البحث
الشبهة الثانية: النهي القرآني عن الإيمان بالسنة والعمل بها
هذه الشبهة (الطريقة الظريفة) من اختراعات زنادقة العصر، وقد رددها شرذمة منهم عندنا في مصر، من خلال الصحف الجديدة، التي تبحث لها عن قراء، ودأبت على السير في الممنوع، أو اقتحام الحواجز بلا وازع من دين أو خلق، وتحت مقولة "قبول الآخر".
وإنما أطلقنا عليها عبارة "الشبهة الطريفة الظريفة" لأنها تثير الضحك من الأعماق على جهل وجهالة من يذيعونها، ويروجون لها. وهم إذ يستخفون بعقول القراء، وإدارات الصحف التي تنشر لهم، يقيمون أقطع الأدلة على أنهم لا عقول لهم، لأن هذه الغرائب لا تصدر عن من له مثقال ذرة من عقل.
ولا يوجد على ظهر الأرض مؤمن ولا كافر يقبل هذا الهراء.
فالمؤمن والكافر لا يريان أن بين القرآن وبين سُّنة من أنزل الله عليه القرآن عداءً أو مجافاة.
والعنوان الذي صغناه لتصوير هذه الشبهة يقتضي أن يكون لهؤلاء الزنادقة، الذين اخترعوا هذه الشبهة أدلة من آيات القرآن يكون معناها: لا تؤمنوا بسُّنَّة رسول الله، ولا تتبعوها في حياتكم، لأن الإيمان بها كفر، والعمل بها ضلال؟!.
والواقع أن هؤلاء الزنادقة عمدوا إلى آيتين من كتاب الله العزيز، واستدلوا بهما – جهلاً وحماقة – على هذه الشبهة النكراء.
إحدى الآيتين هي قوله تعالى: { اتَّبِعُواْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاءَ قَلِيلاً مَا تَذَكَّرُونَ } (سورة الأعراف: 3).
والثانية هي: { أَوَلَمْ يَنظُرُواْ فِي مَلَكُوتِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِن شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَن يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } (سورة الأعراف: 185).
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
فقد صور لهم جهلهم، أو أرادوا هم أن يصوروا للناس بعنادهم أن محمداً صلى الله عليه وسلم ولي من دون الله؟ وأن هديه وإرشاده وبيانه للقرآن الذي أنزله الله عليه دين آخر غير الدين الذي بعثه الله به، فحذرهم الله من الإيمان بسنته والعمل بها؟!
أرأيت جهلاً أجهل من هذا الجهل؟ أم أرأيت عناداً وحماقة أشنع من هذا العناد، وتلك الحماقة؟ وكيف يكون محمد صلى الله عليه وسلم بهذه المنزلة التي تناصب الله فيها العداء؟ والله يقول له قبل هذه الآية مباشرة: { كِتَابٌ أُنزِلَ إِلَيْكَ فَلاَ يَكُن فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِّنْهُ لِتُنذِرَ بِهِ وَذِكْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ } (سورة الأعراف: 2).
أما قوله تعالى: { اتَّبِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكُم مِّن رَّبِّكُمْ وَلاَ تَتَّبِعُواْ مِن دُونِهِ أَوْلِيَاء } (سورة الاعراف: 3). فهي تثبيت للمؤمنين على ما بعث الله به محمداً صلى الله عليه وسلم، ونهى عن اتباع سبل الباطل وعبادة الأصنام والأوثان، والاعتقاد في غير الله تعالى نافعاً ضاراً، خالقاً رازقاً محيياً مميتاً، رافعاً خافضاً، مبدئاً معيداً... إلخ.
هلا سأل رءوس الجهل والضلال هؤلاء أنفسهم: كيف يبعث الله رسولاً، وينزل عليه وحياً، ثم يتخذ منه منافساً له، ويحذر من أرسله إليهم من اتباعه؟ إنهم – بهذا – يسيئون إلى الله جل شأنه، ويصفونه بما لا يليق بجلاله وحكمته.
رحم الله شاعر النيل حافظ إبراهيم القائل:
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحك كالبكاء
أما الآية الثانية، فهي حديث صريح عن المكذبين بآيات الله، الذين آثروا الكفر على الإيمان.
وقد جاءت الآية في هذا السياق القرآني الحكيم { وَالَّذِينَ كَذَّبُوا بِآيَاتِنَا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَأُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ أَوَلَمْ يَتَفَكَّرُواْ مَا بِصَاحِبِهِمْ مِّن جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ أَوَلَمْ يَنظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْءٍ وَأَنْ عَسَى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } (سورة الأعراف: 182- 185).
إن هذه الآيات جميعاً تنعي على الكافرين كفرهم، وتشير إلى دلائل الإيمان اللائحة أمامهم، وتضفي هالة عطرة من الثناء على رسوله الكريم، والحديث المذكور في هذه الآية { فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ } هو حديث الإيمان في دلائله، ومظاهره العلوية والسفلية، فكيف فهم هؤلاء الأغبياء أن الآية فيها تنظير بين القرآن وبين حديث من أنزل الله عليه القرآن، وأن الاستفهام الإنكاري ورد في الآية للتحذير من اتباع الحديث النبوي؟ أليس هذا أغرب ما يقع في وهم واهم، أو تخليط محموم؟ لو كان محمد صلى الله عليه وسلم عند الله كما يزعم هؤلاء الأغبياء لما أرسله رحمة للعالمين، وهادياً ومبشراً ونذيراً.
إن سوء النية بادٍ على أفواههم، وفيما تسطر أقلامهم وإلا فما الذي أعماهم عن قوله تعالى في السورة نفسها: { الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِندَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ يَأْمُرُهُم بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَاهُمْ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالأَغْلالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُواْ بِهِ وَعَزَّرُوهُ وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُواْ النُّورَ الَّذِيَ أُنزِلَ مَعَهُ أُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ فَآمِنُواْ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ } (سورة الأعراف: 157- 158).
دقق النظر في نظم الآيتين، تجد التصريح باتباع الرسول الكريم ورد مرتين: مضارعاً وأمراً: "يتبعون" – "اتبعوه".
ثم تأمل هذه الجمل:
(يأمرهم – ينهاهم – يحل – يحل – يضع) تجد الفاعل فيها عائداً على الرسول، فهو الآمر، والناهي والمحلل، والمحرم، والواضع، فما هي دلالة هذا الصنع مع أنه مبلغ عن الله في الأمر، والنهي، والتحليل، والتحريم، وفي وضع الإغلال.
إن دلالة هذا النظم البديع أن لرسول الله دوراً في تأدية الرسالة، وبيان ما أنزله الله عليه في القرآن وما هداه إليه من غير القرآن، مما تضمنته سُّنَّته المطهرة، وأحاديثه المشرقة، لأن الله آتاه القرآن ومثله معه".
لم يكن السلاح الذي قاوم محمد به الباطل هو القرآن وحده، بل كان القرآن والسنة معاً.
القرآن ضياء كالشمس، والسُّنة نور كالقمر، وسُّنة النبي صلى الله عليه وسلم هي مفاتيح ما في القرآن من كنوز، والأداة التي وصلت الأمة بما في القرآن من قيم ومباديء وأسرار.
والذي نقوله لمنكري السُّنة: قد بدت البغضاء من أفواهكم. وما تخفي صدوركم أكبر، فموتوا بغيظكم إن الله عليم بذات الصدور.
* * *