البحث
اللهم أعنى على ذكرك وشكرك وحسن عبادتك
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
6234
2019/01/17
2024/11/14
عن مُعَاذُ بن جبل – رضي الله عنه - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - أَخَذَ بِيَدِهِ وَقَال: "يَا مُعَاذُ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ". فَقَالَ: "أُوصِيكَ يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ".
* * *
معاذ بن جبل صحابي جليل من الأنصار، شهد بيعة العقبة الثانية، وشهد المشاهد كلها مع رسول الله – صلى الله عليه وسلم - ، وأمره النبي – صلى الله عليه وسلم – على اليمن، كما تقدم في حديث "يَسِّرَا وَلَا تُعَسِّرَا".
وعده أنس بن مالك فيمن جمع القرآن على عهد رسول الله – صلى الله عليه وسلم -.
قال عبد الرزاق: أنبأنا معمر والزهري عن أبي بن كعب بن مالك: قال: كان معاذ شاباً جميلاً سمحاً لا يسأل الله شيئاً إلا أعطاه.
وكان معاذ أعلم الناس بالحلال والحرام، كما روت كتب السير، وكان راجح العقل ثاقب الفكر، وقافاً عند حدود الله – عز وجل -، يحكم بالكتاب والسنة، ولا يجتهد إلا فيما لا يجد له نصاً فيهما.
قال معاذ – رضي الله عنه - : لَما بَعَثَي رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِلَى الْيَمَنِ قَالَ لِي: "بِمَّ تَقْضِي إِنْ عَرَضَ قَضَاءٌ ؟"
قَالَ: قُلت: أَقْضِي بِمَا فِي كِتَابِ اللَّهِ.
قَالَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِي كِتَابِ اللَّهِ؟"
قُلت: أَقْضِي بِمَا قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
قَالَ: "فَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيما قَضَى بِهِ رَسُولُ اللَّهِ".
قَالَ: قُلت أَجْتَهِدُ رَأْيِي وَلَا آلُو (أي ولا أقصر ولا أعجز).
قَالَ: فَضَرَبَ صَدْرَي، وَقَالَ: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَفَّقَ رَسُولَ رَسُولِ اللَّهِ لِمَا يُرْضِي رَسُولَ اللَّهِ".
وقد شهد له خيرة أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم – بالإمامة في العلم والحكمة فكانوا يلجأون إليه في أمور دينهم ليفتيهم فيها بما أراه الله في كتابه العزيز وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم.
(خطب عمر بن الخطاب بالجابية يوماً فقال: من كان يريد أن يسأل عن الفقه فليأت معاذ بن جبل.
وكان يقول – رضي الله عنه – حين خرج معاذ بن جبل إلى الشام: لقد أخل خروجه بالمدينة وأهلها في الفقه وما كان يفتيهم به، ولقد كنت كلمت أبا بكر – رحمة الله – أن يحبسه لحاجة الناس إليه فأبى علي وقال: رجل أراد وجهاً يريد الشهادة فلا أحبسه!
فقلت: والله إن الرجل ليرزق الشهادة وهو على فراشه وفي بيته عظيم الغنى على مصره.
قال كعب بن مالك: وكان معاذ بن جبل يفتي في حياة رسول الله – صلى الله عليه وسلم - وأبي بكر).
ولمعاذ بن جبل مناقب كثيرة مشهورة أهلته لحب خير خلق الله له. فرضى الله عنه وأرضاه، ورزقنا حبه وحب من أحبه.
* * *
يقول معاذ – رضي الله عنه - : "أخذ رسول الله – صلى الله عليه وسلم – بيدي" أي تناولها تناول المحب الودود الذي يعبر عما يجيش في صدره فأبى إلا أن يخرج على صفحات لسانه ليعلم المحبوب أنه في ذروة الحب عنده – صلى الله عليه وسلم - .
واستعان على ذلك بيده توكيداً لأواصر القرب بينهما، وكأنه يعاهده على ذلك.
ولا شك أن أخذ النبي – صلى لله عليه وسلم – بيده يعمق جذور المحبة في قلب معاذ فيبادله حباً بحب وقرباً بقرب، ويحمله ذلك على المضي قُدما في طاعة الله – عز وجل – والسير على هداه حتى يلقاه.
وفي الأخذ بيده أيضاً تذكير له بما أوصاه به كلما حاول الشيطان أن ينسيه، فإن هذا العمل من شأنه ألا ينساه صحابي مثله.
