البحث
كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
2338
2019/05/20
2024/11/14
عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي؛ كُلُّكُمْ عَبِيدُ اللَّهِ، وَكُلُّ نِسَائِكُمْ إِمَاءُ اللَّهِ، وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي".
الأدب مع الله – تبارك وتعالى – ومع الناس مقام رفيع لا يدانيه – فضلاً عن أن يعتليه – خواص الناس من أولي العلم والنهي، وذلك لأنه خُلق الأنبياء والمرسلين.
ولأتباعهم فيه قدم أصدق، إذ جعلوهم مثلهم الأعلى في عاداتهم وعباداتهم، ففازوا برضوان الله تعالى في دنياهم وآخرتهم.
وشريعة الإسلام من أتم الشرائع نعمة، وأكملها منهجاً للدين والحياة، فما من صغيرة ولا كبيرة مما يحتاج الناس إليها إلا شملتها هذه الشريعة الغراء، ووسعها بيانها.
ولقد تعلم أصحاب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – منه كيف يكون الخطاب مع الناس، وكيف يختار المسلم الألفاظ التي لا تجرح المشاعر، ولا تمجها الآذان، كما جاء في هذا الحديث.
فقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "لَا يَقُولَنَّ أَحَدُكُمْ: عَبْدِي وَأَمَتِي" أي هذا عبدي، وهذه أمتي؛ تأدباً مع الله – تبارك وتعالى – واستحياءً منه وإجلالاً له، ولا يخاطبن الرقيق بقوله: يا عبدي ويا أمتي: لما في هذا الوصف من المهانة والاحتقار للمخاطبين، ولما فيه من العجب والخيلاء، والغرور والكبر.
ومن استحيا من الله لا يتفوه بهذا أبداً، فكلنا عبيد الله – تبارك وتعالى – وكل نسائنا إماء الله حقاً وصدقاً، عرفنا ذلك بفطرتنا، وآمنت به قلوبنا إيماناً لا ريب فيه ولا شبهة.
ولقد علمنا رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ما ينبغي أن تقوله عند التعريف بما ملكت أيماننا أو عند مخاطبتهم، فقال عليه الصلاة والسلام: "وَلَكِنْ لِيَقُلْ: غُلَامِي وَجَارِيَتِي، وَفَتَايَ وَفَتَاتِي" وهي كلمات تنطق بالحب، وتفيض بالحنان، وتنطق بالإعزاز والإكبار، وتشهد للمتكلم برقة المشاعر ولطافة الحس وحسن الأدب مع الله أولاً ومع الناس ثانياً، ومع النفس أيضاً؛ لتكفكف من غلوائها، وتحد من كبريائها وغطرستها، وتتواضع لعظمة الخالق – جل جلاله -.
ولا شك أن لفظ الغلام والفتى، والفتاة والجارية – أعذب وأحب للأسماع والقلوب من لفظي العبد والأمة، فالفتى لفظ مأخوذ من الفتوة، وهي: القوة والنباهة وسلامة الحواس والشباب المتدفق.
والغلام لفظ مأخوذ من الغلمة وهي: القوة أيضاً، وشدة الشبق إلى النساء؛ لتوفر الصحة والشباب.
والجارية اسم مشترك بين الأمة والبنت الصغيرة، وهذا الاستراك يجعل اللفظ عند سماعه مقبولاً لا تتبرم به الأمة حين تسمعه، بل ربما تختال بنفسها إعجاباً؛ لوصفها بالصغر وإن لم يرد المتكلم ذلك، لكن أوحى به الطبع السليم والذوق الإسلامي الراقي.
وقد كان الإسلام حريصاً كل الحرص على إلغاء الرق ولكن بالأسلوب الهادئ الهادف، الذي لا يخل بالاقتصاد، ولا يتعارض مع العدل، ولا يتنافى مع الرحمة ورعاية مصالح العباد في العاجل والآجل.
وقد كتب العقاد في كتابه "بلال مؤذن الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بحثاً نفسياً في الخطوات التي سلكها الإسلام في تحرير الرقيق، فأجاد وأفاد، وأزاح الستار عن الحكمة في إقرار الرق في الإسلام ريثما تتاح الظروف لإلغائه أو حصرة في أضيق نطاق، وأزال ما في طريق هذا الأسلوب من شبهات أوردها أعداء الإسلام على معاملته للرقيق.
ويؤخذ من هذا الحديث فوق ما تقدم أمراً هاماً، وهو أن نتحرى أطيب الكلام وأنفسه وأنفعه وأمتعه ما استطعنا إلى ذلك سبيلا، ونتوقى من الكلام ما يُخِل بالأدب مع الله ومع الناس ويتعارض مع القيم الإنسانية والمباديء الخُلُقية، ويتنافى مع العادات الحميدة المستقيمة، ويتجافى عن الصواب والسداد.
وهذا يتطلب من المسلم أن يكون مُلِماً بمفردات اللغة العربية والعامية المنتقاة التي ترد على ألسنة خيار الناس، ويتتبع أساليب النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – وأصحابه في مخاطباتهم، وقد رُوِي لنا منها الكثير.
