البحث
لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
4806
2019/11/11
2024/11/15
عَنْ عَطَاءٍ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – قَالَتْ: سُرِقَ لَهَا شيء فَجَعَلَتْ تَدْعُو عَلَيه، فَقَالَ لَهَا رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ".
المسلم لا يكون لعاناً ولا فحاشاً في القول ولا يرد السوء بمثله، ولا يغضب لأمر من أمور الدنيا إلا إذا كان له مساساً بالدين أو بالعرض، أو أدى إلى ضرر شديد في النفس أو في النسل أو في المال. وإذا غضب فسرعان ما يعفو ويصفح ويغفر، وإذا خاطبه الجاهل قال له قولاً ليناً فيه سلم ومسالمة.
وذلك لقوة إيمانه بالله، وعظيم ثقته به، وحسن توكله عليه، وعلمه أن الله يملي للظالم حتى يرجع عن ظلمه ويتوب من ذنبه ويرد الحقوق إلى أصحابها فإن لم يفعل أخذه أخذ عزيز مقتدر.
ومتى عرف المؤمن أن الله عزيز ذو انتقام ترك الأمر إليه فلم يدع على ظالم؛ لأن ظلمة سيهلكه حتماً ولو بعد حين.
فليس من الحكمة أن يتخير العبد للظالم نوعاً من الانتقام، فيقول: اللهم افعل به كذا وكذا؛ فإن ذلك إساءة أدب مع الله عز وجل.
وإن كان ولابد من أن ينفس المؤمن عن كربه ويتخفف من غيظه، فليقل: حسبي الله ونعم الوكيل. فإنها تذهب غيظه وتفرج همه، وتكشف كربه، وتعجل بالانتقام ممن ظلمه.
يقول الله عز وجل: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } (سورة الأنفال: 64).
وقال تبارك وتعالى: { فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } (سورة التوبة: 129).
وقد أثنى الله على المؤمنين عقب غزوة أحد حين جاء إليهم من يخيفهم بأهل مكة ويلقي الرعب في قلوبهم، بقوله: { الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُوا رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ } (سورة آل عمران: 173-174).
وقد كانت عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا صغيرة السن تغضب ممن حمل ظلماً وأتى ذنباً يعاقب عليه، أو أساء الأدب مع واحد من المسلمين، فلا عجب أن تدعو على من سرق منها متاعها، وهي زوج رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ومتاعها متاعه، والاعتداء على مالها اعتداء على مال رسول الله، أكرم الأكرمين صلوات الله وسلامه عليه.
والسرقة كبيرة من الكبائر يستحق عليها قطع يده في الدنيا (ولعذاب الآخرة أكبر).
والرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لم يعب صنيعها، ولكنه وأساها بقوله: "لَا تُسَبِّخِي عَنه". أي لا تخففى عنه العذاب، فإن الله سينتقم لك منه فاطمئني واهدئي، ودعى الأمر لله فإنك لو دعوت عليه لأخذت بعض حقك منه فخففت عليه من العذاب الدنيوي والأخروي، وهو صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لا يكره أن يخفف الله على السارق ولكنه يعلم عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا أن تكون صبورة على المصيبة عند نزولها، مسألة لمن أساء إليها، ودودة لكل مسلم يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، محسنة على من أساء إليها ولو كان كافراً ما لم تكن إساءته للدين والحرمات.
إن الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ هو المعلم الأكبر الذي يزكي النفوس، ويقوم الأخلاق ويربي الرجال والنساء تربية فريدة ينال بها المسلم درجة عظيمة من القرب والحب الإلهي.
وهو الطبيب الذي يعرف كيف يشخص الداء ويصف الدواء، ويقدم للمرضى ما يحتاجون إليه من المواساة والتسلية والتخفيف والرحمة بأسلوب حكيم بليغ مشرق، ترتضيه النفوس من غير كبوة ولا ملل.
