البحث
اخلاقه صلى الله عليه وسلم قبل البعثة
لقد ترك محمد صلى الله عليه وسلم - ذلك الإنسان الكامل -أثره على الناس كإنسان قبل أن يشرِّفه الله بالبعث والرسالة[1]...وفي السطور التالية نستعرض قبساً من أنوار أدبه الجم ، وغيضاً من فيض أخلاقه الرفيعة :
كيف كانت أحواله صلى الله عليه وسلم قبل البعثة؟
يقول : "جيمس متشنر" المؤرخ الأوروبي المعروف:
"إن محمد رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم هذا الرجل الملهم الذي أقام الدين الإسلامي و لد حوالي سنة 571 من الميلاد في قبيلة عربية كان تعبد الأصنام و كان مُحبا للفقراء و اليتامى و الأرقاء المستضعفين و قد أحدث محمد رسول الإسلام صلى الله عليه و سلم بشخصيته الخارقة للعادة ثورة في شبه الجزيرة العربية و في الشرق كله فقد حطم الأصنام بيديه و أقام دينا خالدا يدعو إلى الإيمان بالله و حده كما رفع عن المرأة قيد العبودية التي فرضتها عليها تقاليد الصحراء"، ويعضد كلامه البروفسور (جارسون دي تاسي) في كتابه (الإسلام) قائلاً:
"إن محمد رسول الإسلام-صلى الله عليه و سلم- و لد في حضن الوثنية و لكنه من نعومة أظفاره أظهر بعبقرية فذة انزعاجا عظيما من الرذيلة و حبا حادا للفضيلة و أخلاقا و نية حسنة غير عاديين إلى درجة أن أطلق عليه مواطنوه في ذلك العهد اسم الأمين"[2]
"لقد شاء الله سبحانه وتعالى أن ينشأ محمد صلى الله عليه و سلم يتيما ًحتى لا يُقال أنه استخدم نفوذ أبيه ،أو أنه استند إلى سلطان غير سُلطان الله "[3]..."لقد كانت الأربعون عاما ًالتي عاشها رسول الله صلى الله عليه وسلم قبل الوحي رمزاً في الاصطفاء الرباني، فقد كان طفلا ًيتسم سلوكه بالاتزان، ولا يعرف اللهو ، وكان وهو صبي يسعد الكبار بصفاء حكمته"[4]؛ ولقد "كانت حياة "محمد بن عبد الله" قبل أن يأذن الله له بالرسالة حياة إنسانية تمتاز عن حيوات من حوله بالنقاء و العزلة ، كانت على كل حال حياة غريبة أشد الغرابة في جنوحها عن الاضطراب في هذه البيئة الوثنية الحمقاء...كانت مزيجا من الأمانة و الاعتكاف، وكانت صورة من الترقب و الانتظار و كانت النفس الصافية الطاهرة العفة التي اصطنعها الله لنفسه، وصنعها على عينه، و قد تكاملت وأُعدت، ونشأت كالزهرة العاطرة من الأصل الطاهر العف ، بين هذه الأنفاس المحرقة من الضلال و الإثم ؛ فنبت الورد من بين الأشواك.
هذه هي النفس التي أعدها الحق لتطوى صفحة الظلم و الضلال ، وتنشر صفحة النور و التوحيد.
ولقد قامت حياته –صلى الله عليه وسلم - قبل بعثة على الرعي، يقول صلى الله عليه و سلم :
< ما من نبي إلا وقد رعى الغنم قالوا : وأنت يا رسـول الله ؟ قال : وأنا ، كنت أرعاها على قراريط لأهل مكة ) رواه البخاري
ولعل الحكمة من عمل الأنبياء برعي الغنم ،كما يقول ابن حجر: أن يحصل لهم التمرن برعيها على ما يكلفونه من القيام بأمر أمتهم ، ولأن مخالطتها ما يحصل لهم من الحلم والشفقة؛ هذا بالإضافة إلى الرحلة و التجارة [5]، [6]
ولقد كانت هناك إرهاصات تنبىء بنبوته صلى الله عليه و سلم، منها على سبيل المثال لا الحصر:
أولاً : تسليم الحجَرعليه ، فعن جابر بن سمرة . قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :< إني لأعرف حجراً بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث ، إني لأعرفه الآن> متفق عليه
ثانياً : الرؤيا الصالحة ، فعن السيدة عائشةرضي الله تعالى عنها . قالت ( إن أول ما بدىء به رسول الله من الوحي الرؤيا الصادقة في النوم ، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح> متفق عليه
ثالثاً : حُبب إليه العزلة والتحنث: لقول السيدة عائشة في الحديث السابق
:<ثم حبب إليه الخلاء(أي الخلوة ) ، فكان يخلو بغار حراء يتحنث _ يتعبد _ فيه الليالي ذوات العدد> ، قال النووي : وهو شأن الصالحين وعباد الله العارفين
وفي هذا استحباب العزلة لفترات تعين المسلم على التفكير في أحوال المجتمع إذا سادت فيه الجاهلية والفساد ؛أما الاعتزال الدائم للمجتمع فهو مخالف لسنَّة النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يُعرف عنه أنه اعتزل المجتمع، وإنما كان يقول في نبذ هذه الاتجاهات: <المؤمن الذي يخالط الناس ويصبر على أذاهم خير من الذي لا يخالطهم> رواه ابن ماجه
رابعاً : كان مباركاً :لقد كان صلى الله عليه وسلم - منذ أن حملت به أمه - مباركا ً، "يروي يزيد بن عبد الله بن وهب بن زمعه عن عمته قالت : كنا نسمع أن آمنة لما حملت برسول الله صلى الله عليه وسلم كانت تقول : < ما شعرت أني حملت ، ولا وجدت له ثقلا ًكما تجد النساء إلا أني أنكرت رفع حيضتي، وأتاني آتٍ وأنا بين النوم واليقظة فقال:
<هل شعرت أنك حملت؟>فكأني أقول :ما أدري،
فقال: < إنك قد حملت بسيد هذه الأمة ونبيها ، وذلك يوم الاثنين،
قالت: فكان ذلك مما يقَّن عندي الحمل، فلما دنت ولادتي أتاني ذلك الآتي ، فقال : قولي: < أعيذه بالواحد الصمد من شر كل حاسد>[7]،
و روى ابن سعد أن أم رسول الله صلى الله عليه وسلم قالت: " لما ولدتُه خرج من فرجي نور أضاءت له قصور الشام ، وقد روى الطبري و البيهقي وغيرهما أن إرهاصات بالبعثة وقعت عند الميلاد ، فسقطت أربع عشرة شرفة من إيوان كسرى، وخمدت النار التي يعبدها المجوس، و انهدمت الكنائس حول بحيرة ساوة بعد أن غاضت، ولما قدمت حليمة –مرضعته – إلى مكة تلتمس وليدا ًترضعه وكان هو من حظها،رأت من بركته ما قضت منه العجب !!!
