البحث
الشبهة الثالثة والعشرون : الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ
الجهل، وصنوه الغباء، لهما أثر واضح في مغالطات منكري السُّنَّة، وقد أشرنا إلى هذا مرات في ما تقدم وها هو ذا يتضح مرة أخرى، في ترديدهم هذه الشبهة؛ لأننا رأيناهم يستدلون على أن السُّنَّة زيادة في الدين وبدعة ضالة استناداً إلى هذه الآية الحكيمة: "الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ".
ووجه استدلالهم بهذا الآية على إنكار السُّنَّة وأنها بدعة وزيادة في الدين:
إن هذه الآية نزلت في أواخر حياة النبي صلى الله عليه وسلم ولم يكن للسُّنَّة وجود، لأن السُّنَّة جُمِعَت ودونت في القرن الثالث الهجري، فلو كان الدين وكماله متوقفاً عليها ما قال الله تعالى: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } ولما كان لهذه الآية معنى على الإطلاق يوم نزلت.
ويستخدم واحد منهم هذا الغباء في عدم الاحتياج إلى صحيحي البخاري ومسلم خاصة، فيقول:
هل كانت الأمة ضالة حتى كتب البخاري ومسلم صحيحيهما؟ جاء هذا في مناظرة أذاعتها محطة "أوريت" الفضائية مساء الجمعة 2/6/1999م.
كما ذكرها كاتب سوري اسمه "محمد شحرور" في كتاب له دعاه: الكتاب والقرآن، قراءة معاصرة، وعقد فصلاً ضافياً عن السُّنَّة أخرجها عن منزلتها عند المسلمين وقد تقدمت الإشارة من قبل إلى هذا الكاتب والكتاب.
تفنيد هذه الشبهة وتفضها:
لا نرانا في حاجة، إلى تطويل في تفنيد هذه الشبهة ونقضها، فهي أخف من جناح البعوضة، ولو كان عند منكري السُّنَّة ذرة من الفهم لآثروا السكوت على النطق بها، ولكن بغضهم لسنة الرسول الكريم أعماهم حتى عن رؤية موضع أقدامهم.
إن وجود السُّنَّة – عندهم – يبدأ بجمعها وتدوينها فقط لذلك جزموا بعدم وجودها في القرنين الأول والثاني الهجريين، وشطر من القرن الثالث؟!
ونوجه إليهم هذا السؤال:
من أين جمع علماء الحديث السُّنَّة في القرن الثالث؟! هل هم ابتدعوها ابتداعاً من عند أنفسهم، وانتحلوها كانتحال الشعر الجاهلي حسب مزاعم المستشرقين أسيادكم؟ أم جمعوها من حفاظها ومصادرها التي سمعتها عن الرواة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟
إن قلتم ابتدعوها ابتداعاً من عند أنفسهم فلا كلام لنا معكم، وإن قلتم جمعوها من صدور حفاظها الثقات قلنا لكم:
إذن السُّنَّة كان لها وجود في حياة النبي صلى الله عليه وسلم قبل الهجرة، وبعد الهجرة، لأن السُّنَّة هي أقواله وأفعاله وتقريراته. فهي كانت كالزرع ينمو ويتكاثر على مدى حياة من أرسله الله رحمة للعالمين.
وإذا كان هذا هو الواقع فلماذا تفرقون بين الحفظ في الصدور، والخط في السطور.
إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأمصار عقب وفاة صاحب الرسالة وأحلوا بها وفي صدورهم وعلى ألسنتهم أحاديث النبي عليه السلام وسمعها منهم التابعون في كل مصر من الأمصار التي فتحها الإسلام. وكانت هذه السُّنَّة مصابيح هدى بعد القرآن لدى المسلمين الأوائل.
ولذلك لما رأى الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز جمع السُّنَّة وتدوينها على نطاق واسع، دبت حركات الجمع في كل الأقطار.
في المدينة، وفي مكة، وفي البصرة، وفي الكوفة، وفي اليمن وفي خراسان، وفي واسط، وفي مصر، وفي غيرها.
وإن النهي عن كتمان العلم، والسُّنَّة من أشرف العلوم الإسلامية، كان يوحي لحفاظ السُّنَّة من الصحابة رضي الله عنهم أن يحدثوا بها الناس، ويبلغوها كما يبلغون القرآن.
ومن هذا يتبين أن السُّنَّة كان لها وجود قوي يوم نزل قوله عز وجل: { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ } وكانت هي من عناصر كمال الدين الخالد العظيم.
كما كان لهذه السُّنَّة حياة، وأي حياة، في عصر الخلفاء الراشدون الأربعة، قبل عصر عمر بن عبد العزيز بأكثر من خمسين عاماً، فكل منهم – رضي الله عنهم – كان يعمل في حكمه وقضائه وسلوكه وفتاويه بالكتاب العزيز، ثم بالسُّنَّة الطاهرة إذا لم يجدوا في كتاب الله نصاً فيه حكم ما يعرض لهم من مشكلات.
الحفظ أمكن للوجود من التدوين:
إن أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلة الحفظ لقصرها وسداد معانيها وجمال ألفاظها وبلاغة مبانيها والعرب لأنهم كانوا أميين، كان اعتمادهم على الحفظ ملكة راسخة فيهم، وقل منهم من كان يخلو من هذه الملكة وحفظهم للأحاديث القصار لم يكن أصعب عليهم من حفظ الأنساب ووقائع الأيام والقصائد الطوال.
والذاكرة التي استطاعت حفظ كتاب الله عز وجل – على طوله – لم يكن ليعجزها أن تحفظ عشرات الأحاديث التي سمعتها من صاحب الرسالة.
وحفظ السُّنَّة أمكن لوجوده قبل الجمع والتدوين من الجمع والتدوين.
لأن الحافظ يحدث بما يحفظ أكثر وأيسر وأسرع من أن يحدث من كتاب.
والكتب لا يحملها صاحبها أين حل، أما حفظه في صدره فهو ملازم له ملازمة الظل للعود.
إن ضخامة الخطأ في هذه الشبهة وترديدها لا ينازع فيه منصف، فكفاكم يا منكري السُّنَّة تهافتا ومكابرة، وأعلموا أنكو لن تفلحوا أبداً في إنكار السُّنَّة ولو شا الغراب أو باض الديك.
* * *