البحث
ائْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
2177
2019/08/27
2024/11/13
عَنْ بَهْزُ بْنُ حَكِيمٍ حَدَّثَنِي أَبِيهِ عَنْ جَدِّي قَالَ: قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ، نِسَاؤُنَا مَا نَأْتِي مِنْهُنَّ وَمَا نَذَرُ؟
قَالَ: "ائْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ، وَأَطْعِمْهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَاكْسُهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ، وَلَا تُقَبِّحْ الْوَجْهَ، وَلَا تَضْرِبْ".
لما هاجر المسلمون إلى المدينة والتقوا باليهود وجدوهم يعتزلون نساءهم في المحيض فلا يقربونهن، ولا ينامون على فرشهن، ولا يأكلون معهن حتى ينقطع حيضهن، وكانوا أيضاً لا يجامعون نساءهم في فروجهن من جهة إدبارهن، ويقولون: من جامع امرأته في فرجها من دبرها جاء الولد أحول.
وكان بعض الناس منهم ومن غيرهم يأتون نساءهم في أدبارهن كما يفعل الخبثاء منهم بالذكور والعياذ بالله تعالى، فاحتاج المسلمون إلى معرفة حكم الله تعالى في إتيان النساء ومعاشرتهن وما لهن على أزواجهن من الحقوق.
فجاء واحد منهم، وهو معاوية بن حيدة الصحابي الجليل إلى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يسأله هذا السؤال.
قال: قلت: يا رسول الله، نساؤنا ما نأتي منهن وما نذر؟ أي ما الذي نستمتع به منهن، وما الذي نترك الاستمتاع به.
وهو سؤال مجمل يفهم المراد منه من كان له حظ وافر من الذكاء، ومن أذكى من رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –!
وفيه كناية لطيفة يعرفها الحذاق في بلاغة الأساليب العربية، فقوله: نساؤنا يعني زوجاتنا، وهو تعبير فيه تعميم، فلفظ النساء يشمل الأزواج وغيرهن، ولكن المراد به الأزواج حتماً، وإنما عبر به ليعلم الآباء، وسائر الأولياء حدود الأزواج في حق الاستمتاع بزوجاتهم حتى يطمئنوا إلى عصمتهن مما حرم الله عليهن، فلا يكونون مقصرين في حمايتهن إذا مارس الأزواج معهن من وجوه المتعة ما نهى الله عنه، فلا يغب عن ذهنك ما في هذه الكناية من لطف وملاطفة.
وسألني الكاتب بعد أن أمليت عليه هذه الفقرة مزيداً من التوضيح فقلت له: لفظ نساء يشمل الزوجات والأمهات والبنات والأخوات والعمات والخالات وغيرهن فكان من المتبادر أن يسأل السائل عن الزوجات، ولكنه أراد أن ينوب في السؤال عن كل من يعنيهم الأمر، فالأب مثلاً يريد أن يعرف بماذا يستمتع زوج ابنته منها وما الذي يجب أن يمتنع عن الاستمتاع به، فإنه يغار عليها ولا يرضى أبداً أن يعصي الله فيها ولا أن تعصي الله فيه.
وما يقال عن الأب يقال عن الأخ والعم وكل من له ولاية على المرأة.
ولو قال السائل: أزواجنا ما نأتي منهن وما نذر؟ لفات هذا التعميم المفيد الذي يدور في خاطر الرجال بوجه عام، المتزوج منهم وغير المتزوج.
والعلم بالشيء أولى من الجهل به، فمن الواجب على كل صغير وكبير من الرجال والنساء أن يعرفوا حدود الله في كل شيء لحق بهم، أو سيلحق بهم، أو ربما يلحق بهم أو بغيرهم، فيكونون عندئذ قادرين على اتخاذ القرار المناسب في الوقت المناسب، وقادرين على الفتوى إذا استفتوا، وطلب العلم فريضة على كل مسلم ذكراً كان أم أنثى.