فقد خرجت مع زوجها وابن لها صغير ترضعه في نسوة من بني سعد بن بكر ، تلتمس الرضعاء ، تقول حليمة :( وذلك في سنة شهباء[8] لم تُبقِ لنا شيئاً ، فخرجتُ على أتان لي قمراء[9] ومعنا شارف[10] لنا والله ولا تبِضُّ[11] بقطرة ، وما ننام ليلنا أجمع من صبينا الذي معانا من بكائه من الجوع ، وما في ثديي ما يغنيه ، وما في شارفنا ما يغذيه ولكن كنا نرجو الغيث والفرج ،فخرجت على أتاني تلك ، فلقد أذمَّت[12] بالركب حتى شق ذلك عليهم ضعفاً وعجفاً ، حتى قدمنا إلى مكة نلتمس الرضعاء ، فما منا امرأة إلا وقد عُرض عليها رسول الله صلى الله عليه وسلم فتأباه إذا قيل لها إنه يتيم ،وذلك أنا كنا نرجو المعروف من أبي الصبي ، فكنا نقول:< يتيم، وما عسى أن تصنع أمه وجده ؟> فكنا نكرهه لذلك ، فما بقيت امرأة قدمت معي إلا أخذت رضيعاً غيره ، فلما أجمعنا الانطلاق ، قلت لصاحبي والله إني لأكره أن أرجع من بين صواحبي ولم آخذ رضيعاً والله لأذهبن إلى ذلك اليتيم فلآخذنه ،قال لا عليكِ أن تفعلي عسى الله أن يجعل لنا فيه بركة ، فلما وضعتُه في حجري أقبل عليه ثدياي بما شاء من لبن ، فشرب حتى روي ، وشرب معه أخوه حتى روي ، ثم ناما وما كنا ننام معه قبل ذلك ، وقام زوجي إلى شارفنا تلك فإذا بها حافل ، فحلب منها ما شرب وشربتُ معه حتى انتهينا ريا ًوشبعنا ، فبتنا بخير ليلة ، قالت :يقول صاحبي حين أصبحنا <تعلمي والله يا حليمة لقد أخذتِ نسمة مباركة> ، قالت فقلت :<والله إني لأرجو ذلك> ، قالت ثم خرجنا وركبت أنا أتاني وحملته عليها معي فو الله لقطعت بالركب ما لا يقدر عليه شيء من حمرهم حتى إن صواحبي ليقلن لي :<يا ابنة أبي ذؤيب ويحك أربعي علينا أليست هذه أتانك التي خرجتِ عليها؟!> فأقول لهن :<بلى والله إنها لهي هي> ، فيقلن :<والله إن لها شأناً >، قالت ثم قدمنا منازلنا من بلاد بني سعد وما أعلم أرضا ًمن أرض الله أجدب منها فكانت غنمي تروح عليَّ حين قدمنا به معنا شباعاً لُبَّناً ،فنحلب ونشرب وما يحلب إنسان قطرة لبن ولا يجدها في ضرع ، حتى كان الحاضرون من قومنا يقولون لرعيانهم:< ويلكم اسرحوا حيث يسرح راعي بنت أبا ذؤيب> ، فتروح أغنامهم جياعاً ما تبض بقطرة لبن ، وتروح غنمي شباعاً لُبَّناً فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والخير حتى مضت سنتاه وفصلته وكان يشب شبابا ًلا يُشبه الغلمان ، فلم يبلغ سنتيه حتى كان غلاما ًجفراً[13]، قالت فقدمنا به على أمه ونحن أحرص على مُكثه فينا لِما كنا نرى من بركته ، فكلمنا أمه ، ولم نزل بها حتى ردته معنا "[14]
وهكذا "رجع رسول الله صلى الله عليه و سلمإلى بني سعد ،حتى إذا كان بعده بأشهر على قول ابن إسحق، وفي السنة الرابعة من عمره على قول المحققين ، سلَّم الله قلبه من حظ الشيطان ،وطهَّره بحادثة شق الصدر، فقد روي مسلم عن أنس رضي الله تعالى عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أتاه جبريل وهو يلعب مع الغِلمان فأخذه فصرعه ،فشق عن قلبه،فاستخرج القلب ، فاستخرج منه علقة ، فقال : ( هذا حظ الشيطان منك) ، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم ، ثم لأَمَهُ أي جمعه وضم بعضه إلى بعض ، ثم أعاده في مكانه ، وجاء الغِلمان يسعون إلى أمه –يعني ظئره[15]- فقالوا إن محمداً قد قُتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون ...قال أنس وقد كنت أرى أثر ذلك الخيط في صدره"[16]
