البحث
أخيرا... من كَنَزَ هذا الدعاء
كَنَزَ قلبُه من الشُّح، وطهّر لسانُه من الكذب، وصار المالُ عنده خادمًا للدين لا سيّدًا للقلب.
أولًا: "من كَنَزَ هذا الدعاء"
الكنز في اللغة ما خُبِّئ لوقت الحاجة، فليس المقصود مجرد حفظ الألفاظ، بل أن يجعلها العبد زادًا داخليًا يمدُّه عند الفتن، كما يُخبِّئ التقيُّ سلاحه الروحي.
فمن كنزه، يعني: جعله وردًا دائمًا، وملفًّا روحيًا في القلب، يرجع إليه حين تميل الموازين، تمامًا كما يرجع التاجر لحساباته إذا اضطرب السوق.
فهنا إشارة إلى أن الثروة ليست في الخارج، بل في الدعاء ذاته؛ هو مخزون نجاة عند انهيار كل عملةٍ مادية.
ثانيًا: "كَنَزَ قلبُه من الشُّحِّ"
حين يملأ الدعاءُ القلبَ بمعاني الثبات، والعزيمة، وشكر النعمة، وحسن العبادة، يُصبح القلب أغنى من أن يطمع.
الشُّحُّ هو مرض الخوف من الفقد، لا حبّ المال فقط.
والدعاء يعالج هذا المرض من جذره: فالقلب الذي يوقن أن الخير والشر بيد الله، ويستغفر لما يعلم، لا يخاف من رزقٍ يفوته ولا يضطرب لمالٍ يفقده.
فصار الدعاء نفسه تحصينًا من أن يتكوّن في القلب صنم المال؛ فإذا أقبل المال، بقي خادمًا، وإذا أدبر، بقي القلب غنيًا
ثالثًا: "وطهّر لسانُه من الكذب"
الكذبُ في طلب الدنيا يبدأ غالبًا حين يمرض القلب بالشُّحّ.
ومن شُفِيَ قلبه، نطق لسانه بالصدق تلقائيًا.
فالمال يُفتن به اللسان قبل اليد:
● وعدٌ كاذب،
● إعلان مضلّل،
● تزيين بضاعة،
● مجاملة مصلحية،
● حلفٌ كاذب في السوق...
وهذا الدعاء يُربّي العبد على صدق القول لأن رزقه بيد الله لا بالحيلة.
كل كلمة في الدعاء تعيد اللسان إلى ميزان الأمانة:
● "العزيمة على الرشد" تمنع المواربة، أي تمنعك من التلون، والتبرير، والالتفاف حول الحقّ حين يكون الالتزام به صعبًا.
● و"شكر النعمة" يطفئ الحسد،
● و"خير ما تعلم" يغلق باب التزييف.
فطهارة اللسان هنا نتاج طهارة القلب من خوف الفقر
رابعًا: "وصار المالُ عنده خادمًا للدين"
هذه نتيجة التوحيد العمليِّ في الدعاء.
من ثبّته الله، وأعطاه عزيمة رشيدة، وقلبًا سليمًا ولسانًا صادقًا، صار يرى المال وسيلةً للعبادة لا غايةً للوجود.
● يبني به بيتًا لله لا بيتًا للرياء.
● ينفقه في الصدق والإصلاح لا في المباهاة.
● يستخدمه ليُقيم حقًا، لا ليشتري مكانةً.
صار المال في يده لا في صدره، وأضحى موظفًا عند الإيمان، لا إلهًا يُعبد من دونه.
خامسًا: "لا سيِّدًا للقلب"
حين يسود المال القلب، تتحول كل العبادات إلى صفقات
:العبودية هنا قلبية.
● يصلي ليستجلب رزقًا،
● يدعو ليُرزق لا ليقترب،
● يزكي خوفًا من نقص البركة لا طلبًا للبركة الحقيقية.
أما من كنز هذا الدعاء، فالله تعالى هو سيّده الحق، لا المال.
المال يُعطيه أو يمنعه، فلا يزداد إلا طمأنينة، لأن اليقين انتصر على الخوف، والعبادة غلبت التجارة.
الخلاصة:
هذا السطر يلخّص التحوّل الذي يحدثه الدعاء في الإنسان:
من اقتصادٍ خارجيٍّ قائمٍ على الذهب والفضة،
إلى اقتصادٍ إيمانيٍّ داخلي قائم على الثبات والصدق والعبودية.
هو انتقال من "الكنز في الجيب" إلى "الكنز في القلب".
فإذا كنزتَ هذا الدعاء، كَنَزتَ أنت عند الله:
● يحرس قلبك من الشح،
● ويطهّر لسانك من الزيف،
● ويجعل مالك طريقًا إلى الله، لا طريقًا إلى نفسك.
الخاتمة
ما بين الذهب والفضة، يظلّ أغلى كنزٍ في الأرض هو القلب الذي عرف طريقه إلى الله... فالذهب يصدأ، والفضة تُنفق،
لكن الكنز الذي يورثه هذا الدعاء لا يفنى ولا يُقدّر بثمن.
من داوم عليه، صان الله له دينه كما يصون الناس أموالهم،
وحرس له قلبه كما يحرسون خزائنهم،
وأغناه بطمأنينةٍ لا تُشترى، وبثباتٍ لا تهزّه العواصف.
هذا الدعاء مدرسةُ تربيةٍ للنفوس في زمن التهافت،
يُعلّمك أن الثروة ليست فيما تجمعه، بل فيما تتخلّى عنه لله.
وأنك كلّما قلّ اعتمادك على ما في يدك، زاد يقينك بما عنده سبحانه.