البحث
عَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
1879
2019/11/18
2024/12/19
عَنْ أَبِي قَتَادَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ:" بَيْنَمَا نَحْنُ نُصَلِّي مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذْ سَمِعَ جَلَبَةَ رِجَالٍ فَلَمَّا صَلَّى قَالَ: مَا شَأْنُكُمْ؟ قَالُوا: اسْتَعْجَلْنَا إِلَى الصَّلَاةِ، قَالَ: فَلَا تَفْعَلُوا إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا".
كان أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ولا سيما المقربون منهم – من أشد الناس حرصاً على حضور الصلاة في المسجد وتأديتها بخشوع وخضوع خلف الرسول صلوات الله وسلامه عليه، فإذا أقيمت الصلاة هرعوا إليها متسابقين، فنهاهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك، لأن الصلاة إنما تقوم على الخشوع، والخضوع يتطلب استعداداً مسبقاً يتمثل في السكينة التي ينبغي أن يتحلى بها المسلم في عباداته كلها ولا سيما الصلاة.
وكان بعض الناس يخشون أن تفوتهم مع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ركعة فيأتون إلى المسجد مهرولين يقولون: فاتتنا الصلاة، أو نخشى أن تفوتنا الصلاة، أو يقول بعضهم لبعض: أسرع بنا لندرك الصلاة من أولها مع رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فيحدثون الضوضاء في المسجد بأصواتهم وحركات أقدامهم، ويشغلون المصلين عن صلاتهم، ويفوتون عليهم الخشوع والطمأنينة، فنهاهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن ذلك بالحكمة والموعظة الحسنة والقول السديد، وردهم إلى التعقل في الأمور والتزام التوازن عند الإتيان إلى الصلاة.
فللصلاة حرمة، وللمسجد الذي يقام فيه الصلاة حرمة، ولرسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حرمة، وكذلك الإمام الذي يؤم الناس في الصلاة له حرمة، والناس الذين يصلون ينبغي ألا يشغلهم عن صلاتهم شاغل، فاقتضى ذلك كله أن يأتي المسبوق إلى الصلاة يمشي مشياً معتاداً لا مسرعاً ولا مبطئاً؛ لقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في حديث آخر: "لَا تَاتُوا الصَّلَاةُ وَأَنْتُمْ تَسْعَوْنَ وَأتُوهَا وَأَنْتُمْ تَمْشُونَ وَعَلَيْكُمْ السَّكِينَةَ والوقار".
والسعي هو المشي بشيء من الإسراع، وهو منهى عنه نهي كراهة لا نهي تحريم إلا إذا كان المؤذن قد أذن للجمعة فإنه ينبغي السعي حينئذ بهمة ونشاط، وليدرك الخطبة من أولها.
يقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ } (سورة الجمعة: 9).
ونحن إذ نتلقى هذه الوصية الغالية من وراتها الأخيار ينبغي أن نضعها موضع الاعتبار، حتى نحتفظ لأنفسنا بالسكينة والوقار، ونشعر بأننا قد سمعنا وأطعنا شأننا في ذلك شأن كل مسلم يلتزم الأدب مع الله ومع رسوله عليه الصلاة والسلام، ويعظم في نفسه شعائر الله؛ فإن تعظيمها برهان على تقوى القلوب.
وتعالوا بنا نطل على هذه الوصية إطلالة أخرى لنتعلم منها ما لم نكن نعلم فنقول:
راوي هذا الحديث أبو قتادة، واسمه الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن خيرة رجاله، شهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام غزوة أحد وما بعدها من الغزوات، وقيل شهد بدراً – أيضاً – وكان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبه ويدعو له.
يروى هذا الصحابي الجليل أنه كان يصلي خلف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلبة رجال، أي: سمع جمعاً منهم يرفعون أصواتهم، فلما فرغ قال: "ما شأنكم؟" أي ما الحال الذي دعاكم إلى القيام بهذا الصخب؟. وهو سؤال يترتب عليه ما بعده، قالوا: استعجلنا إلى الصلاة. أي: تعجلنا إليها خوفاً من فوات شيء منها بناء على أن السين والتاء للمبالغة، ويحتمل أن يكون السين والتاء للطلب، أي: طلب كل من أخيه من أخيه أن يتعجل إلى الصلاة؛ وذلك من باب التواصي بالحق في ظنهم.
فقال لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناصحاً ومعلماً: "فلا تفعلوا" أي: قد علمت ما أردتم فلا تعودوا لمثلها؛ فالفاء داخلة على جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام.
وأوصاهم بقوله: "إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا".