فلما أعادته حليمة إلى أهله خوفاً عليه ، كان –صلى الله عليه و سلم جليلاً، مفضَّلاً لدى جده عبد المطلب بفضل احترام وتقدير ، وكان يؤثِره على أولاده،ويقول : < إن لابني هذا لشأناً > ، قال ابن هشام : كان يوضع لعبد المطلب فراش في ظل الكعبة ، فكان بنوه يجلسون حول فراشه ذلك حتى يخرج إليه،لا يجلس عليه أحد من بنيه ،إجلالا ً له،فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يأتي وهو غلام جفر حتى يجلس عليه ، فيأخذه أعمامه ليؤخِّروه عنه ، فيقول عبد المطلب إذا رأى ذلك منهم :< دعوه ابني هذا فو الله إن له لشأناً >، ثم يجلس معه على فراشه ويمسح ظهره بيده ويسُره ما يراه يصنع ؛ أما عمه أبو طالب فكان يحبه حباً يفوق حبه لأولاده ، ويقول: <إن محمداً لمبارك> " [17] ، [18]
وكان صلوات ربي وسلامه عليه بادي الكرامات ، فقد أخرج ابن عساكر عن جَلهُمة بن عُرقُطة قال : قدمتُ مكة وهم في قحط ، فقالت قريش : يا أبا طالب أقحط لوادي وأجدب العيال فهلُمَّ فاستَسقِ ، فخرج أبو طالب ومعه غلام ،كأنه شمس دُجُنَّة [19] تجلت عنه سحابة قتماء[20] ، حوله أُغيلمة ، فأخذه أبو طالب فألصق ظهره بالكعبة ولاذ بأضبعة الغلام ، وما في السماء قَزعة[21] ، فأقبل السحاب من ها هنا وها هنا وأغدق و اغدودق وانفجر الوادي وأخصب النادي والبادي... وإلى هذا أشار أبو طالب حين قال :
وأبيضٌ يُستسقَى الغمامُ بوجهه *** ثِمالُ يتامى عِصمةٌ للأرامل
ولما بلغ رسول الله صلى الله عليه و سلم اثنتى عشرة سنة ارتحل به أبو طالب تاجراً إلى الشام وكان في هذا البلد راهب يُعرف ببُحيرَى ، واسمه –فيما يقال – جرجيس، فلما نزل الركب نزل إليهم ، وكان لا يخرج إليهم قبل ذلك، فجعل يتخللهم حتى جاء فأخذ بيد رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وقال : هذا سيد العالمين ، هذا رسول رب العالمين ، هذا يبعثه الله رحمة للعالمين ، فقال له أبو طالب وما علمك بذلك؟ قال إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق حجر ولا شجر إلا خر ساجداً ولا يسجدن إلا لنبي وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف كتفه مثل التفاحة ، ثم أكرمهم بالضيافة وسأل أبا طالب أن يرده ولا يقدم به إلى الشام، خوفاً عليه من الروم واليهود ، فبعثه عمه مع بعض غلمانه إلى مكة " [22]
وفيما يلي بعض الجوانب من أخلاقه العظيمة صلى الله عليه وسلم قبل أن يبعث ، مما يدل على صدق مرجعيته صلوات الله وسلامه عليه .
لقد بعث الله محمداً صلى الله عليه و سلم لهدف واضح ومحدد وهو : أن يتمم مكارم الأخلاق ، لقوله صلى الله عليه وسلم : <إنَما بُعثتُ لأتمم مكارم الأخلاق>[23]
لذا فإن من الطبيعي والمنطقي أن يكون هو نفسه تام الخُلُق ، قدوة في مكارم الأخلاق:قبل البعثة وبعدها.
أخلاقه –صلى الله عليه وسلم – قبل البعثة
"إن نظرة متأنية إلى حياة الرسول صلى الله عليه و سلم لتشي إلينا بحقيقة واضحة وهي أن حياته صلى الله عليه وسلم منذ ولادته قد تضمنت إعداداً ربانيا ًمتأنياَ له ، تماماً كما أعد الله عز وجل مِن قبله كل من اصطفاهم لحمل رسالته ؛
فقد بين الله تعالى أن الإعداد والرعاية يستمران من المهد إلى اللحد ، قائلا ًعن عيسى عليه السلام : {وَجَعَلَنِي مُبَارَكًا أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيًّا، وَبَرًّا بِوَالِدَتِي وَلَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّارًا شَقِيًّا، وَالسَّلَامُ عَلَيَّ يَومَ وُلِدتُ ويومَ أموتُ ويومَ أُبعثُ حياً ،ذَلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ} سورة مريم 30-34
ولعل هذه الآيات تحمل من علامات التعجب التي توضح الإمكانات والمهارات وجوانب الإعداد الطويلة التي أهَّلته عليه السلام لأن يكون أهلاً لهذه الرسالة ، فلم يكتفِ الله عز وجل بأن يقول لهم أن عيسى بن مريم رسولٌ من رب العالمين ، وإنما ساق لهم جوانب هذا الإعداد، حتى يوجه أفكارهم وعقولهم إلى الاقتناع الكافي وحُسن الاتِّباع عن دراية وفهم عميق .
