1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. التربية الاقتصادية

التربية الاقتصادية

الكاتب : صالح أحمد الشامي

3التربية الاقتصادية

إن الإسلام لم يأت لينكر طبائع الناس وفطرتهم التي فطرهم الله عليها، وإنما أتى ليجعل هذه الفطرة متساوقة مع المنهج الإلهي الأمر الذي ينظم حياة الإنسان في شتى مجالاتها بحيث لا يطغى جانب على جانب.

والرسول الكريم صلى الله عليه وسلم ينبه إلى هذا حينما يقرر هذه الحقائق:

قال صلى الله عليه وسلم:

(لَوْ كَانَ لِابْنِ آدَمَ وَادِيَانِ مِنْ مَالٍ لَابْتَغَى ثَالِثًا وَلَا يَمْلَأُ جَوْفَ ابْنِ آدَمَ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ) (1).

وقال صلى الله عليه وسلم:

(يَهْرَمُ ابْنُ آدَمَ وَتَشِبُّ مِنْهُ اثْنَتَانِ الْحِرْصُ عَلَى الْمَالِ وَالْحِرْصُ عَلَى الْعُمُرِ) (2).

إنه التقرير للحقائق، وعدم الاعتراف بذلك جهل، ومحاولة إلغائها جهل أكبر، ولكن الإسلام جاء ليضبط مسارها ويوجهها لتؤدي دورها وفق منهج الله تعالى.

ونحن في هذه الدراسة لسنا بصدد وضع النظريات. . وإنما نحاول تسجيل الواقع من خلال الزمن الذي بيناه سابقا. . وبما أن التربية النبوية قد غطت جميع مسارب النفس، فلا بد من الحديث عن التربية الاقتصادية، وما نبحثه هنا وإن كان خطاً عاماً. . ولكني أقدر أن تربية النفوس عليه كانت في هذه المرحلة. وأستطيع أن ألخص المعالجة النبوية الكريمة بالنقاط التالية.

1- غنى النفس:

لا شك بأن كل إنسان حريص على زيادة أمواله وهو ما يعبر عنه بالغنى، وهذا الحرص كما مر في الحديث السابق غريزة قائمة في النفس الإنسانية، ويحرص الإسلام على تعديل هذا المعنى.

جاء في حديث أبي ذر رضي الله عنه قال:

"قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم يا أبا ذر،  أترى كثرة المال هو الغنى؟ قلت: نعم، قال: وترى قلة المال هو الفقر؟ قلت: نعم يا رسول الله. قال: إنما الغنى غنى القلب، والفقر فقر القلب" (3).

وهكذا يطرح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم معنى آخر للغنى غير ما تعارف عليه الناس، وهو لا يعني خطأ ما تعارف عليه الناس، وإنما ارتقى صلى الله عليه وسلم بمعنى الغنى إلى مقام أرفع.

وغنى القلب يعني عدم تقبل المال من كل سبيل، بل مما أحله الله تعالى، وعدم التطلع إلى ما في أيدي الناس، لأنه استغنى بما عنده وبما كتب له عند الله تعالى وقد سلك صلى الله عليه وسلم في تقرير هذا المعنى في نفوس أصحابه كل الطرق المجدية. .

عن عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ (أَعْطَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَوْمًا وَمَنَعَ آخَرِينَ فَكَأَنَّهُمْ عَتَبُوا عَلَيْهِ فَقَالَ "إِنِّي أُعْطِي قَوْمًا أَخَافُ ظَلَعَهُمْ (4) وَجَزَعَهُمْ وَأَكِلُ أَقْوَامًا إِلَى مَا جَعَلَ اللَّهُ فِي قُلُوبِهِمْ مِنْ الْخَيْرِ وَالْغِنَى مِنْهُمْ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ فَقَالَ عَمْرُو بْنُ تَغْلِبَ مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي بِكَلِمَةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حُمْرَ النَّعَمِ) (5).

ومن هذا المنطلق يصبح عدم العطاء هو المرغوب وهو الذي يسعى إليه. أرأيت كيف تعدل المعاني في الاتجاه الصحيح. . 

