1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. جهر الصحابة بالدعوة

جهر الصحابة بالدعوة

الكاتب : صَالح أحمد الشامي

جهر الصحابة بالدعوة

بالنسبة للصحابة - رضي الله عنهم - هناك جهر بالإسلام، وهناك جهر بالدعوة، وما الجهر بالإسلام - في بدء هذه الفترة - إلا الدعوة القوية إليه بلسان الحال وهو أبلغ من لسان المقال.

وقد بينا في الفصل السابق أن أمر  الاستخفاء بالإسلام من قبل بعض الصحابة الأول قد انتهى مع إسلام عمر وهذا لا يعني أن الصحابة لم يظهروا إسلامهم حتى ذلك الوقت، بل إن القلة هي التي ظلت مستترة بإسلامها حتى ذلك الوقت.

إن عمليات التعذيب التي نظمت ضد المسلمين قد بدأت بعد بدء الدعوة بقليل. . وما تلقي العذاب والصبر عليه إلا الإعلان القوي عن هذا الجهر.

ولما اشتد البلاء. . وجه الرسول صلى الله عليه وسلم وأصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة. . وكانت هذه الهجرة الإعلان الثاني عن الانتماء القوي لهذا الدين,

ثم كان إسلام عمر بعد إسلام حمزة رضي الله عنهما الدافع القوي لاستعلام اللقية الباقية ممن لم يظهر إسلامه حتى ذلك الوقت (1).

لا شك بأن هذه الأساليب - التعذيب. . الهجرة - في الإعلان عن الإسلام كانت من القوة بحيث تصل إلى قلوب المشركين فتضعهم أمام سؤال مهم هو: ما هو هذا الدين الذي يتحمل معتنقوه كل هذا الابتلاء في سبيله، بل ويغادرون وطنهم من أجله. .؟ وكفى بهذا من جهر عملي بالإسلام، دعوة إلى هذا الدين

وما من شك في أن المسلمين الأوائل قاموا بدور فعال في الدعوة إلى هذا الدين، فهذا أبو بكر رضي الله عنه يدعو عثمان بن عفان، والزبير بن العوام، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص وطلحة بن عبيد الله، فلما استجابوا له جاء بهم إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث أعلنوا إسلامهم. .

ولقد كانت الدعوة مهمة كل مسلم. . فكان الواحد منهم إذا توسم الخير في إنسان دعاه إلى الإسلام فإن استجاب وجهه إلى دار الأرقم حيث يلتقي بالرسول صلى الله عليه وسلم وقد رأينا كيف التقى عما وصهيب على باب دار الأرقم دون موعد، وسأل كل منهما الآخر عن سبب مجيئه. . ونسأل: كيف عرف كل منهما مكان الرسول الكريم لولا أن الذين دعوهما اعلموهما بذلك.

على أن الدعوة من الصحابة لم تبق في هذه الحدود الفردية، ولكنها تجاوزت ذلك لتدخل دور الدعوة العامة. ونكتفي بمثالين على ذلك. 

قال ابن إسحاق وحدثني يحيى بن عروة بن الزبير عن أبيه قال: كان أول من جهر بالقرآن بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة عبدالله بن مسعود رضي الله عنه، قال: اجتمع يوماً أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: والله ما سمعت قريش هذا القرآن يجهر لها به قط (1)، فمن رجل يسمعهموه؟ فقال عبدالله بن مسعود: أنا، قالوا: إنا نخشاهم عليك، إنما نريد رجلاً له عشيرة يمنعونه من القوم إن أرادوه، قال: دعوني فإن الله سيمنعني. قال: فغدا ابن مسعود حتى أتى المقام في الضحى، وقريش في أنديتها، حتى قام عند المقام، ثم قرأ

{بسْمِ ٱللَّهِ ٱلرَّحْمَٰنِ ٱلرَّحِيمِ}

رافعاً بها صوته

{ٱلرَّحْمَٰنُ عَلَّمَ ٱلْقُرْءَانَ..}

قال: ثم استقبلها يقرؤها. قال: فتأملوه، فجعلوا يقولون: ماذا قال ابن أم عبد؟ قال: ثم قالوا: إنه ليتلو بعض ما جاء به محمد، فقاموا إليه، فجعلوه يضربون في وجهه، وجعل يقرأ حتى بلغ منها ما شاء الله أن يبلغ، ثم انصرف إلى أصحابه، وقد أثروا في وجهه، فقالوا له: هذا الذي خشينا عليك، فقال: ما كان أعداء الله أهون علي منهم 

الآن، ولئن شئتم لأغادينهم بمثلها غداً، قالوا: لا، حسبك، قد أسمعتم ما يكرهون (1)

جاء في البداية: عن القاسم بن محمد عن عائشة قالت: لما اجتمع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وكانوا ثمانية وثلاثين رجلاً ألح أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم في الظهور، فقال: "يا أبا بكر إنا قليل"، فلم يزل أبو بكر يلح حتى ظهر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وتفرق المسلمون في نواحي المسجد، كل رجل في عشيرته، وقام أبو بكر في الناس خطيباً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم جالس، فكان أول خطيب دعا إلى الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وثار المشركون على أبي بكر وعلى المسلمين. . (2).

حدث هذا والمسلمون ما زالوا في دار الأرقم.