أما عن موسى عليه السلام ، فقد أعده الله تعالى لحمل أعباء الرسالة قائلاً له :{وألقيتُ عليكَ محبة مِنِّي ولتُصنعَ على عيني}سورة طه -39
وفي حق إبراهيم عليه السلام يقول الله عز وجل : { وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُُّّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قَالَ إِنِّي جَاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِمَامًا }سورة البقرة -124
ويقول أيضا عز من قائل: { وَلَقَدْ آتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ } سورة الأنبياء-51
وفي حق يوسف عليه السلام يقول الله تعالى : {وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْمًا وَعِلْمًا }سورة يوسف-22
وكما كان الإعداد في الفِكر والعلم ، كان أيضاً في الجسم وقوة البدن ، يقول تعالى في حق طالوت عليه السلام :
{وَقَالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طَالُوتَ مَلِكًا قَالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنَا وَنَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَلَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمَالِ قَالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفَاهُ عَلَيْكُمْ وَزَادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَالْجِسْمِ }سورة البقرة -247
ولعل هذا الإعداد للنبي الخاتم صلى الله عليه وسلم يتجلى في: اشتهاره بين قومه بحُسن السيرة ،والثقة في مرجعيته ؛حتى أنه " عُرف صلى الله عليه وسلم قبل البعثة بالصادق الأمين ، ما أخلف وعداً ، وما ضرب شيئاً بيده إلا مجاهداً في سبيل الله"[24]
لقد شب رسول الله صلى الله عليه و سلم وربه سبحانه و تعالى يرعاه ويحفظه ويحوطه من أقذار الجاهلية ، لما يريد به من كرامته ورسالته ، حتى بلغ أنه كان أفضل قومه مروءة ،
وأصدقهم حديثا، وأحسنهم خُلقا ، وأكرمهم حسبا ، وأحسنهم جوارا ، وأعظمهم حلما، وأعظمهم أمانة، وتنـزها وتكرما ،وأبعدهم من الفحش والأخلاق التي تدنس الرجال ، حتى ما اسمه في قومه إلا الأمين ، لما جمع الله فيه من الأمور الصالحة[25]
وإذا تأملنا تسميته بالصادق الأمين ، لوجدنا أن الناس قد يصفوا شخصاً بأنه صادق أو أمين ، ولكنهم لا يطلقون عيه لقب الصادق، والأمين (بتعريف الصفة) إلا إذا كان مُبالِغاً في الصدق والأمانة ، وكأنهم لا يعرفون صادق ولا أمين أكثر منه ، ولقد كانت هذه هي الحقيقة ؛" فقد كان أهل مكة يصدقونه ويحكِّمونه فيما يختلفون فيه، و إذا خافوا على شيء ائتمنوه عليه ، وكانوا حتى بعد أن نزلت الرسالة ورغم كفرهم به وبرسالته لا يجدون من يأتمنونه على كل غال ونفيس يخافون عليه إلا رسول الله صلى الله عليه وسلم ، لذلك عندما هاجر إلى المدينة طلب من علي بن أبي طالب أن يرد إلى الناس ودائعهم التي ائتمنوه عليها "[26]
وعندما كلفه الله تعالى بالرسالة أثارت بلاغة القرآن حيرتهم ، فأرادوا أن يكذبوا النبي صلى الله عليه وسلم ، فلم يعرفوا كيف يكذبونه ، فقالوا: ساحر مرة ، وشاعر مرة ، ومجنون مرة ثالثة !!!!
ولكن رسول الله صلى الله عليه و سلم كان على خُلُق عظيم ، ومعنى ذلك أن الأفعال تصدر عنه بيُسر وسهولة وصدق ؛ دون تكلُّف لأن الإنسان غير الصادق لابد أن ينسى ما قاله ، بل ويتخبط في كلامه ، فيقول اليوم ما نفاه بالأمس ، أما الصادق فإنه يرى الأشياء بطبيعته ولا يختلف قوله لأن الصدق عنده مَلَكة ،يصدر عنه بتلقائية لا دخل للفِكر فيها ؛ والرسول صلى الله عليه وسلم كان حين تتنزل عليه السورة الطويلة – كسورة الأنعام مثلاً التي نزلت في ليلة واحدة- ثم يذهب عنه الوحي –وهو الأمي- كان يتلو على أصحابه السورة ويقول : أوحي إلي كذا ، فيكتب من الصحابة مَن يعرف الكتابة الآيات التي نزلت ؛ ثم يأتي وقت الصلاة فيقوم صلى الله عليه وسلم ويقرأ الآيات في الصلاة فتأتي طبق ما أوحي إليه ، ولو أن إنساناً تكلم معك وسجلت له كلاماً ثم طلبت منه أن يعيد نفس الكلام ، ولو بعد دقيقة ، ربما قال نفس المعنى، ولكنه لا يستطيع أبداً أن يقوله بنفس الألفاظ !!!