والصلاة لفظ يطلق ويراد به أحياناً المسجد، سمى بها لأنه مكانها.
والمتبادر أنها الصلاة التي تؤدي في جماعة، والمعنيان مرادان في هذه الوصية.
أي: إذا جئتم المسجد من أجل الصلاة فعليكم بالسكينة، أي: الزموها لزوماً تاماً كما يشعر به هذا الأسلوب؛ فهو أسلوب إغراء.
وقد ورد "فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" – بضم التاء – على أنها جملة من مبتدأ وخبر المعنى على هذه الرواية: إذا أتيتم الصلاة فأتوها والسكينة كائنة عليكم.
والسكينة – كما أشرنا – هي سكون النفس وطمأنينة القلب، والمشي في تؤدة واتزان مع الثقة بقضاء الله وقدره، فما قدر الله لابد من نفاذه، فإذا قدر لإنسان أن يدرك الصلاة كلها أو يدرك بعضها فلا بد من إدراكه على النحو الذي أراده الله وقدره فلماذا الإسراع والصخب.
وعلى العبد أن يسارع إلى الصلاة قبل النداء إليها إن كان يريد أن يكون من السابقين إلى الخيرات.
فإن لم يسرع إليها قبل الأذان فليبادر إليها قبل الإقامة بوقت كاف.
ولا ينبغي أن يراوغ ويشغل نفسه عنها بفعل كذا وكذا حتى إذا أقيمت أسرع إليها كالمجنون.
إن هذا لا يليق أبداً بالمسلم الذي يحب الصلاة.
لقد كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لبلال: "أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ"؛ وذلك لأنها هي الروح والريحان.
وكان يقول: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". أي لم يشغلني أمر النساء ولا أمر الطيب والزينة ولكن الذي يشغلني حقاً هو الصلاة، فهي متعى القلب وقرة العين، هي أنسي وسلواي، هي دنياي وآخرتي، هي مبلغ همي ومنتهى بغيتي.
والمسلم الذي يتعلق قلبه بالمساجد هو الذي يأتي إلى الصلاة مبكراً؛ ليسعد بانتظارها، ويدرك الصف الأول؛ فإنه خير الصفوف وأفضلها، ولو علم الناس ما في الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا. كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأفضل الناس رجل قلبه معلق بالمساجد، فهو من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
يقول الله عز وجل: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } (سورة الواقعة: 10-12).
ومن طريف ما يحكي عن أولئك الأخيار أن أخوين فقد ماتا في يوم واحد، فحفر الحفار لهما قبرين ودفن كل واحد منهما في قبره. فلما نام الحفار رأى في منامه هذين الرجلين على هيئة غاية في الحسن.
رأى الأول قد جاءه الحور والولدان فأركبوه مركبة خضراء وزفوه إلى الجنة.
ورأى الثاني قد جاءه الحور والولدان فزفوه ماشياً.
فلما أصبح ذهب إلى أمهما فقال بعد أن عزاها فيهما: جئت أسألك عن ولديك هذين ماذا كان حالهما. فبادرته المرأة بقولها: أجئت تسألني عن الراكب أم عن الماشي؟
فتعجب الحفار من قولها وقال: ذرية بعضها من بعض، ثم قال: جئت أسألك عن الراكب والماشي.
قالت: أما الراكب فكان يأتي إلى المسجد قبل الأذان.
وأما الماشي فكان يأتي إلي المسجد بعد الأذان.
فانظر يا أخي – هداك الله – في هذه القصة وخذ منها العظة والعبرة، وأقبل على بيوت الله بقلبك، واعتكف فيها ما استطعت، وواظب على حضور الجماعات، وانتظر الصلاة قبل وقتها حتى تكتب من المرابطين في سبيل الله.
وقد وردت في فضل الإتيان إلى المساجد والمكث فيها لانتظار الصلاة أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه وغيرهما عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ!
قَالَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ".
وقد جاء في صحيح البخاري وغيره في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "... رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْاجِدِ" فهو يرتادها كثيراً، ويعظمها في نفسه، ويحب المكث فيها أوقات فراغه، ذاكراً وتالياً للقرآن، ومصلياً من النوافل ما شاء الله أن يصلي.
وقد أثنى الله في كتابه العزيز على هؤلاء بقوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (سورة النور: 36-38).
فالصلاة جهاد للنفس والشيطان فمن جاهد نفسه وشيطانه فقد فاز فوزاً عظيماً بثواب الدنيا وثواب الآخرة، والله عنده حسن الثواب.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية: "فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" معناه ظاهر، أي صلوا ما أدركتموه من الركعات واقضوا ما فاتكم من الصلاة، ولا تحزنوا على ما فات فهذا قدر الله.
