البحث
الشبهة الثامنة : الرواية بالمعنى دون اللفظ
بين هذه الشبهة والشبهة التي تقدمت عليها (تأخر تدوين السُّنَّة) ارتباط وثيق عند منكري السُّنَّة المحاربين لله ورسوله، المرجفين في الأرض.
فالشبهة السابقة كالتمهيد والتوطئة لهذه الشبهة، فما دامت السُّنَّة قد تأخر تدوينها عن زمن صدورها، فهي إذن عرضة للنسيان والسهو، وحين فكروا في تدوينها كانت قد ضاعت بفعل طول العهد ألفاظها، وهذا ما جعل جامعي الحديث النبوي يدونون الحديث بالمعنى دون اللفظ، فالألفاظ من عند الرواة، أما المعاني فهي صور مشوشة لما بقى عالقاً بالذاكرة عند الرواة من معاني الحديث.
أما هدفهم من هذه الشبهة فيجمله أحدهم في الأمور الآتية:
- · إن الذي اشتملت عليه كتب الحديث من أقوال منسوبة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم هي ليست أقواله؟ وإنما هي أقوال رجال يخطئون ويصيبون، ولا يوثق بهم.
- إن الأحكام الفقهية التي تفهم من هذه الأقوال إنما هي آراء أولئك الرجال، وليست أحكاماً شرعية؟
- · إن رجال الحديث خدعوا الأمة طوال أربعة عشر قرناً وأوهموها بأن هذه الأحاديث هي من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهي ليست من كلامه، ولم يصرحوا بحقيقة الأمر للأمة، لئلا تفزع من تلك الحقيقة؟!
- وأن أئمة المذاهب الفقهية قد أضلوا الأمة بجعل هذه الأحاديث المزورة أصلاً ثانياً من أصول التشريع؟!
وكان قد مهد لهذه الأوهام فقال:
"إن الرواية بالمعنى كانت هي الأصل بالفعل عند السابقين، ولكن علماء الحديث ظلوا يخففون من ثقل هذه الحقيقة على العقول؛ حتى لا يفزع الناس من تلقي أحكام تقال في الدين، عبر أجيال متلاحقة بطريق الرواية بالمعنى، حتى أن الإمام الشافعي جعل ذلك أصلاً من الأصول الشرعية، التي لا ينبغي أن يفزع الناس منها"؟!
فالمسألة عند هؤلاء المرجفين لا تقف عند حد التشكيك في السنة، بل تشمل الفقه وأصوله مع السنة؛ لأن أصول الفقه والفقه من أبرز مصادرهما سنة النبي صلى الله عليه وسلم وما دامت السُّنَّة مزورة وباطلة فما انبنى عليها مزور وباطل كذلك.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
هذا الكلام الذي نقلناه عن أحد جنود الشيطان، أعداء الله ورسوله. ينطوي على عدة أخطاء وأوهام أملاها عليهم الشيطان. وها نحن أولاء نتصدى لبيان جهلهم وعنادهم ونكشف عن زيفهم في الخطوات الآتية:
فأولاً: إن الأصل المجمع عليه عند علماء الأمة المحققين أن رواية الحديث النبوي وقعت باللفظ والمعنى لا بالمعنى فقط كما يدعي هؤلاء المرجفون.
لأن الذين رووا الحديث سماعاً عن رسول الله هم أصحابه رضي الله عنهم، وهم مشهود لهم بالأمانة والعدالة والتقوى والورع. وقد جاء ذلك في صريح القرآن الحكيم، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، تنزيل من حكيم حميد.
ألم يقل الله عز وجل مادحاً إياهم وتابعيهم الذين نقلوا عنهم الحديث النبوي والسنن النبوية:
{ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (سورة التوبة: 100).
فلو كان رواة الحديث النبوي وهم الصحابة الناقلون عن الرسول سماعاً مباشراً مزورين عليه، ولو كان التابعون الذين نقلوا الحديث سماعاً من الصحابة مزورين على رسول الله، هل كان الله يزكيهم هذه التزكية، ويثني عليهم هذا الثناء؟
إن تحريف الألفاظ كتحريف المعاني، وهما منافيان للأمانة والعدالة والصدق. فكيف ساغ لهؤلاء المرجفين أن يصموا الصحابة والتابعين بالتزوير على الله ورسوله؟ إنهم رجال القرون الأولى، وهي خير القرون، لقرب أصحابها من عصر الوحي الأمين، ومشاهدة الرواة لرسول الله، وشرف الصحبة، الذي لا يعادله بعد الإيمان شرف مهما كان.