ومن كان خُلقه الصدق فإنه يقول الحق ولو على نفسه ، ومن كان خُلقه الأمانة ، فإنه لا يمد يده إلى ما يملكه غيره ولو كان في قمة الحاجة ...ورسول الله صلى الله عليه وسلم قد شهد له أهل مكة جميعا ًبأنه الصادق الأمين ...فلما اتهموه بالجنون فيما بعد كانوا يناقضون أنفسهم لأن المجنون لا يُصدَّق ولا يؤتمن !!! "[27]
وعندما روى رسول الله صلى الله عليه و سلم ما حدث له في الإسراء والمعراج صدقه البعض وكذبه البعض ، وعندما ذهب عدد من الناس إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه ، وأبلغوه بما قاله الرسول صلى الله عليه وسلم ، قال : أوَ قال هذا ؟ قالوا : نعم ، قال أبو بكر: إذن فقد صدق ، فلما اعترض عليه عدد من الحاضرين قال / " أنصدقه في خبر السماء-يقصد الوحي الذي ينزل عليه دون أن يراه أو يسمعه أحد غير الرسول - ونكذبه فيما يقول؟ّّ"[28]
وإذا تساءلنا عن مدلول وصفه صلى الله عليه وسلم بالصدق والأمانة بالتحديد دون سائر الصفات ًكالشجاعة مثلاً أو الكرم أو غير ذلك؟
لوجدنا أن الصدق هو "مطابقة الخبر للواقع وضده الكذب وهو الإخبار عن الشيء خلاف ما هو عليه ؛ والصدق من أعظم خصال الخير وهو من مكارم الأخلاق التي جاء الشرع بتأكيدها والأمر بها ؛ والصدق مرآة النفس النزيهة، فالصادق يكشف عن نزاهة نفسه، فليس فيه أي التواء أو اعوجاج بل هو مستقيم استقامة البان، نيّرٌ كالمصباح المتلألئ . والصدق أشرف الصفات المرضية، ورئيس الفضائل النفسية، وما ورد في مدحه وعظيم فائدته من الآيات والأخبار لا يمكن إحصاؤه.
والصدق سجية كريمة تدل على سلامة الفطرة للمتصف بها، وثـقته بنفسه وبعده عن التكلف والتصنع، وقد اعتبر الإسلام الصدق أساس كل الخير وأن الإسلام يؤكد على الصدق أكبر تأكيد ويحث الناس على ملازمته ولو كان مظنة لإضرار يسير.
فهو خُلُق رفيع يتمثله الأفاضل من الناس ، ويتنكب عنه الأراذل ، ولذلك كان وصفاً ملازماً للأنبياء عليهم السلام ، وضده ما كان ملازماً للمنافقين وأشباههم .
والصدق أقسام :
1ـ الصدق بالقلب : فلا يخالف الظاهر الباطن .
2ـ الصدق بالأفعال :سواء التي بينه وبين الله تعالى فيعامل الله تعالى بِصِدقِ نيّة وإِخلاصٍ ومحبَّةٍ ويَقينٍ ووَفاء ودَوامِ عبادةٍ، أو بينه وبين الخلق ، فيعاملهم بصدقٍ ورَحمةٍ ووَفاءٍ، بغيرِ تقلُّبٍ وبغيرِ كَذِبٍ وخِداعٍ ومَكر ، ولا يغش ولا يخلف إذا وعد .
3ـ الصدق بالأقوال: فلا تخالف الواقع ولا تخالف أفعال صاحبها ...فيقولَ الحقَّ أو يأمر بحقٍّ، أو ينهَى عن باطل، أو يخبِر بما يطابِقُ الواقعَ.
والصّدقُ يكشِف عن مَعدن الإنسان وحُسنِ سريرته وطيب سيرته، كما أنَّ الكذبَ يكشف عن خبثِ الطويَّة وقبح السيرة. الصدقُ منجاة والكذِب مرداة. الصّدقُ محبوبٌ ممدوح في العقول السليمة والفطر المستقيمة ،لذا فإن الصادق في الدّنيا يُرزَق حسنَ الأحدوثة ومحبَّةَ الله ومحبَّة الخلق، وتُثَمّن أقوالُه، ويؤمَنُ جانِبُه، ويريحُ النّاسَ من شرِّه، ويحسِن إلى نفسه وإلى غَيره، ويُعافى من الشرورِ والمهالك التي تصيب الكذّابين، ويطمئنُّ بالُه وقلبه، فلا يمزّقه القَلق، ولا يعبثُ به الخوف من الفضيحةِ،وتكونُ عواقبُ الصّادِقِ في حياتِه إلى خَير "[29] ،[30]، [31]
والصدق عدا عن كونه أساس الفضائل النفسية، هو ضرورة من ضرورات الحياة الاجتماعية، بل هو أكبر أبواب السعادة للأفراد وللأمة، فحسبك مثلا في المعاملات المادية أن ترى نفسك مسوقا حين تريد ابتياع سلعة أن تفتش عن التاجر الذي عرف بالصدق.
ولعل أصدق ميزان لرقي أمة من الأمم صدق أفرادها في أقوالهم وأعمالهم، وإنها لأزمة كبيرة تلك التي يعاني منها الناس في تعاملهم عندما يفقدون الثقة فيما بينهم لأنهم يفقدون خلق الصدق وينتشر بينهم خلق الكذب.
