البحث
لَا تَسُبِّي الْحُمَّى فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
11712
2019/05/23
2024/11/21
عَنْ جَابِرُ بْنُ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ دَخَلَ عَلَى أُمِّ السَّائِبِ أَوْ أُمِّ الْمُسَيَّبِ،
فَقَالَ: مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ؟"
قَالَتْ: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا، فَقَالَ لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ".
كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يزور بعض أصحابه في بيوتهم براً بهم، وتوكيداً لمودته لهم، وإجابة لهم إذا دعوه لزيارتهم حباً له وتبركاً به.
وكانت عنايته بزيارة المرضى منهم أكبر لمواساتهم وتسلية قلوبهم، وإدخال السرور عليهم، والدعاء لهم. وقد دخل يوماً على أم السائب الأنصارة، وهي مصابة بالحمى. فَقَالَ: "مَا لَكِ يَا أُمَّ السَّائِبِ، أَوْ يَا أُمَّ الْمُسَيَّبِ تُزَفْزِفِينَ" أي مالك ترتعدين وتضطربين، وتهتزين اهتزازاً شديداً.
وفي رواية: "تُزَفْزِفِينَ"، وفي روية لغير مسلم: "ترقرقين" والمعنى واحد.
وقد سألها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – هذا السؤال رقة لحالها ورفقاً لها،، ومواساة لها، ولكي تفرغ ما في قلبها من الأحزان، وتعبر عما تعانيه من الآلالم فيتعامل معها في الوعظ والإرشاد على وفق ما يسمع منها.
فهو– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – طبيب الأطباء، يعرف كيف يشخص الداء، ويصف الدواء. سألها هذا السؤال الحاني، وهو يرى ما بها، ويعلم أنها الحمى، ولكن تركها لتجيب عن هذا السؤال لعلها تفصح عن شيء لا يرى بالأبصار بقدر ما يرى بالبصائر.
قالت أم السائب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – : "الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا". وهو جواب موجز بليغ، وكأنها تقول: هي الحمى، وأي شيء غير الحمى!! وما أدراك ما الحمى!! إلى آخر ما يعتمل في صدرها من بغضها، والتبرم منها، والخوف من عواقبها.
لكنها أفاضت كلمة تؤكد هذا كله، ما كن يستحب لها أن تتفوه بها، وهي مؤمنة بقضاء الله وقدره. فالكلمة في حقها ربما تكون سيئة.
وهي كلمة لا تتجاوز معناها، ومع ذلك اعتبرها النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نوعاً من السب، إذ هو قول يشبه اللعن والشتم؛ لما فيه من إظهار الغيظ والغضب والضجر.
فهي تقول في دعائها على الحمى: لا زاد الله فيها، ولا ضاعف من آلامها ولا قدر الله على الناس شرها، ونحو ذلك من المعاني المتقاربة.
وهي تريد بهذا الدعاء – كما هو واضح –أن يزجزحها الله عنها، وعن كل ما أصيب بها، لأنها مرض قتال لا يسلم منه المرء غالباً.
وقد سمع النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – مقالتها فعذرها فيما قالت، ونهاها عن سب الحمى؛ لأنها محنة تعقبها منحة، وشر في طياته خير.
قال لها: "لَا تَسُبِّي الْحُمَّى، فَإِنَّهَا تُذْهِبُ خَطَايَا بَنِي آدَمَ، كَمَا يُذْهِبُ الْكِيرُ خَبَثَ الْحَدِيدِ".
أي: لا تتبرمي منها، ولا تتشاءمي من وجودها؛ فإنها سبب في محو الخطايا، وتكفير الذنوب، وفي ذلك الخير كله.
فمن غفر الله له ذنوبه، وحط عنه خطاياه، فقد رفع عنه العذاب في الدنيا والآخرة، وأدخله الجنة بفضله ورحمته.
قال تعالى: { فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ } (سورة آل عمران: 185).
والحمي وما شاكلها من الأمراض تحط من خطايا ابن آدم شيئاً فشيئاً مدة وجودها حتى يطهر منها تماماً إن صبر عليها، ورضي بقضاء الله وقدره فيها.
روى مسلم – في صحيحه – عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا مِنْ شَيْءٍ يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ، حَتَّى الشَّوْكَةِ تُصِيبُهُ إِلَّا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ بِهَا حَسَنَةً، أَوْ حُطَّتْ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةٌ".
