عَنْ أَنَسُ – رضي الله عنه – أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُ فِيهِ بِرِفْقٍ؛ إِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى".
* * *
كان النبي صلى الله عليه وسلم يلاحق أولئك الذين يرهقون أنفسهم في التعبد إرهاقاً شديداً غير مبالين بحق أجسامهم في الراحة ولا حق أزواجهم في المتعة فيقضون النهار في الصيام والليل في القيام، ويزهدون في طيبات الحياة ويكتفون من دنياهم بما يسد الرمق ويستر العورة.
كان عليه الصلاة والسلام يدعوهم إلى الرفق بأنفسهم وبأزواجهم والاعتدال في عباداتهم لئلا يملوها فينقطعوا عنها، فيخالفون بذلك ما يحبه ربهم ويرضاه.
وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: "أَحَبُّ الْأَعْمَالِ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَدْوَمُهَا وَإِنْ قَلَّ".
وقال: "اكْلَفُوا مِنَ الْأعَمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا ".
والإسلام دين الوسطية لا إفراط فيه ولا تفريط، دين قويم يهدي للتي هي أقوم، ويغلب بيسره وسماحته كل متنطع، ويقهر كل متهاون مستهتر.
فهو دين متين، أي قوي غاية القوة في حججه وبراهينه، عدل في أوامره ونواهيه، شديد على من يعاديه أو يغلو فيه؛ فإن الذي يغلو فيه هو عدو له في صورة حبيب، ينطبق عليه عموم قوله تعالى في سورة الكهف: { قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا } (103-105).
فهذه الآية تتناول بعمومها أربعة أصناف من الناس:
1- اليهود الذين شددوا على أنفسهم فحرموا على أنفسهم كثيراً مما أحله الله لهم، وفرضوا على أنفسهم أنواعاً من العبادة بم يكلفهم الله بفعلها، وبالغوا في إطراء أحبارهم وأطاعوهم طاعة عمياء، وزعموا أنهم يقربونهم إلى الله ويشفعون له عنده.
2- النصارى الذي شددوا على أنفسهم أيضاً بالرهبانية والعزوف عن الزواج وعن كثير من طيبات الحياة، وفرضوا على أنفسهم من الأعمال ما لم ينزل به الله سلطاناً على رسولهم عيسى عليه السلام.
وقد بالغوا في إطرائه ورفعوه إلى درجة الألوهية.
فمنهم من قال: هو الله.
ومنهم من قال: هو ابن الله.
فمنهم من قال: هو وأمه إلهان من دون الله.
فمنهم من قال: هو ثالث ثلاثة.
قال تعالى: { يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَلَا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ } (سورة النساء: 171).
وقال جل شأنه: { قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لَا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعُوا أَهْوَاءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَأَضَلُّوا كَثِيرًا وَضَلُّوا عَنْ سَوَاءِ السَّبِيلِ } (سورة المائدة: 77).
3- أهل البدع الذين شددوا في الدين حتى ذهبوا بأهم خصائصه وهي اليسر والسماحة، والوسطية والحيوية، والمرونة وفع الحرج، وقلة التكاليف، وما إلى ذلك مما نص عليه الفقهاء في كتبهم.
وهولاء قوم يقرأون القرآن ولا يتجاوز حناجرهم، وإنهم ليمرقون من الدين كما يمرق السخهم من الرمية، كما قال الرسول صلى الله عليه وسلم في الحديث الذي أخرجه البخاري في صحيحه.
فهم يخرجون من الدين دون أن يصيبوا منه خيرا كما يخرج السهم من جسم الحيوان الذي يرمى به قبل أن ينهار الدم فلا يلوث به، فينظر فيه المرء من أعلاه ومن أسفله فلا يرى فيه أثراً للدم، وهو كناية عن الخروج من الدين بأقصى سرعة. نسأل الله السلامة من شرهم.
4- أدعياء الزهد والصلاح والتقى.
