البحث
تَصَدَّقْنَ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ
عَنْ زَيْنَبَ امْرَأَةِ عَبْدِ اللَّهِ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا– قَالَتْ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ"
قَالَتْ: فَرَجَعْتُ إِلَى عَبْدِ اللَّهِ فَقُلْتُ: إِنَّكَ رَجُلٌ خَفِيفُ ذَاتِ الْيَدِ، وَإِنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أَمَرَنَا بِالصَّدَقَةِ. فَأْتِهِ فَاسْأَلْهُ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ يَجْزِي عَنِّي وَإِلَّا صَرَفْتُهَا إِلَى غَيْرِكُمْ.
قَالَتْ: فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بَلْ ائْتِيهِ أَنْتِ.
قَالَتْ: فَانْطَلَقْتُ. فَإِذَا امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ بِبَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَاجَتِي حَاجَتُهَا.
قَالَتْ: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ أُلْقِيَتْ عَلَيْهِ الْمَهَابَةُ.
قَالَتْ: فَخَرَجَ عَلَيْنَا بِلَالٌ فَقُلْنَا لَهُ ائْتِ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَأَخْبِرْهُ أَنَّ امْرَأَتَيْنِ بِالْبَابِ تَسْأَلَانِكَ: أَتُجْزِئُ الصَّدَقَةُ عَنْهُمَا عَلَى أَزْوَاجِهِمَا وَعَلَى أَيْتَامٍ فِي حُجُورِهِمَا؟ وَلَا تُخْبِرْهُ مَنْ نَحْنُ.
قَالَتْ: فَدَخَلَ بِلَالٌ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَأَلَهُ. فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مَنْ هُمَا؟" فَقَالَ: امْرَأَةٌ مِنْ الْأَنْصَارِ وَزَيْنَبُ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "أَيُّ الزَّيَانِبِ؟" قَالَ: امْرَأَةُ عَبْدِ اللَّهِ فَقَالَ لَهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ".
كان النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يتجه إلى النساء بعد أن يفرغ من الرجال فيعظهن بمثل ما وعظهم به، ويخصهن بالخطاب مع أنهن شقائق الرجال في الأعمال الصالحة والإثابة عليها؛ مبالغة في حضهن على فعل الخير وإشعارهن بتحمل التبعة في إطعام الفقراء والمساكين من فضول أموالهن كما يفعل الرجال سواء بسواء مادام لهن مال ينفقن منه.
وكانت النساء يجدن في هذا الخطاب حلاوة تدفعهن إلى السمع والطاعة أكثر من الرجال أحياناً، فيسارعن في الخيرات وتنافسن مع الرجال في الصلاة والصوم والزكاة وسائر أنواع العبادات والقربات.
فقد أقبل عليهن يوماً فأوصاهن بهذه الوصية المقتضية، فبلغت منهن مبلغ العظة والاعتبار، وأخذت كل واحدة منهن تبحث في بيتها عن شيء تتقرب به إلى الله تبارك وتعالى.
والنساء أرق من الرجال عاطفة وأحن منهم على ذوي القربى واليتامى والمساكين، وهن أحوج من الرجال إلى إخراج الصدقات لكثرة ذنوبهن؛ فأنهن يكثرن اللعين ويكفرن العشير، وهو الزوج، ويأتين من الأفعال ما يوجب دخولهن النار.
فقد اطلع النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – في النار فوجد أكثر سكانها النساء. فلا عجب أن يحضهن الرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بهذا الخطاب دون الرجال وإن كانوا مأمورين بذلك مثلهن.
فقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" ترغيب لهن في إخراج شيء من أموالهن تطوعاً للفقراء واليتامى والمساكين إبتغاء مرضاة الله تعالى، ولو من حليهن وهو أعظم ما لديهن، وهن في الغالب لا يجدن بشي منها لحبهن للزينة والمفاخرة، وكأنه يقول لهن: لا تبخلن بشيء من أموالكن مهما كانت عزيزة عليكن؛ فإن الآخرة خير وأبقى، ولن يحصل العبد على حسن الثواب إلا إذا جاء بما يحب.
يقول الله عز وجل: { لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَمَا تُنْفِقُوا مِنْ شَيْءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ } (سورة آل عمران: 92).
ويحتمل أن يكون المراد بقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "وَلَوْ مِنْ حُلِيِّكُنَّ" قطع أعذارهن عن البخل بما في أيديهن، ولو كان التصدق بشيء مما تستطيع المرأة أن تستعيض عنه بشيء آخر أو تستغنى عنه.
