1. المقالات
  2. كنز القلوب في زمن اكتناز الجيوب
  3. وأستغفرك لما تعلم" ختام أهل البصيرة: حين يعلمون أن الله هو الأعلم بهم

وأستغفرك لما تعلم" ختام أهل البصيرة: حين يعلمون أن الله هو الأعلم بهم

الكاتب : دريد إبراهيم الموصلي
7 2025/12/16 2025/12/17

حين يسير العبد في هذا الدعاء خطوةً خطوة، يظنّ أنه صعد في مدارج الكمال:

● ثباتٌ في الأمر،

● عزيمةٌ على الرشد،

● شكرٌ للنعمة،

● عبادةٌ حسنة،

● قلبٌ سليم،

● لسانٌ صادق،

● تفويضٌ كامل لله...
لكن ما إن يصل القمة حتى يُذكّره النبي ﷺ بالحقيقة الكبرى:
أنّ كل ما سبق ناقصٌ ما لم يُختم بالاعتراف بالتقصير.
الاستغفار هنا ليس لذنبٍ محدّد، بل لجهلك بذنوبك التي يعلمها الله.
"وأستغفرك لما تعلم" أي:
لكل خفيٍّ لا أراه،
لكل نيةٍ تسرّبت إليها شائبة،
لكل كلمةٍ خرجت بغير صدقٍ كامل،
لكل عبادةٍ زاحمها هوى، ولكل عطاءٍ تسلّل إليه إعجابٌ بالنفس.
إنه استغفار أهل البصيرة لا الغافلين عن الله؛ الذين يخافون من تفاصيل نفوسهم أكثر مما يخافون من كبائر غيرهم.

الاستغفار هنا طهارة الختام،

كما يُغسل الإناء بعد أن امتلأ ليبقى طاهرًا لما سيأتي بعده.
فبعد أن كنزت هذه الكلمات العظيمة، يأتي النداء الخفيّ:
"طهِّر كنزك من الغبار، فحتى الدعاء يحتاج إلى استغفار".

لماذا الختام بالاستغفار؟

لأنك مهما حاولت، سيبقى في عملك نقصٌ لا يراه إلا الله.
فاختم بطلب الغفران ليكتمل ما لم تستطع إتمامه.
لأنك بعد كل طاعةٍ مهدّد بالعجب.
فحين تشعر أنك "أديت ما عليك"، يأتي هذا الاستغفار ليكسر الغرور في قلبك ويعيدك إلى العبودية.
لأن الاستغفار يحفظ العمل من الذبول بعد الإزهار.
فالدعاء بلا استغفار كزهرةٍ لم تُسقَ بعد تفتحها، سرعان ما تذبل وتُنسى.
لأنك لا تدري من أين يأتي النقص.
ربّ همسة نيةٍ أفسدت عملًا عظيمًا... وربّ عملٍ خفيٍّ رفعك درجةً لا تعلمها.

العلاقة بالاكتناز:

حين يكتنز الناس الذهب والفضة، يغترّون بما جمعوا ويقولون: "كفانا، بلغنا، ملكنا".
أما العبد الصادق فيقول: "أستغفرك لما تعلم".

فشتّان بين من يختم إنجازه بالفخر، ومن يختمه بالانكسار.

هذا الاستغفار هو ترياق الغرور، وميزان القلب بعد امتلائه بالعطاء

تطبيقات واقعية اليوم:

بعد كل نجاحٍ دنيوي، همس لنفسك: "اللهم أستغفرك لما تعلم".
بعد كل عبادةٍ أو صدقةٍ أو منشورِ خيرٍ، قلها... كي لا يتسلّل الرياء من باب الإعجاب.
بعد كل صفقةٍ حلالٍ تمت بصدق، استغفر... لأنك ربما اغتبطت بها في قلبك أكثر مما شكرت الله عليها.
قبل النوم، اجعلها ختام يومك: "اللهم أستغفرك لما تعلم، إنك أنت علَّام الغيوب".
من ختم عمله بالاستغفار، حفظ الله له ثمرته، لأن الكمال لا يُدرك بالسَّعي... بل بالتواضع عند الوصول.

