البحث
فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
2653
2019/08/21
2024/10/06
عَنْ حُصَيْنٍ عَنْ عَامِرٍ قَالَ سَمِعْتُ النُّعْمَانَ بْنَ بَشِيرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَهُوَ عَلَى الْمِنْبَرِ يَقُولُ: أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً، فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَتَى رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: إِنِّي أَعْطَيْتُ ابْنِي مِنْ عَمْرَةَ بِنْتِ رَوَاحَةَ عَطِيَّةً فَأَمَرَتْنِي أَنْ أُشْهِدَكَ يَا رَسُولَ اللَّهِ قَالَ: "أَعْطَيْتَ سَائِرَ وَلَدِكَ مِثْلَ هَذَا"؟، قَالَ: لَا.
قَالَ: "فَاتَّقُوا اللَّهَ وَاعْدِلُوا بَيْنَ أَوْلَادِكُمْ" قَالَ: فَرَجَعَ فَرَدَّ عَطِيَّتَهُ.
هذا الحديث رواه جمع كثير من التابعين عن النعمان بن بشير، وأخرجه أكثر أصحاب السنن والمسانيد، واهتم المحدثون والفقهاء بدراسته واستنباط الأحكام الكامنة فيه والتنبيه على ما فيه من الفوائد.
وقد توسعت في دراسته في كتابي "الفقه الواضح"، ونقلت هذا الحديث برواياته المختلفة، وبينت ما يترتب عليه من الأحكام، وبينت كذلك وجوه الاختلاف بين الفقهاء في جواز الهبة وعدم جوازها.
ولكن قبل أن ألخص لك ما جاء فيه أذكر لك نبذة عن بشير وابنه النعمان فأقول:
هو بشير بن سعد بن ثعلبة بن الجلاس الخزرجي، صحابي شهير شهد بدراً وغيرها، ومات في خلافة أبي بكر سنة ثلاث عشرة.
وقيل: عاش إلى خلافة عمر، وقيل: هو أول ما بايع أبا بكر من الأنصار.
وأما النعمان فهو صحابي صغير كان له عند موته – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – ثمان سنين وسبعة أشهر، وهو أول مولود في الأنصار بعد الهجرة، كما أفاده الكاندهلوي في "أوجز المسالك إلى موطأ الإمام مالك".
وأمه عمرة بنت رواحة، أخت عبد الله بن رواحة الشاعر المعروف.
يقول النعمان: "أَعْطَانِي أَبِي عَطِيَّةً"؛ أي منحني هبة من ماله، قيل: غلاماً، وقيل: حديقة، ونحن لا يعنينا معرفة الشيء الذي وهبه له، ولكن يعنينا أنه أعطاه شيئاً لم يعط سائر أولاده مثله.
"فَقَالَتْ عَمْرَةُ بِنْتُ رَوَاحَةَ: لَا أَرْضَى حَتَّى تُشْهِدَ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ" وكأنها تخفي في نفسه أمراً، شأنه في ذلك شأن النساء الماكرات، كأنى بها تريد تُوَثق هذه الهبة توثيقاً لا ينازع فيه أحد من العالمين، وحتى لا يعود في هبته بعد ذلك، ولا يتثنى لواحد من أولاده منها أو من غيرها أن يعترض على هذه الهبة، أو ينطق ببنت شفه.
وهذا مكر محمود، لا تذم به ولا تعاب عليه، ولاسيما أنها أم، تحب النعمان أكثر من غيره؛ لأنه صغير.
وقد قيل لامرأة عربية: أي أولادك أحب إليكِ؟
فقالت: الصغير حتى يكبر, والمسافر حتى يحضر، والمريض حتى يبرأ.
والآن نلخص لك ما جاء في "الفقه الواضح" من الأحكام التي تتعلق بهذا الحديث ثم نتبعه بتعقيبات أراها غاية في الأهمية.
نقرر بادئ ذي بدء أنه لا خلاف بين العلماء في جواز الهبة للولد إذا لم يكن للواهب غيره من الأولاد، أو كان له ولد أو أكثر فاسترضاهم فأجازوه في هبته، أو أعطى كل واحد منهم مثل ما أعطاه.
