البحث
التربية الأخلاقية
2التربية الأخلاقية
لا شك بأن مكانة النظام الخلقي هي في الذروة بين أنظمة الإسلام الأخرى، فهي كلها تصب فيه، وهو غايتها، ولذا لما سُئِلَتْ عَائِشَةُ عَنْ خُلُقِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ: (كَانَ خُلُقُهُ الْقُرْآنَ) (1). وليس من مهمتنا هنا تتبع كل ما ورد في ذلك، إنما الغاية هي إلقاء الضوء على الأحداث الأخلاقية المهمة في هذه المرحلة.
لقد كانت أهم قضية خلقية شغلت المدينة شهراً كاملاً هي ما عرف "بحديث الإفك" ونحاول أن نلخص القصة من حديث عائشة رضي الله عنها:
(قَالَتْ كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا أَرَادَ أَنْ يَخْرُجَ سَفَرًا أَقْرَعَ بَيْنَ أَزْوَاجِهِ فَأَيَّتُهُنَّ خَرَجَ سَهْمُهَا خَرَجَ بِهَا مَعَهُ فَأَقْرَعَ بَيْنَنَا فِي غَزَاةٍ غَزَاهَا فَخَرَجَ سَهْمِي فَخَرَجْتُ مَعَهُ بَعْدَ مَا أُنْزِلَ الْحِجَابُ. فَأَنَا أُحْمَلُ فِي هَوْدَجٍ وَأُنْزَلُ فِيهِ فَسِرْنَا حَتَّى إِذَا فَرَغَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ غَزْوَتِهِ تِلْكَ وَقَفَلَ وَدَنَوْنَا مِنْ الْمَدِينَةِ آذَنَ لَيْلَةً بِالرَّحِيلِ فَقُمْتُ حِينَ آذَنُوا بِالرَّحِيلِ فَمَشَيْتُ حَتَّى جَاوَزْتُ الْجَيْشَ فَلَمَّا قَضَيْتُ شَأْنِي أَقْبَلْتُ إِلَى الرَّحْلِ فَلَمَسْتُ صَدْرِي فَإِذَا عِقْدي قَدْ انْقَطَعَ، فَرَجَعْتُ فَالْتَمَسْتُ عِقْدِي فَحَبَسَنِي ابْتِغَاؤُهُ).
(فَأَقْبَلَ الرهط الَّذِينَ يَرْحَلُونَ لِي فَاحْتَمَلُوا هَوْدَجِي فَرَحَلُوهُ عَلَى بَعِيرِي الَّذِي كُنْتُ أَرْكَبُ وَهُمْ يَحْسِبُونَ أَنِّي فِيهِ وَكَانَ النِّسَاءُ إِذْ ذَاكَ خِفَافًا. . فَلَمْ يَسْتَنْكِرْ الْقَوْمُ ثِقَلَ الْهَوْدَجِ وَكُنْتُ جَارِيَةً حَدِيثَةَ السِّنِّ فَبَعَثُوا الْجَمَلَ وَسَارُوا).
(فَوَجَدْتُ عِقْدِي بَعْدَ مَا اسْتَمَرَّ الْجَيْشُ فَجِئْتُ مَنْزِلَهُمْ وَلَيْسَ بها داه ولا مجيب فَأَمَمْتُ مَنْزِلِي (2) الَّذِي كُنْتُ بِهِ فَظَنَنْتُ أَنَّهُمْ سَيَفْقِدُونَنِي فَيَرْجِعُونَ إِلَيَّ فَبَيْنَا أَنَا جَالِسَةٌ غَلَبَتْنِي عَيْنَايَ فَنِمْتُ وَكَانَ صَفْوَانُ بْنُ الْمُعَطَّلِ السُّلَمِيُّ قد عرس (3) مِنْ وَرَاءِ الْجَيْشِ فََادَّلَجَ (4) فَاصْبَحَ عِنْدَ مَنْزِلِي فَرَأَى سَوَادَ إِنْسَانٍ نَائِمٍ فَأَتَانِي فعرفني. . وقد كَانَ يَرَانِي قَبْلَ أن يضرب الْحِجَابِ علي، فَاسْتَيْقَظْتُ بِاسْتِرْجَاعِهِ (5) حِينَ عرفني) .