وقول السائل: ما نأتي منهن وما نذر؟ سؤال عريض يحتاج إلى جواب مفصل. فجاء الجواب على قدر السؤال وزيادة.
فقال رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "ائْتِ حَرْثَكَ أَنَّى شِئْتَ" إلى آخر الحديث.
أي: استمتع بها كيف شئت ومتى شئت وفي أي مكان شئت إلا الدبر وزمن الحيض، على ما سيأتي بيانه بعد قليل.
وقد سمى النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – الزوجة حرثاً تشبيهاً لها بالأرض التي يزرعها صاحبها فيلقي فيها البذور بعد إصلاحها وتهيئتها للإنبات.
وتشبيههاً بالحرث تعليل لجواز الاستمتاع بها في كل وقت وعلى أي كيفية مادام الجماع في الفرج، والتشبيه أيضاً يشعر بأن الجماع لا ينبغي أن يكون في الدبر لأنه ليس موضعاً للبذر، فالفرج هو المكان الطبيعي الوحيد الصالح لإلقاء البذور فيه، فلا ينبغي العدول عنه إلى الفرج الخلفي وهو فتحة الشرج.
والرسول– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يشير بهذا التشبيه البليغ أو بهذه الكناية المهذبة إلى قوله تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } (سورة البقرة: 223)
فقد سألوا النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عن شأنهم مع النساء في الحيض فأمرهم الله باعتزالهن في زمن الحيض حتى يتطهرن بالغسل بعد انقطاع الحيض، ورغبهن في إتيانهن عقب الطهر، فقال جل شأنه في الآية التي قبلها: { وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذًى فَاعْتَزِلُوا النِّسَاءَ فِي الْمَحِيضِ وَلَا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذَا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ } (سورة البقرة: 222).
ثم أنزل قوله تعالى: { نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ } توسعة لهم في الاستمتاع بهن على أي نحو شاءوا مقبلات أو مدبرات مادام النكاح في الفرج.
وقد استدل الفقهاء بهذه الآية على حرمة إتيان المرأة في دبرها، واستمات الإمام الطبري في تصحيح هذا القول والرد على مخالفيه من الشيعة ومن نجا نحوهم.
وكذلك فعل ابن القيم في كتابه زاد المعاد، وقد توسعت في بحث هذه المسألة وذكرت الأضرار المترتبة على إتيان المرأة في دبرها نقلاً عن الأئمة الأعلام والأطباء المعاصرين، فراجعه إن شئت في المجلد الثاني من كتاب "الفقه الواضح" وسأذكر لك هنا شيئاً يسيراً مما ذكرتها هناك فأقول: إن إتيان المرأة في دبرها شذوذ جنسي خطير يشبه اللواط إلى حد كبير، ويترتب على ذلك الكثير من الأضرار بالنسبة للرجل والمرأة، لذلك حرمه الله تعالى في كتابه وعلى لسان رسوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –.
أما الكتاب فقوله تعالى في سورة البقرة: { فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ }.
أي من الموضع الذي يخرج منه الولد، كما قال أكثر المفسرين.
وأما السنة فأحاديث كثيرة منها ما رواه أحمد، وابن ماجه، والترمذي أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "لَا تَأْتُوا النِّسَاءَ فِي أَعْجَازِهِنَّ" أو قال: "فِي أَدْبَارِهِنَّ" ورواته ثقات.
وروى أحمد وأصحاب السنن عن أبي هريرة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أن رسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "مَلْعُونٌ مَنْ أَتَى امْرَأَتَهُ فِي دُبُرِهَا".
والحرمة إنما تتحقق بإدخال حشفة الذكر في حلقة الدبر. أما مجرد ملامسة الذكر لحلقة الدبر، دون إدخال، فليس فيها حرمة، ولكن من حام حول الحمى يوشك إن يقع فيه. وحرمة النكاح في الدبر كحرمة النكاح في الحيض، وأضراره كأضراره بل أشد.