وإنما الخلاف فيما لو وهب رجل لأحد أولاده شيئاً دونهم ولم يسترض أحداً منهم بشيء.
فمنهم من أجاز ذلك، لأن المال ماله وهو حر التصرف فيه، ومنهم من أجاز ذلك للضرورة كأن يكون الولد فقيراً أو عاجزاً، ونحو ذلك.
ومنهم من قال بكراهتها لاختلاف العلماء في فهم حديث النعمان بن بشير، وهو الأصل الذي يدور عليه الخلاف بينهم في هذه المسألة.
فالذين قالوا بالحرمة إلا عند الضرورة استدلوا بقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في رواية "لا أشهد علة جور"، والجور هو الظلم، وقد حرم الله الظلم على نفسه وجعله بين الناس محرماً.
والذين قالوا بالكراهة استدلوا بقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في رواية: "أشهد على هذا غيري"، فقد دل على أن الهبة ليست باطلة وليس فيها ما يفيد التحريم حيث سمح بأن يشهد عليها غيره، وتنزهه عن الشهادة يدل على الكراهة لا على التحريم، وهذا غير مسلم لأن الأمر للتوبيخ لا لأباحة الإشهاد.
والخلاصة أن التسوية بين الأولاد واجبة إن خيف من عدمها الضرر وقطيعة الرحم، وهو أمر متوقع الحصول في غالب الأحوال.
وإذا كانت التسوية واجبة حرم على الوالد أن يميز أحدهم بشيء إلا بإذنهم ورضاهم.
غير أن أحمد بن حنبل – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أجاز ذلك للضرورة، كأن يكون الولد كبيراً عاجزاً لا يقدر على الكسب، أو إذا كان عليه دين عجز عن سداده ونحو ذلك، نقل ذلك عنه الشوكاني في نيل الأوطار وابن قدامة في المغني.
وهذا الحديث برواياته المختلفة يوجب التسوية بين الأولاد في العطية ما لم تكن هناك ضرورة شرعية تدعو إلى تمييز أحدهم عن الآخر، إذ الضرورات تبيح المحظورات كما هو معلوم من الكتاب والسنة.
ويقاس على العطية التسوية في المعاملة ما أمكن حتى لا يحدث بينهم ما يدعو إلى العداوة والبغضاء.
ونحن نعلم أن قطيعة الأرحام حرام، فما أدى إليها حرام، لأن للوسائل في الشرع حكم المقاصد كما يقول علماء الأصول.
وأي تفضيل لأحد الأولاد عن الآخر يؤدي إلى كراهة بعضهم لبعض فينشأون على التحاسد والتباغض، والخصام والنزاع والتفرق وهو أمر لا يرضاه الآباء والأمهات قطعاً مع أنهم سبب فيه.
وربما ورثوا ذلك أبناءهم وأبناء أبنائهم.
والمطلوب من الآباء والأمهات أن يغرسوا الحب والتفاهم بين أولادهم بالطرق التربوية المثلى، والتي من أهمها التسوية في المعاملة ما أمكن.
وأنا أعرف بعض الناس في المدن وفي الريف يخصون بعض أولادهم في الوصايا والهبات لأسباب تافهة يظنونها وجيهة بجهلهم، ولو سألوا عنها أهل العلم والحل والعقد لوجدوها لا تصلح بحال أن تكون أسباباً لارتكاب هذا العمل الخطير الذي يهدد كيان الأسرة كلها ويزلزل بنيانها، ويغرس بين أفرادها شجرة العداوة والبغضاء، وقد تظل هذه الشجرة باقية في عقبه إلى أمد طويل.
وذلك أمر معروف ومجرب وواقع بين كثير من الأسر في القرى والمدن.
وما كان أغناه عن ذلك لو ترك الأمر لله، وعامل أولاده على قدم المساواة وغرس بينهم شجرة الود والمحبة والوفاق، فإذا فعل ذلك اطمأن على صغيرهم وكبيرهم، وعلى حاضرهم ومستقبلهم، فبالحب يتعايش الناس فيما بينهم دون أرحام ولا أنساب تجمعهم، فكيف لو كانوا إخوة تجمعهم أرحام وأنساب، ولهم من أبيهم قدوة تجعلهم ينهجون نهجه في أولادهم، وتجعل أولادهم ينهجون في أولادهم هذا النهج الكريم، وهكذا تعمهم بركة الجد مهما علا، فصلاح الأب يترتب عليه ولا شك صلاح الأبناء، مهما نزلوا.
"وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً حَسَنَةً فَلَهُ أَجْرُهُا وَأَجْر مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يَوْم القِيَامة وَمَنْ سَنَّ سُنَّةً سَيِّئَةً فَعَلْيهِ وِزْرَهَا وَوِزر مَنْ عَمِلَ بِهَا إِلَى يِوم القِيَامة".
يقول أحد الآباء: ابني فلان يطيعني وابني فلان يعصيني، وأريد أن أكتب كذا وكذا للطائع لأنه أحق بذلك من العاصي، وهو أنفع لي منه، وينسى هذا الرجل أن الطائع قد ينقلب عاصياً، والعاصي قد ينقلب طائعاً، فيكون أنفع له منه.
وقد يكون العاصي أحوج إلى بر أبيه من الطائع، وربما لو كتب للطائع شيئاً أو أعطاه عطية يزداد العاصي له عقوقاً، وربما يحقد على أخيه، فيفكر في قتله، وربما.. وربما.
إني أذكرهذا وأمثاله بقول الله تعالى في سورة النساء: { آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَاؤُكُمْ لَا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعًا } (آية: 11).
وقد يقول أحد الآباء: إن ولدي فلاناً قد علمته وأحسنت تربيته والآخر لم ينل حظه من التعليم وهو يعمل زارعاً للأرض، وأريد أن أعطيه شيئاً في نظير ما أنفقته على المتعلم.
أقول له: لا تفعل فإن المتعلم إذا كان بينه وبين أخيه محبة وألفة قد ينفعه بعلمه، وقد ينصره في كثير من المواطن، ويعينه على بعض الأمور التي يعجز عن القيام بها، ثم إن ولده الزارع يفخر بأخيه ويعتز به، ويتشرف بانتسابه إليه، أليس هذا كله يساوي ما حصل عليه المتعلم من نفقات.
وقد يكون الزارع أحسن حالاً من المتعلم الذي سهر الليالي وأتعب نفسه في تحصيل العلم وشقى بذلك دهراً طويلاً، ثم إذا به يجد نفسه موظفاً صغيراً لا يكفيه راتبه العيش الكفاف بضعة أيام.
بينما يكون أخوه متمتعاً بكثرة الطعام وراحة البال واستقرار الحال، فسبحان من قسم أمر المعايش كله بالتساوي بين الناس فمنهم من أعطاه مالاً أكثر، ومنهم من أعطاه علماً أكثر، ومنهم من أعطاه أولاداً أكثر، ومنهم ومنهم، والحظ في النهاية متساوي وإن ظهر التفاضل في بعض النواحي.
قال تعالى: { نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضًا سُخْرِيًّا وَرَحْمَةُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ } (سورة الزخرف: 32).
والقسمة تفتضي العدل والمساواة، فما من مرفوع في جهة إلا مخفوض في جهة أخرى، فتأمل ذلك ودع الأرض لله يورثها من يشاء من عباده { وَاللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ } (سورة النور: 38).
واحرص كل الحرص على أن توفق بين اولادك وتوفق بين قلوبهم ما استطعت إلى ذلك سبيلا، وتزيل من طريقهم كل ما يسبب العداوة بينهم.
وبذلك تقوى الروابط الأخوية وتتوثق العرى بين أفراد الأسر والمجتمعات وما الأسرة إلا لبنة في بناء المجتمع، إن صلحت صلح المجتمع كله وإن فسدت فسد المجتمع كله.
والله الهادي إلى سواء السبيل.