(فَخَمَّرْتُ وَجْهِي بِجِلْبَابِي وَوَاللَّهِ مَا يُكَلِّمُنِي كَلِمَةً وَلَا سَمِعْتُ مِنْهُ كَلِمَةً غَيْرَ اسْتِرْجَاعِهِ حَتَّى أَنَاخَ رَاحِلَتَهُ فَوَطِئَ عَلَى يَدِهَا فَرَكِبْتُهَا فَانْطَلَقَ يَقُودُ بِيَ الرَّاحِلَةَ حَتَّى أَتَيْنَا الْجَيْشَ بَعْدَ مَا نَزَلُوا مُوغِرِينَ فِي نَحْرِ الظَّهِيرَةِ فَهَلَكَ مَنْ هَلَكَ فِي شَأْنِي وَكَانَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أُبَيٍّ ابْنُ سَلُولَ فَقَدِمْنَا الْمَدِينَةَ).
(فَاشْتَكَيْتُ حِينَ قَدِمْنَا الْمَدِينَةَ شَهْرًا وَالنَّاسُ يُفِيضُونَ فِي قَوْلِ أَهْلِ الْإِفْكِ وَلَا أَشْعُرُ بِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَرِيبُنِي فِي وَجَعِي أَنِّي لَا أَعْرِفُ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اللُّطْفَ الَّذِي كُنْتُ أَرَى مِنْهُ حِينَ أَشْتَكِي إِنَّمَا يَدْخُلُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَيُسَلِّمُ ثُمَّ يَقُولُ كَيْفَ تِيكُمْ فَذَاكَ يَرِيبُنِي وَلَا أَشْعُرُ بِالشَّرِّ.. ).
وعرفت عائشة الخبر بعد ذلك، فازداد مرضها واستأذنت أن تذهب إلى بيت أبيها لتتأكد من الخبر. . وذهبت.
واستشار صلى الله عليه وسلم علي بن أبي طالب وأسامة بن زيد قالت: (فأما أسامة فَأَشَارَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالَّذِي يَعْلَمُ مِنْ بَرَاءَةِ أَهْلِهِ وَبِالَّذِي يَعْلَمُ فِي نَفْسِهِ لَهُمْ مِنْ الْوُدِّ فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ هُمْ أَهْلُكَ وَلَا نَعْلَمُ إِلَّا خَيْرًا وَأَمَّا عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ فَقَالَ لَمْ يُضَيِّقْ اللَّهُ عَلَيْكَ وَالنِّسَاءُ سِوَاهَا كَثِيرٌ..).
(قَالَتْ: فَقَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى الْمِنْبَرِ فقال
: يَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ مَنْ يَعْذِرُنِي مِنْ رَجُلٍ قَدْ بَلَغَ أَذَاهُ فِي أَهْلِ بَيْتِي فَوَاللَّهِ مَا عَلِمْتُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا خَيْرًا وَلَقَدْ ذَكَرُوا رَجُلًا مَا عَلِمْتُ عَلَيْهِ إِلَّا خَيْرًا وَمَا كَانَ يَدْخُلُ عَلَى أَهْلِي إِلَّا مَعِي).
(فَقَامَ سَعْدُ بْنُ مُعَاذٍ الْأَنْصَارِيُّ (6) فَقَالَ أَنَا أَعْذِرُكَ مِنْهُ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنْ كَانَ مِنْ الْأَوْسِ ضَرَبْنَا عُنُقَهُ وَإِنْ كَانَ مِنْ إِخْوَانِنَا الْخَزْرَجِ أَمَرْتَنَا فَفَعَلْنَا أَمْرَكَ).
(قَالَتْ: فَقَامَ سَعْدُ بْنُ عُبَادَةَ وَهُوَ سَيِّدُ الْخَزْرَجِ وَكَانَ رَجُلًا صَالِحًا وَلَكِنْ اجْتَهَلَتْهُ الْحَمِيَّةُ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَا تَقْتُلُهُ وَلَا تَقْدِرُ عَلَى قَتْلِهِ فَقَامَ أُسَيْدُ بْنُ حُضَيْرٍ وَهُوَ ابْنُ عَمِّ سَعْدِ بْنِ مُعَاذٍ فَقَالَ لِسَعْدِ بْنِ عُبَادَةَ كَذَبْتَ لَعَمْرُ اللَّهِ لَنَقْتُلَنَّهُ فَإِنَّكَ مُنَافِقٌ تُجَادِلُ عَنْ الْمُنَافِقِينَ
فَثَارَ الْحَيَّانِ الْأَوْسُ وَالْخَزْرَجُ حَتَّى هَمُّوا أَنْ يَقْتَتِلُوا وَرَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَائِمٌ عَلَى الْمِنْبَرِ فَلَمْ يَزَلْ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ
يُخَفِّضُهُمْ حَتَّى سَكَتُوا وَسَكَتَ).واستمرت عائشة في بكائها يوماً وليلة. . ثم دخل عليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(قَالَتْ فَسَلَّمَ ثُمَّ جَلَسَ قَالَتْ وَلَمْ يَجْلِسْ عِنْدِي مُنْذُ قِيلَ لِي مَا قِيلَ وَقَدْ لَبِثَ شَهْرًا لَا يُوحَى إِلَيْهِ فِي شَأْنِي بِشَيْءٍ).