روى أحمد في مسنده أن عمر بن الخطاب – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قَالَ: "هَلَكْتُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، قَالَ" :وَمَا أَهْلَكَكَ؟!".. قَالَ: حَوَّلْتُ رَحْلِي البارحة (يريد أنه جامع امرأته من ناحية دبرها في فرجها).
فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "أَقْبِلْ وَأَدْبِرْ وَاتَّقِ وَالْحَيْضَةَ الدُّبُرَ" (أي لا عليك أن تجامع امرأتك بالطريقة التي تختارها مادام الجماع في الفرج وفي الوقت الذي لا تكون فيه غي حائض ولا نفساء).
وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في هذه الوصية: "وَأَطْعِمْهَا إِذَا طَعِمْتَ، وَاكْسُهَا إِذَا اكْتَسَيْتَ". يشير إلى ما يجب عليه من النفقة في نظير الاستمتاع بها وفي نظير خدمتها له، وكونها أماً لأولاده وربة لبيته، وأنيسة له في ليله ونهاره.
وهذه النفقة تكون مما ينفق على نفسه منه، فإذا أكل طعاماً أشركها معه فيه، من غير أن يميز نفسه عنها بشيء يستحق الذكر إلا برضاها وطيب نفس منها، وإذا كساه الله ثياباً فليكسها منها بما يليق بها.
فهذا هو العدل الذي تقتضيه الزوجية القائمة على المودة والرحمة.
وميزان العدل في الإسلام أن يُعطي المرء من الحقوق مثل ما عليه من الواجبات.
قال تعالى: { وَلَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَلِلرِّجَالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ } (سورة البقرة: 228).
والدرجة التي جعلها الله للرجال على النساء هي القوامة والتبعة والمسئولية كما قال أكثر الفقهاء والمفسرين.
وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "وَلَا تُقَبِّحْ الْوَجْهَ، وَلَا تَضْرِبْ" أي لا تقل لها: قبح لها وجهك، ولا تنظر إلى وجهها باحتقار، فإن الله خلق آدم على صورته، أي على صورة هذا الوجه مع الفارق اليسير بين وجه الرجل ووجه المرأة.
إذا كان هذا لا يجوز شرعاً فكيف بمن يبصق على الوجه ويلطمه!.
وقوله: "وَلَا تَضْرِبْ" أي لا تضرب الوجه بالذات أبداً، ولا تضرب سائر البدن إلا عند الضرورة.
وذلك إذا وعظتها فلم تتعظ، وهجرتها في المضجع فلم ترتدع.
قال تعالى: { وَاللَّاتِي تَخَافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَاهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضَاجِعِ وَاضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلَا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلِيًّا كَبِيرًا } (سورة النساء: 34).
لكن ينبغي أن يكون الضرب غير مبرح لا يكسر عظماً ولا يجرح جلداً.
على أن من يضرب امرأته فليس بخير الناس، فخير الناس خيره لأهله كما جاء في الحديث وسيأتي في الوصايا بالنساء بسط لها المعروف الذي أمر الرجال والنساء على السواء أن يتعاشروا به.
واعلم أيها الأخ المسلم أن الحياة الزوجية تقوم على عشرة أصول هي: العدل، والفضل، والعفو، والمعروف، والتقوى، والتعاون، والصدق، والأمانة، والإخلاص، والتفاهم.
وهذه الأصول قد تكلمت عنها بإطناب في كتاب "مع المرأة المسلمة في أحكام دينها وأمور دنياها".
وخلاصة ما ذكرته أن العدل هو الأساس الأول الذي يقوم عليه أمر الملك كله، لكن الفضل مطلوب بين الناس بوجه عام وبين الزوجين بوجه خاص.
قال تعالى: {وَلَا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ } (سورة البقرة: 237).
والعفو والمعروف وسائر ما ذكرته مبسوط في كتاب الله تعالى فلا نطيل القول فيه هنا وسنفرغ إليه في مواضع أخرى، وبالله التوفيق.