ثانياً: إن الرواية بالمعنى كانت موضع حرج شديد عند الرواة، وهي استثناء أو رخضة نادرة الوقوع فقد كان الصحابة يروون السُّنَّة مع الحرص الشديد على ألفاظها ومعانيها، وكانوا إذا أضطر أحده إلى رواية بالمعنى في لفظ من عنده. نبه على هذا حتى لا يظن ظان أن ذلك اللفظ من كلام النبي صلى الله عليه وسلم، على أن وقوع الرواية بالمعنى – مع ندرتها لم يجزها العلماء إلا في الرواية الشفهية عند الضرورة القاهرة، أما في تدوين الحديث في كتب، فلم يجز علماء الحديث إبدال اللفظ النبوي، وإذا شك الراوي فإن عليه أن ينبه على ذلك بأن يقول: أو قال. وكذلك فإن مُخرجي الأحاديث يحرصون على ذلك كأن يقولوا "شك من الراوي".
وأحيانا يضيف الراوي عبارة أو جملة توضيحية، بين أجزاء الحديث النبوي. وهذا قد وضع له رجال الحديث ضابطاً أسموه "الإدراج" أو "المدرج" ليميزوا بينه وبين متن الحديث النبوي.
وأيا كان فإن الرواية بالمعنى جائزة في أضيق الحدود إذا دعت إليها ضرورة.
قال الماوردي: "إذا نسى اللفظ جاز – يعني الرواية بالمعنى – لا سيما أن تركه قد يكون كتماناً للأحكام فإن لم ينسه لم يجز أن يورده بغيره؛ لأن في كلامه صلى الله عليه وسلم من الفصاحة ما ليس في غيره.
وقال الجلال السيوطي عن الصحابة إذا رووا بالمعنى: "وكان أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، إذا اضطروا إلى الرواية بالمعنى، أو شكوا في اللفظ النبوي أو في بعضه، أوردوا عقب الحديث لفظاً يفيد التصون والتحوط، وهو أعلم الناس بمعاني الكلام، لعلمهم بما في الرواية بالمعنى من الخطر؟؟
يعني أن الصحابة إذا لجأوا إلى الرواية بالمعنى نبهوا على تلك الرواية.
وهذا التنبيه له فائدتان:
الأولى: دفع اعتقاد السامع أن اللفظ المروي بالمعنى من كلام رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الثانية: الحث على التثبت عند تدوين الحديث من اللفظ النبوي الذي عبر عنه الراوي بلفظ غيره.
كل هذه الحقائق الثوابت جهلها، أو تجاهلها أعداء الله ورسوله لأن الغاية عندهم تبرر الوسيلة، والغاية هو عزل سنة النبي صلى الله عليه وسلم عن حياة المسلمين، تحقيقاً لمطامع أعداء الأمة. وهذه الغاية تستوي عند أهلها أعداء السُّنَّة، كل الوسائل.
ثالثاً: ومن الجهل المنادى على أهله بالزراية والاحتقار أن يدعي منكرو السُّنَّة أن الإمام الشافعي هو الذي ابتدع مصدرية السُّنَّة في التشريع الإسلامي، وأن الفقهاء قلدوا في هذا الضلال؟!
وفي إفحام الرد على هذا الغباء نذكر ثلاث آيات كريمات ثم نعقبها بسؤال إلى هؤلاء المرجفين:
- { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ } (سورة النساء: 59).
- · { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا } (سورة الأحزاب: 36).
- { وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُواْ } (سورة الحشر: 7).
هذه الآيات الثلاث، ولها نظائر، هي التي جعلت السُّنَّة مصدراً ثانياً للتشريع.
فهل هذه الآيات – يا بهاليل – كلام الشافعي أم كلام الله؟
إذن فمن الذي جعل السُّنَّة مصدراً ثانياً للتشريع؟
الله عز وجل أم الإمام الشافعي؟!
أليس لكم قلوب تففهون بها؟ أو عقول تعقلون بها؟
أو أعين تبصرون بها؟ أو آذان تسمعون بها؟
وصدق ربنا القائل { فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الأَبْصَارُ وَلَكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ } (سورة الحج: 46).
