البحث
الشبهة الخامسة : حرق كتب الحديث؟!
رددت الصحف والمجلات في الآونة الأخيرة هذه الشبهة كثيراً، في مقالات لزنادقة العصر، الكارهين لما أنزل الله وما قال رسوله.
كما رددها بعضهم في كتب وضعوها خصيصاً لنسف السُّنَّة النبوية من الوجود. ثم أحاطوا بهالة جوفاء من التهويل، حتى ليخيل لقاريء مقالاتهم وكتبهم أن دخان الحرائق التي اشتعلت في كتب الحديث كاد يحجب ضوء الشمس، وأن رائحته ما تزال تزكم الأنوف.
ومبالغة في التهويل ادعوا إشعال هذه الحرائق في ثلاثة أعصر شديدة الحساسية في الإسلام.
- عصر النبي نفسه صلى الله عليه وسلم؟
- عصر الصديق أبي بكر رضي الله عنه؟
- عصر الفاروق عمر بن الخطاب رضي الله عنه؟
إنهم يريدون أن يوهموا العامة أن التمسك بالسنة والإيمان والعمل بأحاديث ذي الخلق العظيم، إنما هو بدعة وضلالة ليست من الدين في شيء وإذا كان حرق كتب الحديث قد حدث في عصر النبوة، وعصر صاحبيه الجليلين أبي بكر وعمر، فماذا تنتظر الأمة – الآن – من بقاء البخاري ومسلم وسائر كتب الحديث إلا خيبة الرجاء؟ إنهم يهيبون بالأمة أن تشعل الحرائق من جديد في ما يعرف بـ"كتب الحديث" لتنجو من الضلال والضياع الذي هي فيه.
بل يرى بعضهم أن إيمان الأمة بالحديث النبوي والعمل به، واعتباره مصدراً للتشريع هو التحول الخطير الذي نُكبت بسببه الأمة، وأن القرآن كان قد تنبأ به وأعلنه في قوله تعالى: { وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئًا } (سورة آل عمران: 144).
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
هذه الشبهة مبالغ فيها من قبل الذين يروجون لها الآن، بل هي أقوال مذكورة على عواهنها لا تثبت أمام النقد.
وأشهرها، بل وأقواها الواقعة المنسوبة إلى أبي بكر الصديق رضي الله عنه. فقد ذكرها الإمام الذهبي في كتابه [تذكرة الحفاظ: ح1 ص 5] مع سند طويل لها نقله الحاكم، والقصة بتمامها مع حذف السند، جاء فيها:
"قالت عائشة: جمع أبي بكر الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكانت خمسمائة حديث، فبات ليلته يتقلب كثيراً. فغمنى فقلت: أتتقلب لشكوى أو لشيء بلغك؟ فلما أصبح قال: أي بنية، هلمي الأحاديث التي عندك فجئته بها، فدعا بنار فأحرقها؟ فقلت: لم أحرقتها؟ قال: خشيت أن أموت وهي عندي فيكون فيها أحاديث عنها رجل أئتمنته ووثقت [فيه] ولم يكن كما حدثني، فأكون قد نقلت ذاك".
هذه هي القصة، والإمام الذهبي من عادته في هذا الكتاب أن يسرد الأقوال دون التعليق عليها، ولكنه علق على هذه الرواية بقوله: "فهذا لا يصح، والله أعلم".
والذهبي إمام لا يشق له غبار في علوم الحديث ونقده وعبارته هذه ذات دلالة قاطعة على شكه في صحة هذه الرواية.
أما نحن فنرى صحتها وعدم صحتها سواء في أنها تخلو من الغرض الذي أراده منها زنادقة العصر، وأعداء سنة صاحب المقام المحمود.
هم يريدون منها أن أبا بكر رضي الله عنه أحرق ما عنده من أحاديث باعتبارها زيادة في الدين لم يأذن الله بها، أو – على الأقل – لعدم الثقة في رواة الأحاديث جميعاً. وما دام أبو بكر – مع صحبته وقرب عهده بالرسول قد تشكك إلى هذا الحد في بطلان الرواية عنه، فما بال الأمة في عصر "العولمة" تحتفظ بهذه الأحاديث؟ أليس لهم في صنع أبي بكر أسوة حسنة؟ أم هي الآن أدري بالسُّنَّة من أبي بكر رفيق النبي في الغار، وصاحبه الذي ما كان يمر يوم دون أن يراه ويسمعه؟!
إن هذه القصة على فرض صحتها ليس فيها دليل على ما أرادوه منها:
فأبو بكر رضي الله عنه تردد في صدق الذي أملي عليه مجموعة الأحاديث، فسارع – احتياطاً – إلى إعدامها بالحرق، حتى لا تنشر بين الناس أحاديث لم يتثبت كل التثبت من صدق صدورها عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
إنه لم يحرقها – إن كان حقاً قد حرقها – لأنها ليست من الدين كما يدعي منكرو السُّنَّة.
ولم يحرقها لعدم الثقة في رواة الأحاديث كلهم كما يروج الآن منكرو السُّنَّة الأغبياء.
وإنما حرقها لتردده في صدق راو واحد، هو الذي أملي عليه تلك الأحاديث.
وأبو بكر- مع هذا – لم يتهم من روى له تلك الأحاديث بالكذب عن رسول الله متعمداً، لأنه صحابي، والصحابة كلهم عدول بشهادة القرآن نفسه، وإنما هناك أسباب تحمل أصحاب الورع والتقوى من أمثال أبي بكر على دقة التحري، وترك ما يريب إلى ما لا يريب.
إن الحق قريب من طلابه المخلصين له، ولكن العناد يورد صاحبه المهالك. وأولى الناس وأقربهم من الهلاك المعاندون.
* * *