وإن الكذب جبن وخسة وجرأة والكذاب لن ينجح في حياته ولن يهتدي إلى الحق والخير فسينكشف للناس عن جبن وخسة تجعل الخيبة ملازمة له في شأنه كله.... والكذبة الواحدة تفتح باب الكذب على مصراعيه ،ومن عرف بالكذب مرة واحدة سقطت مكانته، وقلّت الثقة بحديثه، فلا يلومن بعد ذلك إلا نفسه"[32]
كما أن "الكذب رذيلة محضة تنبىء عن تغلغل الفساد في نفس صاحبها ، وعن سلوك ينشىء الشر إنشاءً ، ويدفع إلى الإثم من غير ضرورة مزعجة ، أو طبيعة قاهرة " [33]
لذلك يروي أبو سفيان أن هرقل سأله عن صدقه صلى الله عليه وسلم فقال له :" هَلْ كُنْتُمْ تَتَّهِمُونَهُ بِالْكَذِبِ قَبْلَ أَنْ يَقُولَ مَا قَالَ؟ فَذَكَرْتَ أَنْ لَا ، فقال له : فََدْ أَعْرِفُ أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِيَذَرَ الْكَذِبَ عَلَى النَّاسِ وَيَكْذِبَ عَلَى اللَّهِ" رواه البخاري.[34]
" فالرسول الذي يبلع منهج الله لابد أن يكون معروفاً معرفة جيدة وأكيدة -قبل الرسالة- لمن يبلغهم ، ليس هذا فحسب بل وان يكون معروفاً بالأمانة ، وصدق القول وحُسن الخُلُق حتى يصدقوه فيما يُخبر عن ربه ،لأن من لا يكذب على الناس لا يكذب على الله "[35]
أما الأمانة، فهي التزام الإنسان بالقيام بحقوق الناس من غير تقصير، كما يحب أن يقوموا بحقوقه من غير تقصير"[36]
والأمانة من الأخلاق الفاضلة،فهي أصل من أصول الديانة، وهي ضرورية للمجتمع، لا فرق فيها بين حاكم وموظف وصانع وتاجر ومزارع، ولا بين غني وفقير، ولا كبير وصغير، فهي شرف الغني وفخر الفقير، وواجب الموظف ورأس مال التجار، وسبب شهرة الصانع، وسر نجاح العامل والمزارع، ومفتاح كل تقدم بإذن الله ، ومصدر كل سعادة وفلاح بإذن الله، وليست الأمانة محصورة في الودائع التي تؤمن عند الناس من نقود وجواهر ونحوها، بل الأمانة أوسع من هذا كله، فالأمانة عمل لكل ما لله فيه طاعة، واجتناب كل ما لله فيه مخالفة ومعصية، سواء كان ذلك في عبادة الله أو في معاملة عباده.
ومن معاني الأمانة أن يوضع كل شيء في مكانه اللائق به والمناسب له، فلا يعطي منصب إلا لمن هو أهل وكفؤ له، أما من يعجز عن القيام به ويهمله فلا يجوز إسناده إليه
وحين تستقيم الفطرة وتسلم من اتباع الهوى تتمثل في صاحبها بخلق الأمانة وفي تفسير قوله تعالى : (إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْأِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) [الأحزاب:72].
يقول القرطبي : (والأمانة تَعُم جميع وظائف الدين على الصحيح من الأقوال) كما يقول في تفسير قوله تعالى :( وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ) [المؤمنون :8] : (والأمانة والعهد : يجمع كل ما يحمله الإنسان من أمر دينه ودنياه قولا وفعلاً ، وهذا يعم معاشرة الناس ، والمواعيد، وغير ذلك، وغاية ذلك حفظه والقيام به)
وحين يعم التعامل بالأمانة يؤدي الذي أؤتمن أمانته ، سواء أؤتمن على قنطار أو دينار، والنفوس البشرية بفطرتها تميل إلى الناصح الأمين ، وتثق بالقوي الأمين، حتى غير المسلمين يؤثرون الأمين ، فقد ورد في قصة أهل نجران لما وافقوا على دفع الجزية أنهم قالوا : ( إنا نعطيك ما سألتنا ، وابعث معناً رجلاً أمينا ، ولا تبعث معنا إلا أميناً . فقال : لأبعثن معكم رجلاً أمينا ، حق أمين ) ، وأرسل معهم أبا عبيدة .
إن من أغلى ما يرزقه الله للعبد، ولا يحزن بعده على أي عرض من الدنيا، ما جاء في الأثر :
( أربع إذا كن فيك فلا عليك ما فاتك من الدنيا : صدق الحديث، وحفظ الأمانة ، وحسن الخلق ، وعفة مطعم ) فالأمانة ركن من هذه الأركان الأخلاقية الأربعة،التي لا يعدلها شيء في الدنيا، بل قد تكون سببا في إقبال الدنيا على العبد ، لما يجده الناس فيه ، كما كانت أمانته صلى الله عليه وسلم - مثلاً- سبباً في زواجه بأم المؤمنين خديجة .
والأمانة صفة مميزة لأصحاب الرسالات، فقد كان كل منهم يقول لقومه:(إنِّي لكم رسول أمين)
[ الشعراء : 107، 125 ،143،162، 178] .
وكانت تلك شهادة أعدائهم فيهم ؛ كما جاء في حوار أبي سفيان وهرقل ، حيث قال هرقل : ( سألتك ماذا يأمركم ؟ فزعمت أنه يأمر بالصلاة ، والصدق، والعفاف ، والوفاء بالعهد ، وأداء الأمانة ـ قال : و هذه صفة نبي ) وفي موضع آخر في صحيح البخاري : ( .. وسألتك هل يغدر ؟ فزعمت أن لا، وكذلك الرسل لا يغدرون ..)ولئن كانت هذه صفة أصحاب الدعوات فإن أتباعهم كذلك متميزون ، ولذلك اقترن تعريف المؤمن بسلوكه المميز ، حيث قال صلى الله عليه وسلم :
( والمؤمن من أمنه الناس على دمائهم وأموالهم ) رواه فضالة بن عبيد بإسناد حسن
كما أن صاحب خلق ( الأمانة ) حريص على أداء واجبه ، بعيد عن المكر والخيانة ، حافظ للعهود ، وافٍ بالوعود .