فمن ينسى أو يتناسى أن يده وضعت في أشرف الأيدي وأطهرها على الإطلاق؟! من ينسى أو يتناسى هذا الحنان الدافق ممن هو أولى بالمؤمنين من أنفسهم، وأرحم بهم من أنفسهم على أنفسهم؟!.
وحين سكنت يد معاذ – رضي الله عنه – واطمأنت في يد النبي – صلى الله عليه وسلم – وشعرت ببرد العطف والأنس – أفصح ترجمان القلب عما فيه فقال من غير تكلف: "وَاللَّهِ يَا مُعَاذُ، إِنِّي لَأُحِبُّكَ، وَاللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّكَ" مرتين. مستخدماً في التوكيد جميع أدواته – القسم ولامه وتكراره؛ ليهنأ معاذ بهذا الخير العظيم فيشعر أنه في جنة الحب يتمتع بنعيمها، وينعم بهذا القرب من أعظم المقربين إلى الله – تبارك وتعالى -، وهو يعلم علم اليقين منه – صلى الله عليه وسلم – "أَنَّ الْمَرْءَ مَعَ مَنْ أَحَبَّ".
لقد قال النبي – صلى الله عليه وسلم – ذلك حين سأله رجل عن الساعة؟، فقال: مَا أَعْدَدْتَ لَهَا؟" فَقَالَ الرَّجُلُ: أَعْدَدْتُ لَهَا حُب اللَّهَ وَرَسُولَهُ. فقد قَالَ له الرَسُولُ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "الْمَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ" ترجمة لما تضمنه قوله تعالى: { وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا } (سورة النساء: 69).
ومن مبادئ الأخلاق النبوية أن المسلم إذا أحب إنساناً ينبغي أن يخبره بذلك ليبادله حباً بحب، فتأتلف القلوب ولا تتنافر، فيلتقي الناس على الحب، ويتفرقون عليه.
فقد روى أبو داود عن المقداد بن معد يكرب أن النبي – صلى الله عليه وسلم – قال: "إِذَا أَحَبَّ الرَّجُلُ أَخَاهُ فَلْيُخْبِرْهُ أَنَّهُ يُحِبُّهُ".
وروى أبو داود أيضاً عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ – رضي الله عنه - أَنَّ رَجُلًا كَانَ عِنْدَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَمَرَّ بِهِ رَجُلٌ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي لَأُحِبُّ هَذَا.
فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَعْلَمْتَهُ"؟
قَالَ: لَا.
قَالَ: "أَعْلِمْهُ"، قَالَ فَلَحِقَهُ فَقَالَ إِنِّي أُحِبُّكَ فِي اللَّهِ، فَقَالَ أَحَبَّكَ الَّذِي أَحْبَبْتَنِي لَهُ.
* * *
وبعد أن أخبره النبي صلى الله عليه وسلم بما يكنه له في صدره من بحب غامر، قال له: "يَا مُعَاذُ لَا تَدَعَنَّ فِي دُبُرِ كُلِّ صَلَاةٍ تَقُولُ: "اللَّهُمَّ أَعِنِّي عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِكَ".
أي لا تتركن أن تقول عقب كل صلاة مفروضة أو مسنونة هذا الدعاء بقلبك ولسانك، فالقلب هو الذي يتكلم واللسان يترجم عنه.
إن الكلام لفي الفؤاد وإنما جعل اللسان على الفؤاد دليلاً
هذا الدعاء جامع للخير كله في دنيا المسلم وآخرته، ليس وراءه من مطلب يزيد عليه، فهو من جوامع كلمه – صلى الله عليه وسلم - .
فإذا أعان الله عبده على ذكره بالقلب واللسان والعقل، فقد زج به في ساحة قربه، وأدناه من حضرة قدسه، ومتعه في دنياه بنعيم لا يجده سواه إلا من كان على شاكلته.
فذكر الله هو النعيم الأبدي، أوله كآخره.
قال أهل الذكر: نحن في لذة لو علم بها الملوك لقاتلونا عليها بسيوفهم، وأهل الذكر هم الملوك حقاً، والملوك عبيدهم.
قال رجل منهم: عجبت لمن خرج من الدنيا ولم يستمتع بنعيمها.
فقالوا: وهل في الدنيا نعيم يا رجل؟!