وفي سبيل استشعار الغنى حقيقة، يضع الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم الوسائل النفسية بين الأيدي حتى تكون في متناول الجميع في سبيل الوصول إلى المعنى المطلوب وهو "غنى النفس" فيقول:

"إذا نظر أحدكم إلى من فضل عليه في المال والخلق فلينظر إلى من هو أسفل منه ممن فضل عليه" (6)

وفي رواية: "انظروا إلى من أسفل منكم ولا تنظروا إلى من هو فوقكم، فهو أجدر أن لا تزدروا نعمة الله" (7).

وبهذا يشعر الإنسان بنعم الله عليه، وتعرض نفسه عن التطلع إلى ما في أيدي الناس، فيرتاح هو نفسياً في الدرجة الأولى، فلا يجد الحسد في نفسه مقراً له، وبالتالي يكون الناس سعداء به طالما أنه لا يتطلع إلى ما في أيديهم. .

وعندما تستكمل هذه المعاني في النفس تصل إلى درجة الغنى التي عناها النبي الكريم بقوله:

"لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ" (8).

2- العمل:

لا يتوفر للإنسان "غِنَى النَّفْسِ" إلا إذا استطاه الاستغناء عن حاجته إلى الآخرين، وهذا إنما يتوفر بإحدى وسيلتين أو بهما معاً. وسيلة نفسية وأخرى مادية:

أما النفسية فإن حديث أبي سعيد الخدري يرشدنا إليها.

قال رضي الله عنه:

(إِنَّ نَاسًا مِنْ الْأَنْصَارِ سَأَلُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ ثُمَّ سَأَلُوهُ فَأَعْطَاهُمْ حَتَّى نَفِدَ مَا عِنْدَهُ، فَقَالَ: "مَا يَكُونُ عِنْدِي مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ أَدَّخِرَهُ عَنْكُمْ وَمَنْ يَسْتَعْفِفْ يُعِفَّهُ اللَّهُ وَمَنْ يَسْتَغْنِ يُغْنِهِ اللَّهُ وَمَنْ يَتَصَبَّرْ يُصَبِّرْهُ اللَّهُ وَمَا أُعْطِيَ أَحَدٌ عَطَاءً خَيْرًا وَأَوْسَعَ مِنْ الصَّبْرِ" (9)).

هذه هي الوسائل النفسية: التعفف، الاستغناء، الصبر.

وأما الوسيلة المادية فهي الاستغناء عن الحاجة إلى الناس بالعمل. اياً كان هذا العمل طالما أنه فيما أحل الله تعالى. وفي هذا قضاء على المفهوم السائد لدى العرب قديماً وهو امتهان أصحاب الصنعات من حدادة ونجارة وحتى الزراعة. ولننظر إلى الحديث التالي وهو يخص على العمل.

قال صلى الله عليه وسلم:

"لأن يأخذ أحدكم حبله فيأتي بحزمة الحطب على ظهره، فيبيعها فيكف الله بها وجهه، خير له من أن يسأل الناس أعطوه أو منعوه" (10).

إن هذه المهنة البسيطة خير من المسألة. . وهو أمر لا يشك فيه عاقل، إن الحاجة إلى الناس أمر مذل وإذا كان الاحتطاب يغني عن ذلك فهو الخير كل الخير.

وتطبيقاً هذه المعاني عمل أهل مكة بالزراعة كما رأينا في صدد الحديث عن الزبير رضي الله عنه. وحملت أسماء بنت أبي بكر النوى على رأسها يومياً مسافة كبيرة.

_______________________

  • المراجع
  1. رواه مسلم برقم 1048.
  2. رواه مسلم برقم 1047.
  3. رواه ابن حبان. انظر فتح الباري 11/ 272.
  4. أي اعوجاجهم. وأصله: الميل، وأطلق هنا على مرض القلب وضعف اليقين.
  5. رواه البخاري برقم 3145.
  6. رواه البخاري برقم 6490 ومسلم برقم 2963.
  7. من رواية مسلم برقم 2963.
  8. رواه البخاري برقم 6446 ومسلم برقم 1051.
  9. رواه مسلم برقم 1048.
  10. رواه البخاري برقم 1471.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day