البحث
أمرنا رسول الله بسبع ونهانا عن سبع - الجزء السادس
سادسا نصر المظلوم فهو من أوجب الواجبات وأعظمها أجراً عند الله عز وجل، وهو مروءة لا يتخلى عنها المؤمن ما دام فيه عرق ينبض، وهو التعاون على البر والتقوى في أسمى مظاهره، وأرقى معانيه، وهو العدل الذي قامت به السماوات والأرض. وقد وردت في نصر المظلوم أحاديث كثيرة منها: (أ) ما وراه البخاري في صحيحه عن أنس بن مالك – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "انْصُرْ أَخَاكَ ظَالِمًا أَوْ مَظْلُومًا قالوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ ننصَرْهُ مَظْلُومًا فَكَيْفَ ننْصُرُهُ ظَالِمًا؟ قَالَ تاخذ فوق يديه" أي تَضع يَديك فَوق يَديه، وَتَمنعهُ مِن ضَرب أَخِيهِ، وفي رواية للترمذي قال: "تَكُفُهُ عَنْ الظُّلْمِ فَذَاكَ نَصْرُكَ إِيَّاهُ". (ب) وروى البخاري أيضاً عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنَّ الْمُؤْمِنَ لِلْمُؤْمِنِ كَالْبُنْيَانِ يَشُدُّ بَعْضُهُ بَعْضًا وَشَبَّكَ أَصَابِعَهُ". أي إن المؤمن عون لأخيه المؤمن في السراء والضراء، فهو لبنة في بناء شامخ بعضه آخذ بحجر بعض، لا تستغني لبنة عن الأخرى، فهي مشدودة برباط واحد لا فرق بين لبنة عن الأخرى. فالمؤمنون إخوة جمعتهم كلمة الإيمان، ووحدت صفوفهم قبلتهم فكانوا جميعاً رجلاً واحداً على من يعاديهم، وقلباً واحداً يشعر كل بشعور أخيه، ويحس تجاهه بالألفة الروحية فيجتمعون على حب الله تعالى، ويتفرقون عليه، فلابد أن ينصر المؤمن أخاه في جميع المواطن على من يعاديه ما استطاع إلى ذلك سبيلا، وينصره – كذلك – على من ظلمه من المؤمنين أنفسهم. قال تعالى في سورة الحجرات: { وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ } (الحجرات:9-10). وسيأتي الكلام عن نصر المظلوم بأوسع من ذلك في حديث آخر إن شاء الله تعالى. * * * سابعا قوله: "وإبرار المقسم" فمعناه: الاستجابة له فيما طلبه وأقسم عليه إن كان ما طلبه في قدرته، ولم يكن محرماً، ولا منافياً للمروءة، وكان المقيسم رجلاً صالحاً، وإلا لم يلزمه البر يقسمه لا على سبيل الوجوب ولا على سبيل الندب. والمسلم مطواع لأخيه المسلم، يكون عند حسن ظنه دائماً، لا يخيب رجاءه، ويخذله، ولا يحقره، ولا يحرجه، ولا يجد منه ما ينقبض له صدره، على أنه لا ينبغي للمسلم أن يحلف بالله على كل شيء يريد فعله أو تركه، فإن ذلك يعد استخفافاً بالمقسم به – تعالى الله عن ذلك علواً كبيراً – وحاشانا أن نضل بعد الهدى، أو نجعل الله عرضة لإيماننا، فقد نهانا الله عن ذلك بقوله في سورة البقرة: { وَلَا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (البقرة: 224). أي لا تعرضوا اسم الله للحلف به، أن تبروا بوعد، أو توفوا بعهد، أو تتقوا شيئاً كنتم تفعلونه، أو أن تصلحوا بين متخاصمين. أو المعنى: لا تجعلوا الله عرضة لإيمانكم لئلا تبروا بأقربائكم وأصدقائكم وجيرانكم، أو ألا تتقوا شيئاً أمرتم باتقانه وتركه، أو ألا تصلحوا بين الناس اتقاء لشرهم، وابتعاداً عنهم، فإن ذلك لا يليق بالمسلم. قال ابن كثير في تفسير الآية: {لَا تَجْعَلُوا} أيمانكم بالله تعالى مانعة لكم من البروصلة الرحم إذا حلفتم على تركها، كقوله تعالى: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبَى وَالْمَسَاكِينَ وَالْمُهَاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلَا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } (سورة النور: 22). فالاستمرار على اليمين آثم لصاحبها من الخروج منها بالتكفير كما قال البخاري. أ.هـ. فقد روى عن أبي هريرة – رضي الله عنه – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "وَاللَّهِ لَأَنْ يَلَجَّ أَحَدُكُمْ بِيَمِينِهِ فِي أَهْلِهِ آثَمُ لَهُ عِنْدَ اللَّهِ مِنْ أَنْ يُعْطِيَ كَفَّارَتَهُ الَّتِي افترَضَ اللَّهُ عليه". ومعنى يلج بيميه: يتمادى في الأمر الذي حلف عليه ولو تبين له خطؤه. وروى البخاري ومسلم في صحيحهما عن أبي موسى الأشعري – رضي الله عنه – أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: "إِنِّي وَاللَّهِ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - لَا أَحْلِفُ عَلَى يَمِينٍ فَأَرَى غَيْرَهَا خَيْرًا مِنْهَا إِلَّا أَتَيْتُ الَّذِي هُوَ خَيْرٌ وَتَحَلَّلْتُهَا". وقد حلف أبو بكر – رضي الله عنه – إلا ينفق على مسطح بن أثاثة؛ لأنه اشترك مع المروجين لحديث الإفك، فنهاه الله عز وجل أن يتمادى في الأمر الذي حلف عليه، ورغبه في فعل الخير، والعفو والصفح، ووعده على ذلك بالمغفرة والرحمة، فأعاد الإنفاق عليه، وكفر عن يمينه، وفي شأنه أنزل الله الآية السابقة وهو قوله تعالى: { وَلَا يَأْتَلِ أُولُو الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَالسَّعَةِ } أي: ولا يحلف أولو التفضل والإنعام والسعة في المال أن يمنعوا رفدهم عن ذوي القربى والمساكين، والمهاجرين في سبيل الله. وكان مسطح بن أثاثه ابن خالته، وقد عطف الله قلبه عليه بعد أن أنزل الله براءة أم المؤمنين عائشة وصفوان بن المعطل، وطابت النفوس المؤمنة، واستقرت وتاب الله على من كان تكلم من المؤمنين في ذلك، وأقيم الحد على من أقيم عليه. * * *