وروى – أيضاً – عن أبي سعيد الخدري وَأَبِي هُرَيْرَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا –أَنَّهُمَا سَمِعَا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: "مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ وَصَبٍ وَلَا نَصَبٍ وَلَا سَقَمٍ وَلَاحَزَنٍ حَتَّى الْهَمِّ يُهَمُّهُ إِلَّا كُفِّرَ بِهِ مِنْ سَيِّئَاتِهِ".
والأحاديث في هذا المعنى كثيرة.
والتشبيه في الحديث غاية في الدقة والبلاغة، فالكير – وهو آلة الحداد – تزيل تماماً صدأ الحديد، حتى يبدو وكأنه جديد، وهكذا الحمى فهي نار كنار الحداد تظل تنظف صاحبها من ذنوبه – وهي خبثه – إلى ما شاء الله، فكلما طالت نفعت، فهي محنة تعقب منحة – كما أشرت من قبل.
ويؤخذ من هذا الحديث فوق ما ذكرنا فوائد منها:
1- استجباب زيارة المرضى، ومواساتهم، وسؤالهم عما يعانونه من الألم، ووعظهم وتذكيرهم بالله، وإدخال السرور عليهم، والدعاء لهم، ونحو ذلك من الآداب التي مرت بنا في حديث سابق.
2- إخبار المريض بما يلقاه من ربه – عز وجل – من غفران الذنوب، ورفع الدرجات إذا ما صبر واحتسب أجره عليه – جل شأنه -.
3- نهيه عما لا ينبغي أن يقوله أو يفعله أثناء مرضه بدافع الجزع والهلع وتوقع المكروه.
4- استخدام الوسائل التوضيحية في بيان المعاني كالتشبيهات البلاغية، وضرب الأمثال ونحو ذلك مما يزيدها إيضاحاً وإفصاحاً، ويجعلها أكثر تقبلاً والتزاماً.
وقد كان النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يستعين كثيراً بضرب الأمثال وإبراز المعاني بصور محسة اقتداء بالقرآن الكريم.
5- ومن هذا الحديث نتعلم الأدب مع الله تعالى، فلا نتفوه بكلمة تنبئ عن عدم الرضا بالقضاء والقدر، أو توحي ولو بطريق غير مباشر بأن قائلها قد يئس أو قارب اليأس، فينكر عليه سامعه أو يبغضه وينفر منه، أو يحاكيه في هذا القول إذا كان إمعة، يقلد الناس في أقوالهم وأفعالهم من غير تعقل ولا روية.
والكلمة إذا خرجت من الفم احتسبت على قائلها، وهو لا يستطيع أن يعيدها إلى قلبه مرة أخرى، وربما لا يقبل عذره إن اعتذر منها، وربما يكون فيها حتفه وهلاكه.
والأدب مع الله مع أرفع المقامات كما ذكرنا أكثر من مرة في هذا الكتاب.
6- وكذلك نتعلم من هذا الحديث الأدب مع زوارنا، ولاسيما إذا كانوا من أهل العلم والفضل، فلا نتكلم بالكلمة إلا إذا عقلنا معناها وعرفنا مرماها، وأدركنا أبعادها وتأثيرها في نفس سامعها.
فهذه أم السائب لم تزد على قولها: الْحُمَّى، لَا بَارَكَ اللَّهُ فِيهَا؛ إذ لم تقل لعنها الله؛ تأدباً مع الله – عز وجل – ومع رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –، ومع ذلم أراد النبي – عليه الصلاة والسلام – أن يرفع من مكانتها، فقال لها: "لَا تَسُبِّي"، واعتبر قولها من باب السب مع أنه ليس كذلك؛ لأنه صدر منها، ومثلها لا ينبغي أن يصدر منه ذلك.
وحسنات الأبرار سيئات المقربين كما يقولون.
وهذه الكلمة تجري على ألسنة الناس بغير تعمد فلا يلام قائلها، ولكن إذا كان قائلها قدوة عيب عليه ذلك.
وإنها لتربية حكيمة من رسول قد جمعت له الحكمة في قلبه، فكان هو ينبوعها ومصبها، فهو من بحار حكمة الله يغترف؛ ليرتوي منها الأخيار من أصحابه ثم من دونهم إلى يوم القيامة.
فصلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين.