1. المقالات
  2. الحوار في السيرة النبوية _ السيد علي خضر
  3. ضرورة الحوار وأهميته

ضرورة الحوار وأهميته

 

ضرورة الحوار وأهميته

خلق الله تعالى الناس مختلفين، تلك سنته في خلقه، وقضت سنته التي لا تتبدل أن يبقوا هكذا في حياتهم الدنيا حتى يلتقوا عنده يوم الدين، قال سبحانه ] وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ. إِلا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لأَمْلأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ (هود:118-119) واختلاف قدرات البشر الفكرية والعلمية داع للاختلاف حتى بين أهل الدين الواحد والمذهب الواحد، تلك طبيعة البشر التي لا تنكر.

ومع هذا الاختلاف والتنوع أراد الله تعالى لخلقه منهجاً واحداً دعاهم إليه ولم يجبرهم عليه إجباراً، ليكون بعد ذلك حساب وجزاء، أراد الله تعالى منهم أن يعبدوه وحده ] وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلاّ لِيَعْبُدُونِ [ (الذاريات:56).

وهذه الإرادة لكي تتحقق في واقع الثقلين المكلفين: الجـن والإنس لا بدَّ لها من فطرة سليمة مركوزة في أصل الخلق، وقد تكفل الله تعالى للثقلين بذلك â فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ á(الروم:30) وقال النبي r:" مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلا يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ، فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ أَوْ يُنَصِّرَانِهِ أَوْ يُمَجِّسَانِهِ، كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ، هَـلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاء؟ ثُمَّ يَقُولُ â فِطْرَةَ اللَّهِ..á الآية " ([1]).

ثم إن الناس بعد ذلك محتاجون إلى نبوة هادية لتبليغ الشرع أو المفهوم الصحيح للعبادة من الله عز وجل إلى خلقه، فصارت النبوات ضرورة للهداية  إذ لا هداية بدون نبوة، إن الناس يختلفون في كـل شيء تقريباً، إذْ ما من شيء نعلمه إلا واختلف الناس حوله، إن الشمس والقمر مخلوقان، لا يكاد أحد ينكر كونهما جرمين من أجرام السماء، ولكن الناس اختلفوا حولهما، حتى عبدهما بعض الخلق، ولذا ورد النهي عن عبادتهما ] وَمِنْ آيَاتِهِ اللَّيْلُ وَالنَّهَارُ وَالشَّمْسُ وَالْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَلا لِلْقَمَرِ وَاسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ [(فصلت:37) وكذلك اختلف الناس في الملائكة والأنبياء والملوك.. كل ذلك يختلف حوله الناس، وفوق هذا كله اختلفوا في ربهم الواحد الأحد سبحانه ] هَذَانِ خَصْمَانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ[ (الحج:19) ومن هنا كانت ضرورة النبوات الهادية قبل الحساب والثواب والعقاب.

هذا التنوع الداعي إلى الاختلاف يحتاج إلى سبل لإزالة الاختلاف أو تقليل مخاطره ليتقارب الناس، ومن ثم دعاهم الله عز وجل إلى الحوار والتعارف دعوة صريحة ] يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ [ (الحجرات:13) لقد أمرهم بالتعارف، ووسيلته الأولى إقامة الحوار بين الأفراد والقبائل والشعوب والحضارات ليتعارف الناس، إن " الحوار يتطلب أولاً وقبل كل شيء الاعتراف بحتمية وجود الاختلاف بمعنى التنوع في الحياة الإنسانية المطلقة، الأمر الذي يترتب عليه مبدأ الاعتراف بوجود الآخر وأحقيته في الوجود " ([2]).

إن كل النبوات التي عرفناها من القرآن الكريم أقامت حواراً صادقاً هادياً منيراً مع الشعوب التي أُرسل إليها الأنبياء والمرسلون، كل الأنبياء والرسل كانت لهم حوارات ولقاءات ودعوات إلى الله، والقرآن يذكر صوراً بديعة من تلك الحوارات التي أقامها الأنبياء مع أقوامهم.

لقد خلق الله الإنسان حراً عاقلاً مختاراً، ولأنه كذلك فقد " اقتضت حكمة الله تعالى أن تكون دعوة الإنسان إلى الإسلام من خلال الحوار والإقناع وخطاب العقل، وأن لا يُجبر أحد على اعتقاد ما لا يقتنع به، وأن لا يُحمل السلاح على معارض أو مخالف إلا في الحالات التي يصل فيها الحوار إلى طريق مسدود " ([3]).

