البحث
الشبهة الثالثة : منع الخلفاء رواية الحديث وترديده
الذين يسعون الآن لعزل سُّنَّة خاتم النبيين عن حياة الأمة يتصيدون الشبهات بغير روية ولا حياء، ولم يتركوا أقوالاً مما عثروا عليه مسطوراً في الكتب مهما كان وزنها خفيفاً إلا أضفوا عليه هالة من الترويج، ليشككوا من استطاعوا من العوام في الحديث النبوي.
وقد رأينا عند الحديث عن الشبهة الأولى كيف حرصوا على التمسك بحديث النهي عن كتابة الحديث، وفي الوقت نفسه أعرضوا عن أحاديث الإذن في الكتابة، والوقائع العملية الثابتة، أما في هذه الشبهة فيركزون اهتمامهم كل التركيز على مواقف عابرة عرفت عن الشيخين أبي بكر وعمر، بل ويهولون من شأن روايات لم تثبت، لأنها تخدم غرضهم من قريب أو من بعيد.
والمعروف أن خطتي أبي بكر وعمر كانتا تهدفان إلى أمرين بالنسبة للقرآن والحديث النبوي.
أما بالنسبة للقرآن فكان الهدف توفير العناية به حفظاً وتأملاً وتلاوة، لأنه أصل الأصول في الدين كله، وبخاصة أنه لم يكن مجموعاً في أول الأمر في صحف خاصة به
وأما بالنسبة إلى حديث رسول الله فكان الهدف التثبت فيما يروى منه، والإقلال من روايته حتى يتمكن القرآن في القلوب، ويقف المسلمون على معانيه ومقاصده، وهو الأمر نفسه الذي من أجله نهى النبي صلى الله عليه وسلم عن كتابة حديثه. ثم عاد فأّذن بكتابته كما تقدم.
وهذه الحقائق اللائحة لم ترق أعداء السُّنَّة فاغمضوا أعينهم عنها، وصوروها في غير صورتها، وروجوا بين الناس أن السُّنَّة لو كانت من الدين ما وقف منها الشيخان أبو بكر وعمر رضي الله عنهما هذا الموقف، ولاهتما بها اهتمامهم بالقرآن نفسه.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
ليس صحيحاً أن الشيخين كانا يكرهان الإكثار من كل الأحاديث المروية عن رسول الله، وإنما كانا يكرهان الإكثار من رواية أحاديث الرخص لئلا يتكل الناس عليها، كما كانا لا يحبان الإكثار من الأحاديث "المشكلة" أو "المتشابهة" لئلا يستعصي فهمها على عامة الناس.
أما أحاديث العزائم، والأحاديث التي تتعلق بأفعال المكلفين في العبادات والمعاملات والأخلاق، فلم يطلب الشيخان الإقلال من ذكرها والتحدث بها.
بل إن المحفوظ عنهما أنهما كانا كثيراً ما يسألان الصحابة عما عندهم من رسول الله إذا عرضت لهما خصومة للفصل فيها، فإذا وجدا عند الصحابة شيئاً عن رسول الله من قضاء أو قول عملاً به، واعتبراه الفصل الواجب اتباعه في إصدار الحكم الشرعي.
روى قبيصة بن ذؤيب أن جدة جاءت إلى أبي بكر تطلب إرثاً. فقال أبو بكر: ما أجد لك في كتاب الله شيئاً، وما علمت أن رسول الله صلى الله عليه ذكر لك – أي للجدة مطلقاً – شيئاً ثم سأل الناس، فقال المغيرة بن شعبة: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يعطيها السدس. قال أبو بكر: هل معك أحد؟ فشهد محمد بن مسلمة الأنصاري بمثل ما قال شعبة. فأنقذه أبو بكر رضي الله عنه. [نيل الأوطار: 6/175 للشوكاني].
وما روى أن أبا موسى الأشعري استأذن على عمر ثلاثاً فلم يأذن له. فرجع، فاستدعاه عمر ولأمه، فاعتذر أبو موسى بأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "إذا استأذن أحدكم ثلاثاً فلم يؤذن له فليرجع" فقال عمر: "لتأتيني على هذا (الحديث) ببينة، أو لأوجعن ظهرك. وأجعلك عظة.
فشهد أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال ذلك" فعفا عنه عمر [فتح الباري ج11 ص 21/23 لابن حجر العسقلاني].
ولهاتين الواقعتين نظائر عن الشيخين وغيرهما.
فإذا كان هذا موقفهما من السُّنَّة القولية والعملية، فكيف يصح عند العقلاء المنصفين أن أبا بكر وعمر كانا ينهيان عن رواية الحديث النبوي باعتبار أن الحديث ليس من الدين، ولا هو مصدر من مصادر التشريع؟! وكيف يفهم عاقل ذلك، وأبو بكر حين بدا له أن الجدة لا ترث، لخلو القرآن من ذكرها في بيان الورثة ولم يكن يعلم بسنة رسول الله فيها، ولكنه لم يتعجل في الحكم وسأل الصحابة إن كان عندهم قول من رسول الله في هذه المسألة؟ فلما شهد بذلك شاهدان، وأن الرسول أعطى الجدة السدس – قياساً على الأم – عدل أبو بكر عن رأيه الذي أبدأه أولاً. ثم ورثها السدس عملاً بسُّنة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وبهذا يُعلم سقوط هذه الشبهة التي يلغط بها منكرو السُّنَّة الأغبياء.
* * *