خريطةُ الدعاء... من أمراض المال إلى عافية القلب

هذا الدعاء النبوي ليس كلماتٍ متفرّقة، بل خطةُ شفاءٍ متدرجة لأمراضٍ تصيب الإنسان حين يتحوّل المال من وسيلةٍ إلى معبود.
إنه يبدأ من الجذر وينتهي بالثمر، من الحركة في السوق إلى السكون بين يدي الله.

وكل جملةٍ فيه دواءٌ لداءٍ محدد:

المرض الروحي المالي

العلاج النبوي

المعنى التربوي

فتنة السُّوق

الثبات في الأمر

ضبط القلب أمام الغليان

العلم بلا عمل

العزيمة على الرشد

قوّة القرار الإيماني

عبادة المال

شكر النعمة

إعادة النعمة إلى المنعِم

الرياء في العبادة

حسن العبادة

تصفية النية من المكسب

شحّ القلب

قلب سليم

طهارة الباطن من الجشع

الكذب التجاري

لسان صادق

صدق الكلمة في الكسب

القلق من الغيب

خير ما تعلم

راحة التفويض لله

العجب الخفي

أستغفرك لما تعلم

خضوع النهاية بعد العمل

هذا الدعاء ليس كلماتٍ تُرَدَّد... بل رحلةُ شفاءٍ من عبودية المال إلى حرية التوحيد... من تدرّج فيه نجا قلبُه من السوق، وامتلأ يقينًا بمالكِ الملك.

فتنةُ السوق ← "الثبات في الأمر"

حين تعصف الفتن بالقلوب، وتغري الأسواق بالربح العاجل، يكون أول علاجٍ هو الثبات؛ لأن من لم يثبت أمام العاصفة سقط قبل أن يبدأ الإصلاح.

المعلومة بلا تنفيذ ← "العزيمة على الرشد"

كم من الناس يعرفون الحلال والحرام، لكنهم لا يملكون الشجاعة لتطبيق ما يعلمون... فالعزيمة على الرشد دواءُ ضعف الإرادة، وهي الجسر الذي ينقل العلم إلى العمل.

تأليهُ الرزق ← "شكرُ النعمة"

حين يتحوّل المال إلى صنمٍ يُعبد، يأتي الشكر ليهدمه.
فالشاكر لا يعبد النعمة، بل يُعيدها إلى المنعِم، ويرى فيها طريقًا لا غاية.

العبادة لأجل الدنيا ← "حُسنُ العبادة"

حين تصبح العبادة وسيلةً للرزق أو السُّمعة، يُعيدك الدعاء إلى أصلها:

أن تعبد لا لتأخذ، بل لتزكو، لأن الحسن في العبادة ليس في صورتها... بل في نيتها.

شحٌّ / حسدٌ / كِبر ← "قلبًا سليمًا"

أمراض المال الكبرى تُولَد من قلبٍ مريضٍ بالشُّح والمقارنة والتفاخر.
فالقلب السليم هو المخزون الإيماني الذي يُحرّرك من كل مقارنةٍ ومنافسةٍ دنيوية.

كذبٌ تجاريٌ / دعائيٌّ ← "لسانًا صادقًا"

السوق تفسد حين يفسد الكلام.
واللسان الصادق ميزان العدل في البيع والشراء والإعلان.
من صدق في قوله، بورك في ماله، ولو قلّ.

عمى التقدير الإلهي ← "من خير ما تعلم / ومن شرّ ما تعلم"

العبد لا يعلم أين الخير في الغنى أو الفقر، في المنع أو العطاء.
فيُسلّم علمه لله، ويريح نفسه من قلق الحسابات، لأن التقدير عند الحكيم لا عند المصارف.

تراكمُ الزلل الخفي ← "أستغفرك لما تعلم"

وحين ينتهي الطريق، لا يتوجّه بالمدح بل بالاستغفار؛
فكل ثباتٍ له لحظة ضعف، وكل صدقٍ له ظلّ من تقصير،
فجعل الله تعالى في الختام غُسلًا للقلب يُعيده نقيًّا كما بدأ.

المقال السابق

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day