الحوار إذاً ضرورة للدعوة إلى الله، ووسيلة مثلى من وسائل الدعوة إلى الله  إن اللقاء وجهاً لوجه والاستماع إلى الكلام وما يصاحب الحالة الحوارية من حضور وملابسات وإشارات حالة مثلى لنقل الأفكار والدعوات، إن الحوار المباشر يعدل كتابة رسالة وإرسالها مرات ومرات على سبيل المثال.

وقد صار لفن الحوار في الثقافات المعاصرة أهمية كبرى، ليس في مجال العلاقات المتنوعة بين الدول والجماعات فحسب، بل في مجال الأدب والمسرح والسينما والتلفاز كذلك، وانبثق عن فن الحوار فن التفاوض وإقامة العلاقات وإدارة المحاورات.

لقد توصّلت الإنسانية بعد جهد جهيد وبصورة ناقصة غير مكتملة إذاً لما أصّله القرآن والسنة النبوية منذ أربعة عشر قرناً، توصلت الإنسانية إلى تأسيس فنون للحوار والتفاوض والإقناع، وهي فنون تكاد أمتنا المعاصرة تهملها في دعوتها إلى الله تعالى، في حين تستغلها أمم أخرى أحسن استغلال في نشر مبادئها وعقائدها.

نقولها إذاً بصراحة تدعو إلى الإصلاح لا إلى التبكيت والتأنيب: لقد أهملنا كثيراً فنون الحوار التي أصّلها القرآن ورسول الإسلام r في الدعوة إلى الله تعالى، وفي إظهار الحق الذي عندنا، ودرء المخاطر المحدقة بأمة الإسلام من كل حدب.

إن البشرية بعد تراكم الخبرات لعشرات القرون في مجال الآداب والفنون صارت تتوصل إلى قواعد فنية تحكم الآداب والفنون، وصارت هنالك مدارس لتعليم فنون الحوار والتواصل مع الآخرين ([4]) وكيفية كتابة الحوار في المسرح والسينما وغير ذلك، ومع هذا التراكم المعرفي واستمرار التحسين والتنقيح نجد أن البشرية في النهاية تصل إلى بعض ما استعمله القرآن في أسلوبه الفذ المحكم الجميل من تقنيات للقص والسرد والحوار، مع أصول آداب التحاور التي تستخلص منه ومن سنة النبي r وسيرته.

وهـا هنا أمر جدّ خطير يغفل عنه كثير من الناس، وهو مراعاة المرجعية والضوابط الشرعية في القرآن الكريم، وافتقادها في كثير من صور الفنون الحوارية التي أقامها البشر، وهذا في الحقيقة مناط الأمر كله، فالعمل في التصور الإسلامي أياً كان لا بد له من نية وقانون يحكمه، وعليه حساب فثواب أو عقاب، والمحصلة النهائية توضع في ميزان العبد يوم القيامة، هذا فارق جوهري لا يعبأ به كثير من الناس حين تقوم المقارنة بين منهج الله ومناهج البشر.

إن الحديث إذاً عن فوائد الحوار وأهميته سيبدو متشعباً، وسنجد لـه أصداء متنوعة في مباحث هذه الدراسة، ولكني أجمل بعضها إجمالاً في نقاط، تاركاً التفصيلَ والتحليلَ لمواضعه من هذه الدراسة.



[1]- رواه البخاري (1358) ومسلم (6755).

[2] - د/ رقية طه جابر العلواني: فقه الحوار مع المخالف في ضوء السنة النبوية:55-56، نشر مؤسسة جائزة نايف بن عبد العزيز آل سعود للسنة النبوية والدراسات الإسلامية المعاصرة، المدينة المنورة ط1 1426هـ- 2005م.

[3] - د / أحمد محمد مفلح القضاة : حوار النبي r مع قومه كما يعرضه القرآن،  بحث مقدم إلى مؤتمر الحوار مع الآخر في الفكر الإسلامي في مدينة الشارقة في دولة الإمارات العربية المتحدة في الفترة من 28 – 30/3/1428هـ، نسخة محملة من شبكة الإنترنت:

www.wasatyea.org/modules

[4]- انظر على سبيل المثال معلومات عن مشروع جامعة هارفارد الأمريكية للتفاوض ، وهو من أكبر المشروعات على مستوى العالم، انظرها في: مقدمة في علم التفاوض الاجتماعي والسياسي (مرجع سابق) ص:50 وما بـعدها.

المقال السابق المقال التالى
موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day