نستطيع القول بأنه بعد الخروج من دار الأرقم، قد أصبح للمسلمين في مكة وجودهم الظاهر، وأصبح عددهم لا بأس به، الأمر الذي وحدت فيه قريش خطراً على كيانها، فصعدت من عمليات الإيذاء. .

وهذا ما دعا النبي صلى الله عليه وسلم إلى توجيه أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة للمرة الثانية. . وكان عدد المهاجرين كبيراً، كان عدد الرجال يزيد على الثمانين وبلغ عدد النساء ثماني عشر امرأة. .

وعلى الرغم من قلة الذين لم يهاجروا إلى الحبشة في المرة الثانية، فإن الأخبار تبين الوجود الظاهر للمسلمين في مكة، وإصرارهم على ممارسة حياتهم بشكل صحيح، يملأ نفوسهم إرادة قوية وإيمان صادق يجعلهم لا يكترثون بالضغوط مهما كان حجمها.

فهذا أبو بكر يرد جوار ابن الدغنة الذي أجاره حين أراد الخروج إلى الحبشة، يرده لأن قريشاً أرادت منعه من جهره بتلاوة القرآن الكريم في المسجد ابتناه في بيته لنفسه.

وهذا عثمان بن مظعون - بعد عودته من الحبشة - يرد جوار الوليد بن المغيرة مكتفياً بجوار الله تعالى

ولم تعد لقريش الهيبة التي كانت من قبل وانحسر الخوف من نفوس المسلمين وتدربوا على تحمل الآلام. .

وبات المسلمون يلتقون بالنبي الكريم في كل وقت، وفي المسجد الحرام، وعلى رؤوس الأشهاد.

فهذا خباب بن الأرت يأتي إلى الرسول صلى الله عليه وسلم - كما في البخاري - وهو متوسد في ظل الكعبة، يطلب منه الدعاء، بعد أن لقي هو والمسلمون الشدة من المشركين. . (1).

وأصبحت لقاءات النبي الكريم بأصحابه علنية، وقد سجل القرآن واحداًمنها، وما هو إلا مثل للواقع الاجتماعي يومئذ، وأن المسلمين يجتمعون وفي وضح النهار.

قال تعالى:

{وَأَنذِرْ بِهِ ٱلَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُوٓا إِلَىٰ رَبِّهِمْ ۙ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِۦ وَلِىٌّ وَلَا شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ وَلَا تَطْرُدِ ٱلَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِٱلْغَدَوٰةِ وَٱلْعَشِىِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُۥ ۖ مَا عَلَيْكَ مِنْ حِسَابِهِم مِّن شَىْءٍۢ وَمَا مِنْ حِسَابِكَ عَلَيْهِم مِّن شَىْءٍۢ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ ٱلظَّٰلِمِينَ} (2).

وروى مسلم عن سعد بن أبي وقاص قال:

(كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ سِتَّةَ نَفَرٍ فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اطْرُدْ هَؤُلَاءِ لَا يَجْتَرِئُونَ عَلَيْنَا قَالَ وَكُنْتُ أَنَا وَابْنُ مَسْعُودٍ وَرَجُلٌ مِنْ هُذَيْلٍ وَبِلَالٌ وَرَجُلَانِ لَسْتُ أُسَمِّيهِمَا فَوَقَعَ فِي نَفْسِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ يَقَعَ فَحَدَّثَ نَفْسَهُ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ {وَلَا تَطْرُدْ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ       وَجْهَهُ}) (1).

وهكذا نجد أن ستة نفر من المسلمين يجتمعون بالنبي الكريم على مرأى ومسمع من قريش. .(2).

تلك هي الخطوط العريضة لسير الدعوة في مكة حتى بدء الهجرة إلى المدينة.


المراجع

  1. قال عبدالله بن مسعود: ما كنا نقدر أن نصلي عند الكعبة حتى أسلم عمر، فلما أسلم قاتل قريشاً حتى صلى عند الكعبة وصلينا معه [سيرة ابن هشام 1/ 342 ورواه ابن أبي شيبة والطبراني كما في شرح الزرقاني على المواهب 1/ 277].
  2. أي من غير الرسول صلى الله عليه وسلم.
  3. سيرة ابن هشام 1/ 314 - 315.
  4. البداية والنهاية 3/ 30.
  5.  روى البخاري برقم 3612 عن خباب بن الأرت قال: (شكونا إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم - وهو متوسد بردة له في ظل الكعبة - قلنا له: ألا تستنصر لنا، ألا تدعو الله لنا؟ قال: "كان الرجل فيمن قبلكم يحفر له في الأرض فيجعل فيه، فيجاء بالميشار فيوضع على رأسه فيشق باثنتين، وما يصده ذلك عن دينه، ويمشط بأمشاك الحديد ما دون لحمه من عظم أو عصب وما يصده ذلك عن دينه. والله ليتمن هذا الأمر حتى يسير الراكب من صنعاء إلى حضرموت لا يخاف إلا الله، أو الذئب على غنمه، ولكنكم تستعجلون").
  6. سورة الأنعام: الآيتان 51- 52.
  7. صحيح الإمام مسلم، رقم الحديث2413
  8. كان هذا الحادث بعد عودة ابن مسعود من الهجرة الثانية إلى الحبشة، حين عاد ثلاثة وثلاثون صحابياُ إلى مكة حين سمعوا بمهاجره صلى الله عليه وسلم إلى المدينة [انظر تحقيق ذلك في كتاب (نظرات في دراسة السيرة) للمؤلف].
المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day