البحث
لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
6553
2019/08/19
2024/11/17
عَنْ جَابِرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ:
"لَا تَعَلَّمُوا الْعِلْمَ لِتُبَاهُوا بِهِ الْعُلَمَاءَ، وَلَا لِتُمَارُوا بِهِ السُّفَهَاءَ، وَلَا تَخَيَّرُوا بِهِ الْمَجَالِسَ، فَمَنْ فَعَلَ ذَلِكَ فَالنَّارُ النَّارُ".
هذه وصية لمن يطلب العلم ويجد في طلبه ويقضي العمر في تحصيله، أن يتحلى بالإخلاص لله في طلبه، ويتزود بالتقوى؛ فإنها الطريق إلى فتح أبواب المعرفة.
فالإخلاص عليه مدار صحة الأعمال وقبولها، والتقوى هي جماع الفضائل كلها، فلن يصل إلى العلم النافع في الدنيا والآخرة إلا من طلبه لوجهه الكريم، واستعان على طلبه بالطاعة والخضوع، والتمسكن والتواضع لمن بيده مفاتيح العلم جميعها.
والعلم أسمى مطلب يسعى إليه المؤمن؛ لأنه مفتاح القلوب إلى الإيمان واليقين الصادق، فلا إيمان بلا علم، ولا يقين إلا بعد إيمان.
فمن اتسعت دائرة علمه انسرح صدره بالذكر، وانفتح عقله بالفكر، واتسع قلبه لمدارك الهدى والنور.
ولذا قال الله – تبارك وتعالى: { فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ } (سورة محمد: 19)
والمعنى: وَحِّد ربك توحيداً خالصاً مبنياً على العلم بالأدلة القاطعة على أنه لا معبود بحق إلا هو جل شأنه وعز جاهه.
فأهل العلم هم الشهداء على ذلك.
قال تعالى: { شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ } (سورة آل عمران: 18).
فمن أراد أن يفتح الله عليه أبواب العلم فليطلبه من الله وبالله ولله.
وذلك يتطلب من المتعلم أن يجرد نفسه من نزغات الهوى ونزوات الطمع والفخر والعصبية وحمية الجاهلية، والرغبة في طلب الرياسة والسيادة وعلو المنزلة في الدنيا.
لهذا أوصى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – من شَمَّرَ عن الجد في طلب العلم أن يصرف همتة عن الرغبة في مباهاة العلماء إذا ما فُتحت له أبواب العلم والمعرفة، فإن المباهاة – وهي الفاخرة – تقطع صلة العبد بربه، لأنها من الكبر بمكان، والمتكبر لا حظ له في رضا الله ولا نصيب له في الجنة.
والأدلة على ذلك كثيرة، قد مر بعضها وسيأتي بعضها في حديث آخر إن شاء الله.
ومباهاة العلماء – أيضاً – نوع من الجدل العقيم، والجدل مذموم كله إلا بالتي هي أحسن، والمباهاة من أسوأ السوء في بابه؛ لما يترتب عليها من إثارة الشحناء والبغضاء، وقطع الأواصر التي أمر الله أن توصل، ولما فيها من توسيع هوة الخلاف، الذي ليس من ورائه إلا الشر وإثارة الفتن، وإحياء العصبيات القبلية والمذاهب الباطلة، وإشاعة الشبهات والأباطيل بين الخواص والعوام.
والجدل يشتد خطره ويستفحل شره إذا كان مع السفهاء، وهم الذين خفت عقولهم، وضعفت عزائمهم، وفسدت نياتهم بسبب الجهل المركب، إذ لو كان بسيطاً لطلبوا العلم.
والجاهل جهلاً مركباً هو الأحمق الذي يَدَّعي ظلماً وزوراً أنه قد أوتى من العلم ما لم يؤته فلان وفلان، أو هو أبو العُريف كما يقول العوام، فهو بحمقه صار أحط من الحيوان شأناً، فالحيوان لديه إلهام بأنه جاهل، فجعله إذاً بسيط، بخلاف هذا الوغد المستكبر المغرور، فإنه لو كان يعلم أنه جاهل ما جادل العلماء في أمر لا يعلمه.
فإن جادلهم، فقد يكون له عذر، لكن أي عذر للعالم في مجادلته!!
لو كان عالماً حقاً لوسعه حلمه والتمس له الأعذار، وفض الجدال معه بأيسر أسلوب وفي أقصر وقت، بحيث لا يترك له مجالاً لتضييع وقته معه، فلا خير في علم إلا بحلم.
على أن من أكبر المصائب أن يماري العالم سفيهاً بقصد أن يغلبه ويلزمه الحجة، فإن ذلك أبعد إليه من نجوم السماء.
وما أحسن قول الشافعي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –:
يخاطبني السفيهُ بكل حمق فآبى أن أكــون لـه مجيباً
يزيــد سفاهةً وأزيــد حلماً كعود زاده الإحراق طيبا
وكذلك العالم الذي يبتغي بعلمه مجالس السلاطين والأمراء، فإنه لا يلبث حتى يحقره أدنى السفهاء، فيصير ذليلاً بما كان ينبغي فيه العزة؛ فإن العلم بلا إخلاص وتقوى يكون أخطر على صاحبه من الجهل نفسه.
