهو عظمة حكمة الرسول صلى الله عليه وسلم، فهو لم ينكر عليهم ذكر وطنهم الأول. وقد قال كلمته في ذلك (1)، ولكنه اتجه إلى الله تعالى يسأله أن يحبب إليهم المدينة، وفكر في إيجاد البديل فكانت "الاخوة".
وهي في بعض معانيها - في مطلع العهد المدني - تأكيد عملي للارتقاء بهذه الرابطة الإيمانية فوق جميع الروابط الأخرى بما فيها النسب، وهكذا يتحقق في واقع الحياة العملي المعنى الذي يسعى إليه هذا الدين.
المراجع
- سيرة ابن هشام 1/ 592.
- سورة الأنفال: الآية 75.
- أخرجه البخاري برقم 3926.
- أورده ابن كثير في تفسير الآية التاسعة من سورة الحشر.
- رواه البخاري في كتاب الفرائض.
- سورة الأنفال: الآية 75.
- عن كتاب (من معين السيرة) للمؤلف الطبعة الثالثة ص 177 - 179.
- سيرة ابن هشام 1/ 507.