قَالَتْ: فَتَشَهَّدَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حِينَ جَلَسَ ثُمَّ قَالَ:
"أَمَّا بَعْدُ" يَا عَائِشَةُ فَإِنَّهُ قَدْ بَلَغَنِي عَنْكِ كَذَا وَكَذَا فَإِنْ كُنْتِ بَرِيئَةً فَسَيُبَرِّئُكِ اللَّهُ وَإِنْ كُنْتِ أَلْمَمْتِ بِذَنْبٍ فَاسْتَغْفِرِي اللَّهَ وَتُوبِي إِلَيْهِ فَإِنَّ الْعَبْدَ إِذَا اعْتَرَفَ بِذَنْبٍ ثُمَّ تَابَ تَابَ اللَّهُ عَلَيْهِ.
(قَالَتْ فَلَمَّا قَضَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَقَالَتَهُ قَلَصَ دَمْعِي حَتَّى مَا أُحِسُّ مِنْهُ قَطْرَةً فَقُلْتُ لِأَبِي أَجِبْ عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِيمَا قَالَ فَقَالَ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ لِأُمِّي أَجِيبِي عَنِّي رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ وَاللَّهِ مَا أَدْرِي مَا أَقُولُ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقُلْتُ وَأَنَا جَارِيَةٌ حَدِيثَةُ السِّنِّ لَا أَقْرَأُ كَثِيرًا مِنْ الْقُرْآنِ إِنِّي وَاللَّهِ لَقَدْ عَرَفْتُ أَنَّكُمْ قَدْ سَمِعْتُمْ بِهَذَا حَتَّى اسْتَقَرَّ فِي نُفُوسِكُمْ وَصَدَّقْتُمْ بِهِ فَإِنْ قُلْتُ لَكُمْ إِنِّي بَرِيئَةٌ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَا تُصَدِّقُونِي بِذَلِكَ وَلَئِنْ اعْتَرَفْتُ لَكُمْ بِأَمْرٍ وَاللَّهُ يَعْلَمُ أَنِّي بَرِيئَةٌ لَتُصَدِّقُونَنِي وَإِنِّي وَاللَّهِ مَا أَجِدُ لِي وَلَكُمْ مَثَلًا إِلَّا كَمَا قَالَ أَبُو يُوسُفَ {فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ}).
(قَالَتْ: ثُمَّ تَحَوَّلْتُ فَاضْطَجَعْتُ عَلَى فِرَاشِي.. فَوَاللَّهِ مَا رَامَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مَجْلِسَهُ. . أُنْزِلَ عَلَيْهِ قَالَتْ فَلَمَّا سُرِّيَ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَهُوَ يَضْحَكُ فَكَانَ أَوَّلَ كَلِمَةٍ تَكَلَّمَ بِهَا أَنْ قَالَ: "أَبْشِرِي يَا عَائِشَةُ أَمَّا اللَّهُ فَقَدْ بَرَّأَكِ".
فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ:
{إِنَّ الَّذِينَ جَاءُوا بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ}
عَشْرَ آيَاتٍ فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ هَؤُلَاءِ الْآيَاتِ بَرَاءَتِي.. ) (7).
هذا معظم رواية عائشة رضي الله عنها أثبتناها لأنها تبين الأجواء والملابسات التي وقعت فيها الحادثة، والحجم الذي أخذته من تفكير النبي صلى الله عليه وسلم وتفكير المؤمنين وما نتج من لغط وإفط طبل له المنافقون ووقع فيه بعض المؤمنين عن غفلة منهم. .