والقاعدة الإيمانية تقضي بتسليم الأمر إلى الله في كل شيء وعدم الندم على شيء لم يدركه الإنسان؛ فإن الندم يثبط الهمم ويضعف العزائم ويتنافى مع التوكل على الله عز وجل.
وقد جاء الحديث الصحيح: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".
وقد سبق شرح هذا الحديث وبيان قواعده الإيمانية فراجعه في الحزء الأول.
والله هو الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.
راوي هذا الحديث أبو قتادة، واسمه الحارث بن ربعي الأنصاري فارس رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، ومن خيرة رجاله، شهد مع الرسول عليه الصلاة والسلام غزوة أحد وما بعدها من الغزوات، وقيل شهد بدراً – أيضاً – وكان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يحبه ويدعو له.
يروى هذا الصحابي الجليل أنه كان يصلي خلف النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فسمع النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ جلبة رجال، أي: سمع جمعاً منهم يرفعون أصواتهم، فلما فرغ قال: "ما شأنكم؟" أي ما الحال الذي دعاكم إلى القيام بهذا الصخب؟. وهو سؤال يترتب عليه ما بعده، قالوا: استعجلنا إلى الصلاة. أي: تعجلنا إليها خوفاً من فوات شيء منها بناء على أن السين والتاء للمبالغة، ويحتمل أن يكون السين والتاء للطلب، أي: طلب كل من أخيه من أخيه أن يتعجل إلى الصلاة؛ وذلك من باب التواصي بالحق في ظنهم.
فقال لهم الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ناصحاً ومعلماً: "فلا تفعلوا" أي: قد علمت ما أردتم فلا تعودوا لمثلها؛ فالفاء داخلة على جملة محذوفة معلومة من سياق الكلام.
وأوصاهم بقوله: "إِذَا أَتَيْتُمْ الصَّلَاةَ فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ، فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا".
والصلاة لفظ يطلق ويراد به أحياناً المسجد، سمى بها لأنه مكانها.
والمتبادر أنها الصلاة التي تؤدي في جماعة، والمعنيان مرادان في هذه الوصية.
أي: إذا جئتم المسجد من أجل الصلاة فعليكم بالسكينة، أي: الزموها لزوماً تاماً كما يشعر به هذا الأسلوب؛ فهو أسلوب إغراء.
وقد ورد "فَعَلَيْكُمْ بِالسَّكِينَةِ" – بضم التاء – على أنها جملة من مبتدأ وخبر المعنى على هذه الرواية: إذا أتيتم الصلاة فأتوها والسكينة كائنة عليكم.
والسكينة – كما أشرنا – هي سكون النفس وطمأنينة القلب، والمشي في تؤدة واتزان مع الثقة بقضاء الله وقدره، فما قدر الله لابد من نفاذه، فإذا قدر لإنسان أن يدرك الصلاة كلها أو يدرك بعضها فلا بد من إدراكه على النحو الذي أراده الله وقدره فلماذا الإسراع والصخب.
وعلى العبد أن يسارع إلى الصلاة قبل النداء إليها إن كان يريد أن يكون من السابقين إلى الخيرات.
فإن لم يسرع إليها قبل الأذان فليبادر إليها قبل الإقامة بوقت كاف.
ولا ينبغي أن يراوغ ويشغل نفسه عنها بفعل كذا وكذا حتى إذا أقيمت أسرع إليها كالمجنون.
إن هذا لا يليق أبداً بالمسلم الذي يحب الصلاة.
لقد كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يقول لبلال: "أَرِحْنَا بِهَا يَا بِلَالُ"؛ وذلك لأنها هي الروح والريحان.
وكان يقول: "حُبِّبَ إِلَيَّ مِنْ الدُّنْيَا: النِّسَاءُ، وَالطِّيبُ، وَجُعِلَ قُرَّةُ عَيْنِي فِي الصَّلَاةِ". أي لم يشغلني أمر النساء ولا أمر الطيب والزينة ولكن الذي يشغلني حقاً هو الصلاة، فهي متعى القلب وقرة العين، هي أنسي وسلواي، هي دنياي وآخرتي، هي مبلغ همي ومنتهى بغيتي.