ورسالة عظيمة مثل رسالتنا لا يصلح لحملها والمضي بها إِلاّ الأمناء[37]
وبذلك نرى أن الصدق والأمانة صفتان تجمعان كل خصال الخير، ومن ثم فقد اتصف الحبيب صلى الله عليه و سلم بكل خصال الخير، ليس اتصافا ًعاديا ً؛ وإنما كان أكثر الناس في مكة اتصافا ًبها ، بشهادة أحبابه وأعداءه على حد سواء !!!!
أما إنسانيته : فقد ولدت معه ، ولازمته في أطوار حياته، وميَّزته على سائر أقرانه ولداته ، وصانته من كل زلل ، وحمته من كل شطط، ودفعته دائما إلى الخير ، ومثالية السلوك.
فكان نبته رطبة بين قلوب قد قست ، وطباع قد غلظت، وعواطف قد جفت، ومشاعر قد تبلدت ، وعقول قد تحجرت؛وكان زهرة نضرة وسط غابة من الأشواك ، في أطرافها حدة ، وفى جذوعها خشونه وغلظة ، وفى لمستها أذى وإيلام؛ لقد كان –صلى الله عليه وسلم- شجرة سامقة مثمرة ظليلة ، وسط صحراء قاحلة ، وفلاة مُجدبة ... وهو في جميع حالاته : كثير النفع.. عظيم العطاء...ولا عجب إذن - قبل أن يكون رسولاًً -أن سلطت عليه الأضواء، ولم تتنازع في إنسانيته الأهواء، وانتزع -عن جدارة- من بين القلوب الغلاظ ، والألسنة الحداد ، اعترافا ًً بعفة نفسه ، وعذوبة حسه، وسمو سلوكه، وعلو إنسانيته... فكان لقبه الرسمي-كما سلف الذكر- هو: الصادق الأمين![38]
ولقد تجلى هذا الإعداد الرباني له في حسن إدارته للمواقف ،الذي بدا واضحاً في حكمته في إدارة النزاع الذي كان قائماً بين القبائل المتناحرة بشأن وضع الحجر الأسود والتي كادت أن تودي بحروب يذهب فيها هؤلاء المتناحرين، وهنا تجلت حكمته صلى الله عليه وسلم في أن يطلب منهم أن يأتوه بثوب ويضع عليه الحجر الأسود ويطلب من كل منهم أن يحمل طرفاً من أطرافه ، ثم يحمل هذا الحجر ليضعه في مكانه !!!
هذا فضلاً عن حُسن تربيته وتأديبه ،كما قال الله عز وجل : { ألَم يجِدكَ يتيماً فآوى ، ووجدك ضالاً فهدى ووجدك عائلاً فأغنَى} سورة الضحى5-8 وكما أخبرعن نفسه صلى الله عليه وسلم قائلاً : <أدَّبني ربي فأحسن تأديبي> رواه ابن مسعود وورد في ضعيف الألباني"[39]
" فلقد جمع النبي صلى الله عليه و سلم في نشأته خير ما في طبقات الناس من ميزات ، وكان طرازاً رفيعاً من الفكر الصائب و النظر السديد ، ونال حظاً وافرا ًمن حُسن الفِطنة وأصالة الفِكرة وسداد الوسيلة والهدف، وكان يستعين بصَمته الطويل على طول التأمل وإدمان الفكرة و استكناه الحق ، ويطالع بعقله الخصب وفطرته الصافية صحائف الحياة وشؤون الناس وأحوال الجماعات؛ فعاف ما سواها من خرافة ونأى عنها ثم عاشر الناس على بصيرة من أمره وأمرهم ،فما وجد حسناً شارك فيه ، وإلا عاد إلى عُزلته العتيدة فكان لا يشرب الخمر ولا يأكل مما ذُبح على النُّصُب ، ولا يحضر للأوثان عيداً ولا احتفالاً ، بل كان من أول نشأته فاراً من هذه المعبودات الباطلة ، حتى لم يكن شيء أبغض إليه منها ،وحتى كان لا يصبر على سماع الحلف باللات و العزَّى ، ولا شك أن الله تعالى قد حفظه ورعاه ، فعندما تحركت نوازع نفسه لاستطلاع بعض متع الدنيا ، وعندما هم باتِّباع بعض التقاليد غير المحمودة تدخلت عناية الله سبحانه للحيلولة بينه وبينها ، قال رسول الله صلى الله عليه و سلم :( ما هممتُ بشيء مما كان أهل الجاهلية يعملونه غير مرتين، ذلك يحول الله بيني وبينه ، ثم ما هممت به حتى أكرمني برسالته : قلت ليلة للغلام الذي يرعى معي الغنم بأعلى مكة : لو أبصرتَ لي غنمي حتى أدخل مكة وأسمر بها كما يسمر الشباب ، فقال : أفعل ، فخرجت حتى إذا كنت عند أول دار بمكة سمعت عزفاً ، فقلت : ما هذا ؟ فقالوا عُرس فلان بفلانة ، فجلستُ أسمع ، فضرب الله على أُذُني فنمت ، فما أيقظني إلا حر الشمس ، فعدت إلى صاحبي فسألني فأخبرتُه ، ثم قلتُ ليلة أخرى مثل ذلك ، دخلت مكة فأصابني مثال أول ليلة ...ثم ما هممتُ بسوء)
وروى البخاري عن جابر بن عبد الله قال : لما بُنيت الكعبة ذهب النبي صلى الله عليه وسلم والعباس ينقلان الحجارة ، فقال العباس للنبي صلى الله عليه وسلم : إجعل إزارك على رقبتك يقيك من الحجارة ، فخر إلى الأرض وطمحت عيناه إلى السماء ثم أفاق ، فقال : إزاري ، إزاري، فشد عليه إزاره ، وفي رواية فما رؤيَت له عورة بعد ذلك .