والذي نحب أن نلفت النظر إليه أن هذه الحادثة وقعت في شعبان من السنة السادسة للهجرة، أي قبل نهاية هذه المرحلة التي نتحدث عنها بستة أشهر. ولذا فهي تستوقفنا لأمور عدة:
1- دور النفاق: هذه الحادثة كلها من إخراج عبدالله بن أبي ابن سلول. . وهذا يبين لنا كم عانى المجتمع الإسلامي في عهد النبوة من آثار النفاق على جميع الجبهات، الداخلية والخارجية، العسكرية. . والأخلاقية. .
وكان صلى الله عليه وسلم يصبر ويصبِّر أصحابه، لأن غير المسلمين ينظرون إلى المنافقين على أنهم مسلمون، فالإساءة إليهم ربما كانت عائقاً في انتشار الدعوة ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لعمر عندما اقترح قتل ابن أبي: كيف بك إذا قيل إن محمداً يقتل أصحابه؟
2- التربية والوقت: ها هي خمس سنوات مضت والرسول صلى الله عليه وسلم بين أظهر القوم ومع ذلك لم يمنع هذا رجلاً فاضلاً مثل سعد بن عبادة أن تأخذه الحمية الجاهلية، ليس وحده، وإنما انضم إليه قومه، وهذا يعني أن التربية تحتاج إلى وقت كبير، ولا تكون إلا شيئاً فشيئاً، فليست هي محاضرة تلقى وتنهي المهمة، بل هي ممارسة لعملية التغيير من داخل النفوس. . وإن هذا ليضع بين أيدينا حجم الجهد الذي بذله الرسول صلى الله عليه وسلم في صياغة هذه النفوس وفق منهج الإسلام.
3- عصبة النفاق: وتبين الآيات أن الذي تولى كبر هذه الفرية هو عبدالله بن أبي بن سلول، ولكنه محاط بعصبة تتعاون معه وتنفذ له ما يريد، وقد انساق في ظل ضوضاء هذه الفرية أناس من المؤمنين هم: حسان بن ثابت، ومسطح بن أثاثه، وحمنة بنت جحش. .
ولهذا عندما نزلت الآيات الكريمة لم يثبت على عبدالله بن أبي بن سلول المشاركة في الحديث هو ولا أتباعه، ولذلك لم يحدوا، بينما حد المؤمنون الذين تابوا ورجعوا إلى الله تعالى وهم: حسان ومسطح وحمنة.
وهكذا يقوم النفاق بدوره في الظلام دون أن يظهر على السطح، وكان على المؤمنين أن يكونوا أكثر تنبهاً وحذراً.
ونعود بعد هذا إلى نص الآيات الكريمة التي نزلت ببراءة عائشة، وفيها التوجيه القرآني الكريم.
قال تعالى:
{إِنَّ ٱلَّذِينَ جَآءُو بِٱلْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِّنكُمْ ۚ لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَّكُم ۖ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ ۚ لِكُلِّ ٱمْرِئٍۢ مِّنْهُم مَّا ٱكْتَسَبَ مِنَ ٱلْإِثْمِ ۚ وَٱلَّذِى تَوَلَّىٰ كِبْرَهُۥ مِنْهُمْ لَهُۥ عَذَابٌ عَظِيمٌ لَّوْلَآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ ٱلْمُؤْمِنُونَ وَٱلْمُؤْمِنَٰتُ بِأَنفُسِهِمْ خَيْرًا وَقَالُوا هَٰذَآ إِفْكٌ مُّبِينٌ لَّوْلَا جَآءُو عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَدَآءَ ۚ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِٱلشُّهَدَآءِ فَأُولَٰٓئِكَ عِندَ ٱللَّهِ هُمُ ٱلْكَٰذِبُونَ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْأَخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِى مَآ أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذَابٌ عَظِيمٌ إِذْ تَلَقَّوْنَهُۥ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُم مَّا لَيْسَ لَكُم بِهِۦ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُۥ هَيِّنًا وَهُوَ عِندَ ٱللَّهِ عَظِيمٌ وَلَوْلَآ إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُم مَّا يَكُونُ لَنَآ أَن نَّتَكَلَّمَ بِهَٰذَا سُبْحَٰنَكَ هَٰذَا بُهْتَٰنٌ عَظِيمٌ يَعِظُكُمُ ٱللَّهُ أَن تَعُودُوا لِمِثْلِهِۦٓ أَبَدًا إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ وَيُبَيِّنُ ٱللَّهُ لَكُمُ ٱلْءَايَٰتِ ۚ وَٱللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ ٱلْفَٰحِشَةُ فِى ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِى ٱلدُّنْيَا وَٱلْأَخِرَةِ ۚ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لَا تَعْلَمُونَ وَلَوْلَا فَضْلُ ٱللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُۥ وَأَنَّ ٱللَّهَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ }
[النور: الآيات: 11- 20].
