البحث
كنز القلوب في زمن اكتناز الجيوب
البديل النبوي عن كنوز الأرض: قراءة في حديث "فاكْنِز هؤلاء الكلمات"
"من اكتناز المال إلى اكتناز المعنى... حين يعلّمك النبي ﷺ كيف تغتني بالله"
في زمنٍ يُقاس فيه النجاحُ بعدد الأصفار في الحساب، وتُوزن فيه القلوبُ ببطاقات الائتمان، يقف هذا الحديث النبوي كمنارةٍ تعيد ترتيب الموازين.
الناس تلهث وراء كنوز الأرض، والرسول ﷺ يوجّهك إلى كنزٍ من السماء، لا يصدأ، ولا يُنهب، ولا يفقد قيمته عند انهيار الأسواق.
حين ترى الجميع يكتنزون الذهب والفضة، كُن أنت المختلف... اكْنِز ما يخلّد لا ما يفنى، وما يُصلح القلب لا ما يُثقله.
اكْنِز كلماتٍ تزرع فيك ثباتًا عند الفتن، ورشدًا عند الحيرة، وشكرًا عند النعمة، وصدقًا عند المعاملة، وسلامةً عند التقلّبات.
إنه ليس دعاءً عابرًا... بل منهجُ نجاةٍ روحيٍّ في زمنٍ صاخبٍ بالأسعار والعروض.
دعاءٌ يجعل المال في يدك لا في قلبك، ويُذكّرك أنَّ الغنى الحقيقي ليس أن تملك أكثر... بل أن تحتاج أقل، وأن تثق بالله أكثر.
قال رسول الله ﷺ:
"إذا رأيت الناس يكتنزون الذهب والفضة، فاكْنِز هؤلاء الكلمات: اللهم إني أسألك الثبات في الأمر، والعزيمة على الرُّشْدِ، وأسألك شكرَ نعمتك، وحُسنَ عبادتك، وأسألك قلبًا سليمًا، ولسانًا صادقًا، وأسألك من خير ما تعلم، وأعوذُ بك من شرِّ ما تعلم، وأستغفرُك لما تعلم، إنك أنت علَّامُ الغيوب".
المصدر: السلسلة الصحيحة (3228).
كأنَّ النبي ﷺ يقول:
إذا تحوّل المالُ إلى قبلةِ القلوب، فاجعل قبلةَ قلبك هذه المطالب العظمى؛ فهذا هو الكنز الذي لا يُفتَن صاحبُه بالذهب ولا يبيع دينه لأجل الفضة.
والسؤال الآن: لماذا جاء الدعاء مع مشهد "الكنز"؟
الاكتناز ليس حيازةَ مالٍ فقط، بل حُبّه والاطمئنان إليه... والفتنة هنا داخلية:
1-خوفٌ من الفقر
2- طمعٌ في الزيادة،
3- تنافسٌ يورث الحسد والرياء والغلظة.
فجاء الدعاء يُرمّم الداخل:
1- يثبت القلب، يرشده،
2- يشغله بشكرٍ وعبادة،
3-يطهّره بقلبٍ سليم ولسانٍ صادق،
4- ثم يضعه تحت مظلة عِلمِ الله: يطلب خير ما يعلم ويستعيذ من شر ما يعلم، ثم يستغفر من التقصير.
إنه سياجٌ روحيٌّ شامل ضد أمراض المال: قبل أن تغيّر ما في جيبك، غيّر ما في قلبك ولسانك.
• سِرُّ الافتتاح بـ "الثّبات في الأمر"
لم يبدأ النبي ﷺ هذا الدعاء بطلب الرزق، ولا بالنجاح، ولا بالفرج، بل بدأه بما هو أصل كل ذلك: الثبات.
لأنّ أول ما ينهار حين تشتدّ فتنة المال ليس الجيب... بل القلب.
وحين تهتزّ الأرض من تحت أقدام الناس بأسعارٍ مضطربة وأسواقٍ متقلّبة، يحتاج المؤمن إلى جذورٍ لا إلى جناحين.
الثبات إذًا هو أن تبقى متّصلًا بالله حين تنقطع الشبكات كلّها، وأن تظلّ ترى الحلال حلالًا ولو صبغوه بألف تبريرٍ عصري.
الثبات في الدعاء النبوي ليس مجرّد الصمود أمام الشهوة، بل سكون القلب في وجه الإغراء، وهدوء الضمير وسط الضجيج.