قال نعم: فيها نعيم يعدل نعيم الجنة.
قالوا: ما هو؟
قال: ذكر الله.
وقد مضى القول في فضل ذكر الله – تعالى -، وسيأتي له مزيد بيان في مواضع أخرى من هذا الكتاب إن شاء الله – تعالى -.
وأما الشكر فهو روح الإيمان وبرهان صحته وثمرة من أعظم ثمراته.
قال تعالى: { وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } (سورة البقرة:172).
والشكر هو امتلاء القلب بالرضا عن الله في قضائه وقدره، والإكثار من حمده في السراء والضراء والشدة والرخاء، ومواجهة المصائب بصدر رحب وقلب مطمئن، والاعتقاد الجازم بأن الخير كل الخير فيما يختاره الرب لعبده، لا فيما يختاره العبد لنفسه.
وأما حسن العبادة فإنها تكون بإظهار الذل والإنكسار للمعبود – جل وعلا – في كل عبادة يؤديها، وفي كل عمل صالح يقوم به، مع الإخلاص الكامل، واليقين الصادق بأنه مقصر في حق ربه مهما اجتهد في ذلك.
فلن يكون العابد عابداً حتى يشعر دائما بأنه مذنب، وأنه في حاجة مُلحة إلى العفو والمغفرة، وأنه مفتقر تمام الافتقار إلى عظيم فضله وواسع رحمته.
والعابدون على درجات، كل درجة تبدأ بالتوبة وتنتهي بها.
فالتوبة تصحيح للعبادة، وتعديل لمسارها، وتجديد لنشاط العبد فيها.
وقد جاءت هذه الوصية مرتبة ترتيباً منطقياً.
فالذكر يوج الشكر، ويبعث عليه.
والشكر يكون باعثاً على التعمق في الإخلاص، والتمادي في الطاعة، والاستمرار في تجديد التوبة، بحيث يصل الأمر بالعبد إلى أن يتوب من توبته فكلما تاب شعر بنقصان في توبته، فاجتهد في توبة أحسن منها، وهكذا يكون حاله مع الله حتى يلقاه.
إن الذكر: يطرد الغفلة، والشكر يطرد اليأس، وحسن العبادة تبلغ بصاحبها المنزل.
ومن بلغ المنزل فقد وصل إلى درجات العُلا، فعاش في دنياه سعيداً يتقلب في نعيم الذكر والشكر وحسن العبادة.
ويوم القيامة يجد ما وعده الله حقا، فيكون الشكر له هناك أتم وأوفر، فهم في هذه الدنيا يحمدون الله – عز وجل – بقدر طاقتهم البشرية.
وفي الجنة تكون الطاقة في الحمد بغير حدود، { دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ } (سورة يونس: 10).
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنَا لَغَفُورٌ شَكُورٌ الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ } (سورة فاطر: 34-35).
{ وَقَالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنَا وَعْدَهُ وَأَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشَاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعَامِلِينَ } (سورة الزمر: 74).
فما أعظم هذه الوصية التي أوصى بها رسول الله – صلى الله عليه وسلم – معاذ بن جبل – رضي الله عنه وأرضاه – فقد خصه بها لشدة حبه له.
ونحن له فيها تبع إذا سلكنا طريقه في عاداته ومعاملاته، ونهجنا نهجه في سلوكه مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فقد كان رضي الله عنه – نعم المطيع لمن أحبه، ونعم القدوة لمن بعده.
وأين نحن منه حتى نلحق به ونحشر معه، ولكن رحمة الله واسعة والطاعة على قدر الطاقة.
فلندعو الله – عز وجل – عقب كل صلاة بهذه الدعوة الجامعة ثلاث مرات، كما كان يفعل النبي – صلى الله عليه وسلم في دعائه كله.
روى مسلم عن ابن مسعود قال: كَانَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا دَعَا دَعَا ثَلَاثًا، وَإِذَا سَأَلَ سَأَلَ ثَلَاثًا.
وليكن دعاؤنا نابعاً من قلوبنا مع الخشوع والخضوع، وإظهار الافتقار التام إلى خالقنا ومولانا. والدعاء مخ العبادة كما جاء في الحديث الصحيح.
وقد وعدنا الله بالإجابة إذا آمنا به واستجبنا له فقال – جل شأنه - : { وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ } (سورة البقرة: 186).
* * *