ومن نظر إلى عائشة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا في حداثة سنها عذرها في كثير مما فعلته بنفسها ثم ندمت عليه، كالمكيدة التي دبرتها لحرمان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من العسل الذي سقته منه زوجته زينب بنت جحش رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا، وهي قصة نزل فيها قوله تعالى: { يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاةَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ } إلى قوله سبحانه: { ثَيِّبَاتٍ وَأَبْكَارًا } (سورة التحريم: 1-5).
وكانت الغيرة تدفعها إلى مثل هذا فيعذرها النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بها، ويعلمها الأناة والصبر وقوة الاحتمال، ومواجهة الأمور الصعبة بصدر رحب وقلب مطمئن، وسرعان ما تعلمت من الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مكارم الأخلاق على النحو الذي لم تسبق إليه، ووعت كل درس تلقته منه، وحفظت ما سمعته وما رأته منه حتى أصبحت مضرب الأمثال في العلم والعمل، والخلق الفاضل والسلوك النبيل.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "لَا تُسَبِّخِي عَنْهُ"، أي: لا تخففي عنه العذاب – كما أشرنا – مأخوذ من السبخة وهي الأرض السهلة اللينة التي يكثر خيرها إذا ما زرعت.
ومن هذا الحديث تعلم أصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ العفو والصفح الجميل عمن أساء وظلم، فأثنى الله عليهم بقوله: { وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ } (سورة الشورى: 37).
روى أن رجلاً من أهل الفسق والفجور كان يسب أبا الدرداء إذا خرج من بيته حتى يدخل المسجد، ويسبه إذا خرج من المسجد حتى يدخل بيته، فقال له يوماً: يا هذا لا تغرقن في سبنا ودع للصلح موضعاً، إن كان فيَّ ما تقول أسأل الله أن يغفر لي، وإن لم يكن في ما تقول أسأل الله أن يغفر لك.
واقتدى التابعون بأصحاب النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في هذه المحامد كلها، وكانوا معهم بقلوبهم على طريق الهدى والخير.
فهذه رابعة العدوية يسرق متاعها لص وهي تصلي، فتتعجل في صلاتها وتخرج إليه مسرعة، فلما اقتربت منه قالت: يا هذا وهبت لك فقل قبلت. أي وهبت لك ما أخذته مني فاقبله هبة خالصة لك.
فرجع الرجل إليها وقال لها: ما الذي حملك على أن وهبت لي ما أخذته منك؟
قالت: يا ولدي خفت عليك من عذاب الله.
قال اللص: سبحان الله تخافين علي من عذاب الله وأنا لا أخاف على نفسي، اللهم إني تائب إليك، فاقبل توبتي. وأعاد إليها ما سرقه منها.
فما أعظم كظم الغيظ والعفو عن الناس! إنه الإحسان في أعظم درجاته وأرقى معانيه.
والدعاء للظالمين بالهداية أولى من الدعاء عليهم بالثبور وعظائم الأمور، إلا إذا كان الظالم قد أفسد في الأرض وأهلك الحرث والنسل وهتك العرض، وقطع الطريق، فإن الدعاء عليه حينئذ سلاح من أسلحة النصر عليه، وطريق من طرق الوقاية من شره.
فقد كان النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يدعو على الظالمين في صلاته إذا اشتد شرهم واستفحل خطرهم، واستيأس الناس من هدايتهم وتوبتهم.
مع أنه كان يدعو لقومه بالهداية فيقول: اللهم اهد قومي فإنهم لا يعلمون. فتعلمنا منه صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ متى ندعو عليهم.
هذا، ولا يلام المسلم إذا دعا على أخيه المسلم في حالة الغضب، فإن الغضب إذا سيطر على العقل سلبه رشده.
وما عليه إلا أن يتوب ويستغفر، ويقول: إنا لله وإنا إليه راجعون، فإنها تعيد إليه توازنه وطمأنينته ورشده.
{ رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ } (سورة آل عمران: 8).