وذلك مبنى على أن المرأة المسلمة كانت تتحلى في الغالب بما ليس له ثمن مرتفع زاهداً في الدنيا ورغبة في الآخرة.
وكان أكثر المهاجرين والأنصار من الفقراء حتى أن الرجل لم يكن يملك إلا ثوباً واحداً يتبادله مع امرأته أحياناً.
وما أغناهم الله عز وجل إلا بعد أن جاهدوا في سبيله وغنموا من أموال الكفار غنائم كثيرة.
وكانت بعض النسوة يستنكفن أن يخرجن التمرة ونحوها لمن هو في حاجة إليها. فحثهن النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – على التصدق بمثلها دون إحراج أو خجل، فقد تشبع التمرة جائعاً، وقد تشبع جائعين ببركة الله عز وجل، فقال في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ –: "لَا تَحْقِرَنَّ جَارَةٌ لِجَارَتِهَا وَلَوْ فِرْسِنَ شَاةٍ" وفرسن الشاة ظلفها مما يلي القدم.
والمعنى لا تستخف جارة بالشيء الذي عندها مهما كان قليلاً أن تهديه لجارتها، فإن الهدية تحفظ الود وتجلب المحبة، وتقضي الحاجة وتقي من عذاب النار.
وقد روى مسلم أيضاً عن عدي بن حاتم – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال سمعت النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "مَنْ اسْتَطَاعَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَتِرَ مِنْ النَّارِ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ فَلْيَفْعَلْ".
وروى مسلم أيضاً عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ قَالَ: ذَكَرَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ النَّارَ فَأَعْرَضَ وَأَشَاحَ ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ" ثُمَّ أَعْرَضَ وَأَشَاحَ حَتَّى ظَنَنَّا أَنَّهُ كَأَنَّمَا يَنْظُرُ إِلَيْهَا. ثُمَّ قَالَ: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ. فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَبِكَلِمَةٍ طَيِّبَةٍ".
ولكن هل يجوز للمرأة أن تتصدق من مالها بغير إذن زوجها.
أقول: في المسألة خلاف بين الفقهاء فمنهم من يرى أن لها الحق في ذلك وأن استئذاته من الأمور المستحبة لا من الأمور الواجبة لعموم قوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – "تَصَدَّقْنَ يَا مَعْشَرَ النِّسَاءِ".
ومنهم من يرى أن استئذان الزوج واجب في الصدقة التي تعلم أن زوجها لا يأذن فيها غالباً؛ لأنه قوام عليها ومسئول عن حفظ مالها، وقد يكون هو في حاجة إليها.
أما في القليل فلا بأس أن تخرجه من غير أن تستأذنه فيه، وهذا هو الراجح من أقوال الفقهاء؛ لأن زينب راوية هذا الحديث قد أتت زوجها تعرض عليه صدقتها لحاجته إليها بشرط أن يذهب إلى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – فيسأله عن ذلك.
فلما ذهبت إليه وجدت امرأة أخرى تريد أن تسأله عن الذي جاءت تسأل عنه، فأرسلتا بلالاً؛ هيبة له صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وحياءٌ منه، فسأله، فقال صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "لَهُمَا أَجْرَانِ: أَجْرُ الْقَرَابَةِ وَأَجْرُ الصَّدَقَةِ".
وذلك لأن مودة ذوي القربى في ذاتها لها أجرها العظيم، ولو كانت بغير صدقة، فكيف لو كانت بصدقة!!.
{ قُلْ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى } (سورة الشورى: 23).
وأما الصدقة فإن أجرها يكون بقدر الإخلاص فيها، ويكون بقدر حال صاحبها من الفقر والغنى.
قال عليه الصلاة والسلام: "سبق درهم مائة ألف درهم".
قالوا: وكيف؟
قال: "كان لرجل درهمان تصدق بأحدهما، وانطلق رجل إلى عُرض ماله فأخذ منه مائة ألف درهم فتصدق بها".
والمراد بالصدقة: صدقة التطوع.
أما الزكاة فإنها لا تعطي للزوج إلا إذا كان عليه دين قد اقترضه قبل الزواج منها، أو اقترضه لقضاء حاجة لا تخصها كالنفقة على أمه أو على ولده العاجز من غيرها، وذلك عند الضرورة.
أما الأقارب فإنهم يأخذون من الزكاة إلا الأصول والفروع، وهم الآباء والأبناء؛ وذلك لأن نفقة الآباء واجبة على الأبناء، ونفقة الأبناء واجبة على الآباء في حال العجز.
هذا والله أعلم.