وهؤلاء لو أنصفوا ما شددوا على أنفسهم، ولا بالغوا في حرمانها من الطيبات، ولكن الجهل بسماحة الدين ويسره قد حملهم على ذلك.
وقد كان منهم من يعيش في زمن النبي صلى الله عليه وسلم، فكان يلاحقهم كلما رأى منهم تشدداً، كالثلاثة الذين طافوا على بيوت نسائه – صلى الله عليه وسلم – فسألوهن عن عبادته، فأخبروا بها، فكأنهم تقالوها، فقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر الله له ما تقدم من ذنبه وما تأخر، فقال أحدهم: أنا أصوم النهار ولا أفطر، وقال الآخر: وأنا أقوم الليل ولا أرقد، وقال الآخر: وأنا لا أتزوج النساء.
فجاءهم رسول الله صلى الله عليه وسلم حين علم بأقوالهم فقال: "أنتم الذين قلتم كذا وكذا!! إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ ، لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأقُوم الليل وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
ونص الحديث في البخاري وقد تقدم ذكره عند الكلام في الزهد.
وقد رأيت في هذا الزمان قوماً صغار الأسنان سفهاء الأحلام يدعون العلم والمعرفة بأمور الدين وأحكامه وهم يجهلون أصوله وفروعه، ويقلدون البدو في فتاويهم، ويأخذون العلم ممن لا علم له فيضلون ويضلون.
وإذا قلت لأحدهم: قال الله وقال الرسول، قال: فلان يقول كذا، وفلان يقول كذا، وهم عندنا من الأئمة الأعلام.
وصدق فيهم المثل القائل: (أعور في حارة العمي سموه كحيل العيون).
ويصدق فيهم قول الشاعر:
إذا قالت حزام فصدقوها
فإن القول ما قالت حزام
* * *
وقوله – صلى الله عليه وسلم – في الحديث: "فَأَوْغِلُ فِيهِ بِرِفْقٍ" أي توغل في معرفة أحكامه وتعاليمه، وانهض في تأدية ما وجب عليك لكن برفق، بحيث لا تكلف نفسك فوق طاقتها، فإن التشدد في الدين أخطر من التهاون فيه، كما ذكرنا أكثر من مرة.
والفضيلة وسط بين رذيلتين هما الإفراط والتفريط.
قال تعالى: { وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا } (سورة البقرة: 143). أي خياراً عدولاً.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم إذا خير بين أمرين اختار أيسرهما ما لم يكن إثماً، كما ثبت في الحديث الصحيح.
ومن أجل الرفق بالنفس شرع الله الرُّخص لأصحاب الضرورات الشرعية؛ ليعلم كل مسلم أن من شاد الدين بغلوه وحماقته غلبه الدين بيسره وسماحته.
وقد تمثل النبي صلى الله عليه وسلم – في حديث البزار – بهذا المثل العربي: "إِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى" ليبرز المعاني التي تضمنها قوله في صور محسة مبالغة في توكيدها وتقويتها في الذهن، وتعميقها في القلب.
والمثل ما سمى مثلاً إلا لأنه يحفر له في الذهن مكانا فلا يكاد ينسى.
وَالْمُنْبَتَّ: هو المسرع الذي يأخذ الأمور بحماقة وتعجل فلا يصل إلى غرضه وربما يهلك نفسه ويكون سبباً في إهلاك غيره.
يقال: إن رجلاً كان يسير مع القافلة فسولت له نفسه أن يسبق الناس ليصل إلى الهدف قبلهم فينال ما لا ينالون، فأسرع بجمله واشتد عليه فيسقط الجمل به فمات هو والجمل، فجاء الركب فوجدوه هالكاً هو والجمل، فقال قائلهم: "إِنَّ الْمُنْبَتَّ لَا أَرْضًا قَطَعَ وَلَا ظَهْرًا أَبْقَى" فصير هذا القول مثلاً تناقلته الأجيال جيلاً بعد جيل.
* * *