الرواية باللفظ والمعنى توجيه نبوي:
ونضيف إلى ما تقدم في نقض دعوى منكري السُّنَّة أنها رويت بالمعنى دون اللفظ، أن النبي – نفسه – صلى الله عليه وسلم قد حث أصحابه أن يرووا عنه أحاديثه باللفظ والمعنى، بل قد نهى من سمعه يبدل لفظاً مكان لفظ ردده الراوي، أمام الرسول في مجلس السماع.
فقد قال صلى الله عليه وسلم: "... وَحَدِّثُوا عَنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا حَرَجَ، وَمَنْ كَذَبَ عَلَيَّ مُتَعَمِّدًا فَلْيَتَبَوَّأْ مَقْعَدَهُ مِنْ النَّارِ".
فهذا تحذير شديد، ووعيد قاس على الكذب على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإبدال لفظ مكان لفظ – مع التعمد – يندرج تحت الكذب على رسول الله. وهذا الحديث بلغ مبلغ التواتر الذي لا مثيل له، وقد اشتهر بذلك عند المحدثين فمن يا ترى – من أصحاب رسول الله، وهم الذين رووا لنا كل أحاديثه القولية، وكل سنته العملية، ومن منهم يجرؤ على الكذب على رسول الله؟
وقال صلى الله عليه وسلم حاثاً ومرغباً في الأمانة في النقل عنه: "نَضَّرَ اللَّهُ امْرَأً سَمِعَ مِني شَيئَاً فَبَلَغَهُ كَمَا سَمِعَ فَرَب مُبَلِّغٍ أَوعَى مِن سَامِع"
فانظر إلى قوله "فبلغه كما سمع" أنه دعوة إلى نقل الحديث عنه بألفاظه ومعانيه، لا بمعانيه فحسب كما يدعي هؤلاء المرجفون الأفاكون.
وبقى ما هو أجلى من ذلك وأقوى على حرص النبي صلى الله عليه وسلم على الرواية عنه باللفظ والمعنى:
فَعَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ – رضي الله عنه – قَالَ: قَالَ: قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "إِذَا أَتَيْتَ مَضْجَعَكَ فَتَوَضَّأْ وُضُوءَكَ لِلصَّلَاةِ، ثُمَّ اضْطَجِعْ عَلَى شِقِّكَ الْأَيْمَنِ ثُمَّ قُلْ: "اللَّهُمَّ إني أَسْلَمْتُ نَفْسِي إِلَيْكَ، وَوَجهت وَجْهِي إِلَيْكَ، وَفَوَّضْتُ أَمْرِي إِلَيْكَ، وَأَلْجَأْتُ ظَهْرِي إِلَيْكَ، رَغْبَةً وَرَهْبَةً إِلَيْكَ، لَا مَلْجَأَ وَلَا مَنْجَى مِنْكَ إِلَّا إِلَيْكَ، اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ، فَإِنْ مُتَّ مِنْ لَيْلَتِكَ فَأَنْتَ عَلَى الْفِطْرَةِ، وَاجْعَلْهُنَّ آخِرَ مَا تَتَكَلَّمُ بِهِ". انتهى الحديث.
قَالَ البراء: فَرَدَّدْتُهَا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا بَلَغْتُ اللَّهُمَّ آمَنْتُ بِكِتَابِكَ الَّذِي أَنْزَلْتَ" قُلْتُ: وَرَسُولِكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ.
فقَالَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا، وَنَبِيِّكَ الَّذِي أَرْسَلْتَ". رواه الستة.
فانظر إلى أي مدى كان حرص النبي صلى الله عليه وسلم على أن يكون تحمل الحديث وأداؤه عنه كما نطق به هو عليه السلام بألفاظه ومعانيه، لذلك لم يقر البراء بن عازب أن يذكر "رسولك" مكان "نبيك" وأعاده إلى الصواب كما نطق هو، مع قرب معنى "رسولك" من معنى "نبيك" لأن للألفاظ وإن تقاربت معانيها خصوصيات دقيقة تجعل اللفظ لا يسد مسد اللفظ الذي قاربه.
{ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَذِكْرَى لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ } (سورة ق: 37).
* * *