هو أن تعرف من أنت ومَن ربّك، فلا تُبدّل قيمك حين تتبدّل الأسعار، ولا تساوم على مبدأٍ لتكسب صفقةً، ولا تبيع آخرتك تحت لافتة "فرصةٍ لا تتكرّر".
الثبات هو امتحانُ الإيمان في سوقٍ مفتوحٍ على كل شيء:
المال، الشهرة، النفوذ، الرغبة في القبول، الخوف من الفقر.
فيطلب منك النبي ﷺ أن تبدأ بالدعاء له، لأن من فقد الثبات لن تنفعه عزيمة، ولا شكر، ولا عبادة.... فالثبات هو باب كل خيرٍ بعدها.
تأمل اللفظ: "في الأمر" أي في كل شأنٍ يعرض لك:
1- أمر دينك ودنياك،
2- قراراتك ومواقفك،
3- رغباتك ومخاوفك.
فكأن النبي ﷺ يقول لك:
يا عبد الله، حين يختلط الأمر، سلِ الله أن يُثبت قلبك في الجهة التي لا تتغيّر... الجهة التي إليها تُقلب القلوب.
الثبات في الأمر هو:
1- أن لا تُبدّل نيتك مع تغيّر الظروف،
2- أن تبقى نقيًّا حتى لو اتّسخ العالم،
3- أن تتعامل بالحقّ حين يغشّ الناس،
4- أن تزن بميزان الله حين تتكسّر الموازين حولك.
5- هو أن لا تبيع صلاتك بخمس دقائق راحة،
6- ولا تبيع مبدأك بخمس ورقاتٍ نقدية،
7- ولا تبيع آخرتك بإعجابٍ عابرٍ من جمهورٍ زائل.
إنّ الثبات في زمن الاكتناز عبادة العارفين؛
فهم لا يُريدون من الله تغيير أقدارهم بقدر ما يريدون ثباتَ قلوبهم فيها.
الثابت لا ينجو لأنه أغنى أو أذكى، بل لأنه أصدق.
وحين يقول: "اللهم إني أسألك الثبات في الأمر"، فهو يُعلن أن المال قد يجيء ويذهب، لكن الإيمان يجب أن يبقى واقفًا لا يتحرّك.
خلاصته:
الثبات هو الجدار الداخلي الذي يمنع الريح من اقتلاعك حين ينهار الاقتصاد الخارجي.
إنه "لا إله إلا الله" في صورة السلوك:
أن تبقى مخلصًا، صادقًا، متزنًا، رغم الهلع العامّ.
فمن ثبّته الله في الأمر، ثبته في كل أمر.
علاماتُ الثابتِ اليوم
الثابتُ اليوم ليس الذي لا يتأثر...
1- بل الذي يتألم ولا يتبدّل.
2- يمرّ بالعواصف، لكن جذوره في الله لا تُقتلع.
3- لا يتغيّر مبدؤه بتغيّر المزاج العام،
4- ولا تتبدّل كلمته حين تتبدّل المصلحة.
5- الثابت اليوم هو الذي يرى الناسَ يتسابقون على "الفرص"، فيسابق هو إلى "الورع".
6- يُغريه الربح السريع، لكنه يختار رضا الله البطيء... لأن قلبه يثق أن البركة أسرع من الأرباح.
7- الثابت اليوم لا يُبدل قناعته مع موجات "الترند"،
8- ولا يبيع صمته لله ليشتري إعجاب الناس.
9- يعرف أن ضجيج العالم لا يُسقط كلمةً صادقةً قالها لوجه الله.
10- الثابت اليوم إذا اشتدّت الأزمة، كان أوّل من يسجد، لا أوّل من ينهار.
11- يخاف كغيره، لكنه يتذكّر أن الثبات رزقٌ يُعطى لمن سأل الله، لا لمن ظنّ أنه قويٌ بنفسه.
12- الثابت اليوم لا يعبد الرقم، بل المعنى؛
13- لا يُقيم وزنه بما في جيبه، بل بما في ضميره.
14- يقول لنفسه في كل صفقةٍ أو قرار: "لن أتنازل عن مكاني عند الله لأرتفع عند الناس".
15- الثابت اليوم يعيش على مبدأٍ واحدٍ مهما تبدّلت الفصول: "إن كان الله معي... فلا يهمّ من سبقني ولا من تخلّف عنّي".
إنه الإنسان الذي اختار طريق الصدق في زمن الاستعراض، وطريق الرضا في زمن الطمع، وطريق الثبات في زمن الانهيار.
هو صورة الدعاء النبوي حين يتحوّل من كلماتٍ تُقال... إلى حياةٍ تُعاش.