والمسلم الذي يتعلق قلبه بالمساجد هو الذي يأتي إلى الصلاة مبكراً؛ ليسعد بانتظارها، ويدرك الصف الأول؛ فإنه خير الصفوف وأفضلها، ولو علم الناس ما في الصف الأول ثم لم يجدوا إلا أن يستهموا عليه لاستهموا. كما قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وأفضل الناس رجل قلبه معلق بالمساجد، فهو من السبعة الذين يظلهم الله بظله يوم لا ظل إلا ظله.
يقول الله عز وجل: { وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ أُولَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ } (سورة الواقعة: 10-12).
ومن طريف ما يحكي عن أولئك الأخيار أن أخوين فقد ماتا في يوم واحد، فحفر الحفار لهما قبرين ودفن كل واحد منهما في قبره. فلما نام الحفار رأى في منامه هذين الرجلين على هيئة غاية في الحسن.
رأى الأول قد جاءه الحور والولدان فأركبوه مركبة خضراء وزفوه إلى الجنة.
ورأى الثاني قد جاءه الحور والولدان فزفوه ماشياً.
فلما أصبح ذهب إلى أمهما فقال بعد أن عزاها فيهما: جئت أسألك عن ولديك هذين ماذا كان حالهما. فبادرته المرأة بقولها: أجئت تسألني عن الراكب أم عن الماشي؟
فتعجب الحفار من قولها وقال: ذرية بعضها من بعض، ثم قال: جئت أسألك عن الراكب والماشي.
قالت: أما الراكب فكان يأتي إلى المسجد قبل الأذان.
وأما الماشي فكان يأتي إلي المسجد بعد الأذان.
فانظر يا أخي – هداك الله – في هذه القصة وخذ منها العظة والعبرة، وأقبل على بيوت الله بقلبك، واعتكف فيها ما استطعت، وواظب على حضور الجماعات، وانتظر الصلاة قبل وقتها حتى تكتب من المرابطين في سبيل الله.
وقد وردت في فضل الإتيان إلى المساجد والمكث فيها لانتظار الصلاة أحاديث كثيرة منها ما رواه مسلم في صحيحه والترمذي في جامعه وغيرهما عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى مَا يَمْحُو اللَّهُ بِهِ الْخَطَايَا وَيَرْفَعُ بِهِ الدَّرَجَاتِ؟
قَالُوا: بَلَى يَا رَسُولَ اللَّهِ!
قَالَ إِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عَلَى الْمَكَارِهِ، وَكَثْرَةُ الْخُطَا إِلَى الْمَسَاجِدِ وَانْتِظَارُ الصَّلَاةِ بَعْدَ الصَّلَاةِ، فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ فَذَلِكُمْ الرِّبَاطُ".
وقد جاء في صحيح البخاري وغيره في حديث السبعة الذين يظلهم الله في ظله: "... رَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ بِالْمَسْاجِدِ" فهو يرتادها كثيراً، ويعظمها في نفسه، ويحب المكث فيها أوقات فراغه، ذاكراً وتالياً للقرآن، ومصلياً من النوافل ما شاء الله أن يصلي.
وقد أثنى الله في كتابه العزيز على هؤلاء بقوله: { فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَيُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيهَا بِالْغُدُوِّ وَالْآصَالِ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ مَا عَمِلُوا وَيَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (سورة النور: 36-38).
فالصلاة جهاد للنفس والشيطان فمن جاهد نفسه وشيطانه فقد فاز فوزاً عظيماً بثواب الدنيا وثواب الآخرة، والله عنده حسن الثواب.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه الوصية: "فَمَا أَدْرَكْتُمْ فَصَلُّوا، وَمَا فَاتَكُمْ فَأَتِمُّوا" معناه ظاهر، أي صلوا ما أدركتموه من الركعات واقضوا ما فاتكم من الصلاة، ولا تحزنوا على ما فات فهذا قدر الله.
والقاعدة الإيمانية تقضي بتسليم الأمر إلى الله في كل شيء وعدم الندم على شيء لم يدركه الإنسان؛ فإن الندم يثبط الهمم ويضعف العزائم ويتنافى مع التوكل على الله عز وجل.
وقد جاء الحديث الصحيح: "الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ، وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ، احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ، وَإِنْ أَصَابَكَ شَيْءٌ فَلَا تَقُلْ: لَوْ أَنِّي فَعَلْتُ كَانَ كَذَا وَكَذَا، وَلَكِنْ قُلْ: قَدَرُ اللَّهِ وَمَا شَاءَ فَعَلَ فَإِنَّ لَوْ تَفْتَحُ عَمَلَ الشَّيْطَانِ".
وقد سبق شرح هذا الحديث وبيان قواعده الإيمانية فراجعه في الحزء الأول.
والله هو الموفق وهو الهادي إلى سواء السبيل.