وما أحسن قول الشاعر:
حَسْبِي بعلمي ما نَفَع ما الذل إلا في الطمع
مـن راقب الله نــزع عن قبح ما كان صنع
ما طار طير وارتفع إلا كمـــا طــار وقــع
وقال آخر:
نرف دنيانا بتمزي ديننا فلا الدين يبقى ولا ما نرقع
وفي آخر هذه الوصية وعيد شديد لمن فعل ذلك، لأن هذا الفعل بعيد عن الإخلاص والتقوى كل البعد، لما في ذلك الفعل من الكبر العجب والغرور والرياء وحب الظهور وغير ذلك من الآفات المهلكة.
قال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : "أشد الناس عذاباً يوم القيامة عالم لم ينفعه علمه".
وقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : "مَنْ تَعَلَّمَ عِلْمًا مِمَّا يُبْتَغَى بِهِ وَجْهُ اللَّهِ – عز وجل - ، لَا يَتَعَلَّمُهُ إِلَّا لِيُصِيبَ بِهِ عَرَضًا مِنْ الدُّنْيَا لَمْ يَجِدْ عَرْفَ الْجَنَّةِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ". يَعْنِي رِيحَهَا.
ويستفاد من هذه الوصية فوائد كثيرة منها:
1- الإخلاص في طلب العلم، بمعنى أن الطالب ينبغي أن يبتغي بعلمه وجه الله تعالى لا لدنيا يصيبها ولا لوظيفة تسند إليه ولا لجاه يحصل عليه.
فمن طلب العلم لغير الله استعصى عليه، ولم ينتفع بما حصل منه.
قال الشافعي – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –: طلبنا العلم زمانا لغير الله فأبي إلا أن يكون لله.
والمعنى: طلبنا العلم لذات العلم، ولما فيه من رفعة شأن وعظمة جاه – فلم نجد له حلاوة ولم يفتح الله علينا فيه فتحاً، فلما أخلصنا النية وأصلحنا الطوبة جاءنا من العلم ما لم يأتنا من قبل.
وما أحسن قول القائل:
تَعَلَّم ما استطعت لقصد وجهه فإن العلم من سفن النجاة
ومن طلب العلوم لغير وجهه بعيداً أن تـراه من الهــداة
وقد أشرنا إلى هذه الفائدة من قبل فلا نطيل الكلام فيها.
2- الانقطاع لطلب العلم وترك ما يشغل عنه من مماراة العلماء ومجادلة السفهاء وقضاء الوقت في مجالس السوء ومحاباة الحكام وأهل الثراء.
قال حذيفة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –: إياكم ومواقف الفتن، فيل: وماهي؟، قال: أبواب الأمراء، يدخل أحدكم على الأمير فيصدقه بالكذب، ويقول ما ليس فيه.
وقال سعيد بن المسيب – رحمه الله – : إذا رأيتم العالم يغشى الأمراء، فاحذروا منه فإنه لص.
وقال بعض السلف: إنك لا تصيب من دنياهم شيئاً إلا أصابوا من دينك أفضل منه.
3- استثمار العلم فيما ينفع في الدنيا والآخرة، فإن العلم قدرة وقيمة.
وقدرته تتجلى في تقويم صاحبه وتوجيهه إلى الطرق المثلى في استغلال أوقاته وممارسة حياته والمحافظة على دينه وعرضه.
وقيمته تتمثل في أعظم أنواعه وأنفعها كالعلوم الدينية واللغوية وغيرها مما ينبغي طلبه.
وأعظم قيمة للعلم أن يُعرفك بالله ويبعدك عن الدنيا ويقربك من الآخرة.
على أن البعد عن الدنيا بالكلية أمر غير مشروع، ولكن البعد المقصود هو ألا يجعلها مبلغ همه ومنتهى أمله.
قال شقيق البلخي – رحمه الله – لحاتم: قد صحبتني مدة، فماذا تعلمت؟
قال: ثمانية مسائل:
أما الأولى: فإني نظرت إلى الخلق، فإذا كل شخص له محبوب، فإذا وصل إلى القبر فارقه محبوبه، فجعلت محبوبي حسناتي لتكون في القبر معي.
وأما الثانية: فإني نظرت إلى قول الله تعالى: { وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى} (سورة النازعات: 40). فأجهدتها في دفع الهوى حتى استقرت على طاعة الله تعالى.
وأما الثالثة: فإني رأيت كل من معه شيء له قيمة عنده يحفظه، ثم نظرت في قوله سبحانه وتعالى: { مَا عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَمَا عِنْدَ اللَّهِ بَاقٍ } (سورة النحل: 96) فكلما وقع معي شيء له قيمة، وجهته إليه ليبقى لي عنده.
وأما الرابعة: فإني رأيت الناس يرجعون إلى المال والحسب والشرف، وليست بشيء، فنظرت في قوله تعالى: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (سورة الحجرات: 13) فعملت في التقوى لأكون عنده كريماً.
وأما الخامسة: فإني رأيت الناس يتحاسدون، فنظرت في قوله تعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ } (سورة الزخرف: 32) فتركت الحسد.
السادسة: رأيتهم يتعادون، فنظرت في قول الله تعالى: { إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا } (سورة فاطر: 6) فتركت عدواتهم واتخذت الشيطان وحده عدواً.
والسابعة: رأيتهم يذلون أنفسهم في طلب الرزق، فنظرت في قوله تعالى: { وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا } (سورة هود: 6). فاشتغلت بما له علي وتركت ما لي عنده.
والثامنة: رأيتهم متوكلين على تجارتهم وصنائعهم وصحة أبدانهم، فتوكلت على الله تعالى.
هذا – والله – هو العلم النافع المثمر الموصل إلى الله تعالى، رزقنا الله وإياكم من لدنه علماً ينفعنا في ديننا ودنيانا.