وكما هو واضح فالآيات الكريمة تبين أشياء كثيرة منها:
1- براءة السيدة عائشة رضي الله عنها.
2- إثم الذين خاضوا في هذا الإفك.
3- العتب على المؤمنين وبيان الموقف الذي كان ينبغي أن يتخذ من قبلهم. . وهو أن يظنوا بأنفسهم الخير، وهو الأمر الذي فعله بعضهم مثل أبي أيوب الأنصاري، حيث قالت له امرأته أم أيوب: أما تسمع ما يقول الناس في عائشة؟ قال: نعم وذلك الكذب، أكنت فاعلة ذلك يا أم أيوب؟ قالت: لا والله ما كنت لأفعله. قال: فعائشة - والله - خير منك.
4- عظم الخوض في مثل هذا الأمر في المجتمع الإسلامي، وأنه من رحمة الله وفضله أن عفا عنهم، ولولا ذلك لمسهم عذاب عظيم في الدنيا والآخرة.
5- ثم بينت الآيات كيف خاضوا في أمر لا علم لهم به. وأنهم حسبوا أن ذلك أمراً هينا، ووبين لهم أنه ليس كذلك وأنه عظيم عند الله تعالى.
6- وعتب آخر، أنه كان ينبغي ألا يخوضوا في ذلك الحديث وأن يعلموا أنه بهتان عظيم.
7- التحذير من أن يحدث هذا في المجتمع الإسلامي مرة أخرى.
8- بيان عظم عقوبة الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا.
9- ثم التأكيد على أن عملهم كان يستحق العقوبة للجميع ولكن برحمة من الله تعالى عُفي عنهم.
وهكذا تبين الآيات عظم حرمة البيوت، وعظم جريمة الخوض بأعراض الناس وأن الإنسان مسؤول أمام الله عن ذلك، وأن الموقف السليم للمؤمن أن يحمي سمعه عن سماع هذه الأمور. . ثم لم تكتف الآيات بالحديث عن العقوبة الأخروية فقد جاءت الآيات الأخرى في أول السورة لتسجل عقوبة القذف بالدنيا إضافة إلى عقوبة الآخرة.
وبهذا تصان الأعراض، ويتعلم المسلمون السلوك الذي ينبغي أن يكون تجاه مثل هذه الأحداث من صون السمع واللسان. .
وهناك أمر آخر يتعلق بالتربية الأخلاقية في الحادثة نفسها: وهو أن أبا بكر رضي الله عنه كان ينفق على مسطح بن أثاثة لقرابته منه وفقره، فلما نزلت براءة عائشة حلف ألا ينفق عليه أبداً، وذلك بسبب خوضه بهذا الحديث
فأنزل الله تعالى:
{وَلَا يَأْتَلِ أُولُوا ٱلْفَضْلِ مِنكُمْ وَٱلسَّعَةِ أَن يُؤْتُوٓا أُولِى ٱلْقُرْبَىٰ وَٱلْمَسَٰكِينَ وَٱلْمُهَٰجِرِينَ فِى سَبِيلِ ٱللَّهِ ۖ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوٓا ۗ أَلَا تُحِبُّونَ أَن يَغْفِرَ ٱللَّهُ لَكُمْ ۗ وَٱللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}
سورة النور: الآية 22
فقال أبو بكر: والله إني لأحب أن يغفر الله لي فرجع إلى مسطح بالنفقة التي كان ينفق عليه، وقال: لا أنزعها منه أبداً.
وهذا يوجه القرآن الكريم إلى عمل الخير ابتغاء وجه الله تعالى بعيداً عن كل النزعات النفسية، حتى وإن كان لها ما يبررها. . وهكذا يرتقي العمل ليصبح خالصاً لوجه الله تعالى.
المراجع
- أخرجه مسلم برقم 746.
- أي قصدته.
- النزول آخر الليل في السفر.
- هو السير آخر الليل.
- أي قوله: إنا لله وإنا إليه راجعون.
- في غير رواية البخاري ومسلم، الذي قام هو أسيد بن حضير لأن سعد بن معاذ كان قد توفي عقب غزوة الخندق. انظر التفصيل في ذلك فتح الباري 8/ 455 وما بعدها.
- رواه البخاري برقم 4750 ومسلم برقم 2770 واللفظ له.