وكان صلوات الله وسلامه عليه يمتاز في قومه بخِلال عذبة وأخلاق فاضلة وشمائل كريمة ، فكان أفضل قومه مروءة وأحسنهم خُلُقاً وأعزَّهم جواراً ، وأعظمهم حِلماً وأصدقهم حديثاً وألينهم عريكة ، وأعفَّهم نفساً وأكرمهم خيراً وأبرهم عملاً وأوفاهم عهداً وآمنهم أمانة حتى سماه قومه ((الأمين)) لِما جُمع فيه من الأحوال الصالحة والخصال المُرضِية ، وكان كما قالت أم المؤمنين خديجة رضي الله تعالى عنها : يحمل الكَل ويُكسب المعدوم ، ويُقري الضيف ، ويُعين على نوائب الحق!!! "[40]
ولقد بدأ القتال صغيرا صلى الله عليه و سلم بحرب الفجار ، قال ابن هشام فلما بلغ رسول الله صلى الله عليه وسلم أربع عشرة سنة أو خمس عشرة سنة فيما حدثني أبو عبيدة النحوي عن أبي عمرو بن العلاء هاجت حرب الفجار بين قريش ومن معها من كنانة وبين قيس عيلان ...وكان الذي هاجها أن عروة الرحال بن عتبة بن جعفر بن كلاب بن ربيعة بن عامر بن صعصعة بن معاوية بن هوازن أجار لطيمة للنعمان بن المنذر فقال له البراض بن قيس أحد بني ضمرة ابن بكر بن عبد مناة بن كنانة أتجيرها على كنانة قال نعم وعلى الخلق ،فخرج فيها عروة الرحال وخرج البراض يطلب غفلته حتى إذا كان بتيمن ذي طلال بالعالية غفل عروة فوثب عليه البراض فقتله في الشهر الحرام فلذلك سمي الفجار وقال البراض في ذلك شعراَ ، منه :
و داهية تهم الناس قبلي *** شددت لها بني بكر ضلوعي
وهذه الأبيات في أبيات له فيما ذكر ابن هشام
قال ابن هشام :فأتى آتٍ قريشاً فقال إن البراض قد قتل عروة وهم في الشهر الحرام بعكاظ وهوازن لا تشعر ثم بلغهم الخبر فاتبعوهم فأدركوهم قبل أن يدخلوا الحرم فاقتتلوا حتى جاء الليل ودخلوا الحرم فأمسكت عنهم هوازن ثم التقوا بعد هذا اليوم أياما والقوم متساندون على كل قبيل من قريش وكنانة رئيس منهم وعلى كل قبيل من قيس رئيس منهم
الرسول صلى الله عليه وسلم يشهد القتال وهو صغير وشهد رسول الله صلى الله عليه و سلم بعض أيامهم أخرجه أعمامه معهم وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم كنت أنبل على أعمامي أي أرد عنهم نبل عدوهم إذا رموهم بها [41]
"ولقد زعم بعض المستشرقين أنه عليه الصلاة والسلام قد اشترك فى حرب الفجار بتجهيز السهام ، لأنه عمل أقرب إلى خلقه من الخوض في معمعة القتال .
وكأنهم أرادوا أنه لم يكن قادراً على المشاركة في المعمعة بغير ذلك ... فهذا خطأ في الإحاطة بمزايا هذه النفس العظيمة التي تعددت جوانبها حتى تجمعت فيها أطيب صفات الحنان والكرم وأكرم صفات البسالة والإقدام ..وسيلي الحديث عن شجاعته وإقدامه صلى الله عليه وسلم في الحرب ، وكيف كان بعد بعثته في طليعة رجاله حين تحتدم نار الحرب ويهاب شواظها من لا يهاب ،كأمثال علي بن أبي طالب فارس الفرسان "[42]
وهكذا نشأ الحبيب صلى الله عليه و سلم بأخلاق لا تختلف عن أخلاقه التي عهدها الناس منه بعد البعثة ، مما يعزز مصداقيته ويقوي الثقة في مرجعيته ، صلى الله عليه وسلم .
--------------------------------------------------------------------------------
[1] amin, el-sayed m .a human being before a prophet: muslim reflections on muhammad's character ,available from:
[2] محمد فهمي عبد ا لوهاب. محمد رسول الإسلام في نظر فلاسفة الغرب مشاهير علمائه وكتابه 5.-ص10.
محمد متولي الشعراوي. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : القاهرة: مؤسسة أخبار اليوم، 1999.- ص61 [3]
المصدر السابق، ص65[4]
أنور الجندي. أقباس من السيرة العطرة ،ص 9، بتصرف [5]
[6] https://www.syriastar.com/vb/showthread.php?t=32915
ابن الجوزي، أبو الفرج عبد الرحمن .صفة الصفوة / تحقيق أحمد بن علي .- القاهرة : دار الحديث، 2000، ص21[7]
مُجدبة لا خضرة فيها ولا مطر .[8]
بيضاء[9]
الناقة المُسِنَّة .[10]
بض الماء : قطر وسال قليلا قليلاً .[11]
أبطأت وحبست [12]
قوياً شديداً [13]
صفي الدين المباركفوري . المصدر السابق، ص71-[14]
مرضعته.[15]
صفي الدين المباركفوري، نفس المصدر ص74.[16]
المصدر السابق ،ص 74-75 .[17]
محمد متولي الشعراوي. محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم : القاهرة: مؤسسة أخبار اليوم، 1999.-ص 56 [18]
الظُّلَّة [19]
غبراء[20]
سحابة[21]