قيل للعباس – مَثَلاً – أنت أكبر أم رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –؟، فقال: هو أكبر مني وأنا أَسَن منه.
وكان عمر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – يقول في حق أبي بكر وبلال: أبو بكر سيدنا أعتق سيدنا.
إن مقاييس الفضل عندهم هي التقوى والعمل الصالح، كما أرشدهم ربهم – عز وجل – في قوله: { إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ } (سورة الحجرات: 13 ).
ولقد علمنا القرآن هذا الأدب الوارد في الحديث فقال – جل شأنه -: { إِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا } (سورة الكهف: 60) وكان فتاه عبداً له، وهو يوشع بن نون – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –
وقال جل وعلا: { وَلَا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّنًا } (سورة النور: 33).
وهن الإماء اللاتي أسلمن وكان سادتهن يكرهونهن على الزنا؛ رغبة في الحصول على المال.
لكن قد تقول: كيف تجمع بين هذا الأدب، وما جاء من سورة النور في الآية التي قبلها: { وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ مِنْ عِبَادِكُمْ وَإِمَائِكُمْ } (آية: 32).
فأقول: عبر في هذه الآية بالعباد والإماء للتنصيص على إصلاح أمر الرقيق ذكوراً وإناثاً بترويجهم وتزويجهن إن رأوا في ذلك صلاحاً وإصلاحاً.
ولو قال سبحانه: وَأَنْكِحُوا الْأَيَامَى مِنْكُمْ وَالصَّالِحِينَ من فتيانكم أو غلمانكم وفتياتكم أو جواريكم لالتبس الأمر فلا ندري هل أراد الأحرار والحرائر أم أراد العبيد والإماء، فذكر ما ذكر رفعاً للإجمال ودفعاً للإشكال الذي ينشأ من الاشتراك اللفظي، فتأمل ذلك ولا تغفل عنه.
وأثنى جل شأنه على أهل الكهف، وكانوا رعاة بسطاء في مؤخرة الناس فقال: { إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى } (آية: 13).
ولقد تبنى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – زيد بن حارثة وهو غلام كان لخديجة بنت خويلد – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – فوهبته له، فكان الناس يدعونه زيد بن محمد، حتى حرم الله التبني، فقيل له: زيد حب محمد – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –.
وكان يقال لأبنه أسامة: هو الحب ابن الحب.
فما أعظم سماحة الإسلام! وما أرقى أسلوبه في المعاملات الخاصة والعامة!!
فأين نحن اليوم من هذا الدين، وفينا من يضرب الخدم ويحتقرهم احتقاراً شديداً مزرياً بآدميتهم، ويعتبرهم أحط شأناً من الحيوان، فقد يطعم كلبه أو قطته من أطيب أنواع اللحم، ويعطي خادمه الفتات من الطعام المتبقي أو المتعفن، ويفرش لكلبه أو قطته فراشاً وثيراً، ولا يكاد يفرش لخادمه إلا شيئاً من بقايا الكرتون أو الخيش أو ما أشبه ذلك، ويجعله ينام وحده في المطبخ أو في مكان منزوي في أقصى البيت، ويكلفه من الأعمال ما لا يطيق، وقد يكون الخادم صغيراً رمته أمه أو أبو في بيت لا يرحم.
وقد سمعنا أن كثيراً من ربات البيوت قتلن الخدم يطرق شيعة مفجعة، فأين هؤلاء من الإنسانية، إنهم قد فقدوا هويتهم، وتناسوا إنسانيتهم؛ لأن الإنسان قلب حي وضمير يقظ، فإذا مات قلبه ونام ضميره فليس بإنسان على الحقيقة، بل هو شيطان رجيم.
وقد قال النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "الرَّاحِمُونَ يَرْحَمُهُمْ الرَّحْمَنُ، ارْحَمُوا مَنْ فِي الْأَرْضِ يَرْحَمْكُمْ مَنْ فِي السَّمَاءِ" وقد سبق شرح هذا الحديث بالتفصيل.
وقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في شأن الخدم بالذات: "إِخْوَانُكُمْ خَوَلُكُمْ جَعَلَهُمْ اللَّهُ تَحْتَ أَيْدِيكُمْ، فَمَنْ كَانَ أَخُوهُ تَحْتَ يَدِهِ فَلْيُطْعِمْهُ مِمَّا يَأْكُلُ، وَلْيُلْبِسْهُ مِمَّا يَلْبَسُ، وَلَا تُكَلِّفُوهُمْ مَا يَغْلِبُهُمْ، فَإِنْ كَلَّفْتُمُوهُمْ فَأَعِينُوهُمْ".
إن الإسلام في الثريا ونحن منه في الثرى.
وسيأتي لهذا الحديث شرح مفصل فيما بعد إن شاء الله تعالى.
نسأل الله – تبارك وتعالى – أن يرزقنا السداد في القول والعمل.