البحث
أَمَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
8388
2019/10/20
2024/12/18
عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أَنَّهَا زَفَّتْ امْرَأَةً إِلَى رَجُلٍ مِنْ الْأَنْصَارِ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "يَا عَائِشَةُ، مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ؟ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ".
للناس عادات وتقاليد في التعبير عن أفراحهم، منها ما يقره الشرع ويرتضيه، ومنها ما لا يقره ولا يرتضيه، ومنها ما يقره بعد تعديله وإزالة ما فيه من العيوب الخُلقية أو الاجتماعية.
والإسلام – كما نعلم – دين الفطرة، لا يحجر عنها ما يوافقها ويحفظ حيويتها ومرونتها، ولكنه يزيل من طريقها ما يتعارض معها أو لا يتجاوب مع متطلباتها أو يؤثر على مسارها في الخليقة.
فالناس بخير ما ظلوا على فطرتهم التي فطرهم الله عليها، ولذلك سمي هذا الدين، دين الفطرة.
وقد بعث النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – والعرب على ما هم عليه من العادات الموروثة، فتركهم وشأنهم في أكثرها، كالشجاعة والكرم، وإغاثة الملهوف ونحو ذلك مما يحمدون عليه، ومنعهم بالحكمة والموعظة الحسنة من كل ما يسوء فعله وقولهن وأرشدهم إلى التزام الأدب الإسلامي في بعض العادات التي لم ير بأساً من مسايرتها والسير في رحابها إلى تحقيق الآمال والمطالب بالوسائل المرضية.
وفي هذه الوصية مسايرة للفطرة وتعبير عن الفرح بأشرف العقود وأوثقها بما يحمد ولا يذم.
فالزواج نعمة من أجل النعم وفرصة من الفرص، التي قد لا تتكرر، فلا بد أن يعتبر الإنسان عن سروره بها بما يحب، وبما جرى به العرف من غير شطط ولا خروج عن الأخلاق السامية، التي بعثها الإسلام من كوامنها الفطرية.
فها هي عائشة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – تقص علينا أنها زفت امرأة إلى رجل من الأنصار، فسألها النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – سؤالاً يترتب عليه ما ببعده، قد فهمنا منه أموراً نشير إليها هنا بإيجاز؛ فتحاً لأبواب التأمل والنظر لمن كان أذكى مني وأعلم.
زفت عائشة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – امرأة إلى رجل من الأنصار، أي دفعتها إليه، وأدخلتها عليه في سرور وحبور، وإقبال فيه شيء من السرعة، كما يقتضيه الفعل "زف"، فالزف والزفيف معناه: الدفع والاندفاع في صوت وحركة فيها شيء من السرعة.
قال تعالى حكاية عن قوم إبراهيم عليه السلام: { فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ } (سورة الصافات: 94). أي أقبلوا إليه يدفع بعضهم بعضاً في حركة شديدة وجلبة.
وهذا الزف إنما يكون في الأمور المهمة التي تقتضي العجلة.
وقد أطلق الزفاف في العرف اللغوي على الزواج وإدخال المرأة على زوجها.
وعائشة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – وإن كانت صغيرة في السن لها مهابة عظيمة في نفوس المؤمنين والمؤمنات؛ لذلك تفعل ما يفعله النساء الكبار؛ لأن التي تزف المرأة لزوجها غالباً ما تكون كبيرة في السن أو مشهورة بهذا العمل؛ لأنها تُكافأ عليه أحياناً بهدية من قبل الزوج أو من قبل الزوجة كما هو معروف حتى الآن في بعض القرى المصرية وغيرها من بلاد المسلمين.
وجاء في بعض الروايات أن هذه المرأة كانت من أقاربها.
فقد روى ابْنِ مَاجَهْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُما قَالَ: "أَنْكَحَتْ عَائِشَةُ قَرَابَةً لَهَا.
"وَلِأَبِي الشَّيْخِ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: "أَنَّ عَائِشَةَ زَوَّجَتْ بِنْتَ أَخِيهَا أَوْ ذَاتَ قَرَابَةٍ لَهَا.
وَفِي "أَمَالِي الْمَحَامِلِيِّ" مِنْ وَجْهٍ آخَرَ عَنْ جَابِرٍ: " نَكَحَ بَعْضُ أَهْلِ الْأَنْصَارِ بَعْضَ أَهْلِ عَائِشَةَ فَأَهْدَتْهَا إِلَى قُبَاءٍ.
وَجَاءَ فِي أُسْدِ الْغَابَةِ أَنَّ اسْمَ هَذِهِ المرأة التي زفتهاعَائِشَةَ: الْفَارِعَةُ بِنْتُ أَسْعَدَ بْنِ زُرَارَةَ ، وَأَنَّ اسْمَ زَوْجِهَا: نُبَيْطُ بْنُ جَابِرٍ الْأَنْصَارِيُّ، وَقَالَ فِي تَرْجَمَةِ الْفَارِعَةِ: إِنَّ أَبَاهَا أَسْعَدَ بْنَ زُرَارَةَ أَوْصَى بِهَا إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَزَوَّجَهَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نُبَيْطَ بْنَ جَابِرٍ).
ويحتمل أن تكون عائشة قد زفت امرأتين: إحداهما من قرابتها والأخرى من غيرهم، وهي الفارعة.
ونحن لا يعنينا ما يذكره المحدثون من الأسماء؛ لأنه لا يتعلق بذكره فائدة، وإنما يعنينا ما تشتمله هذه الوصية من الأحكام واللطائف.
وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "مَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ" استفهام، الغرض منه: الحث والترغيب.
وفي رواية رأيتها في جامع الأصول من حديث البخاري: "أمَا كَانَ مَعَكُمْ لَهْوٌ". أي كان أولى بكم أن تصبحوا معكم لهواً، وهو أمر فيه حث وترغيب، كأنه قال: هلا أخذتم معكم لهواً.
واللهو: هو الدف والغناء وقد سُمي لهواً لأن الناس يعبرون به عن سرورهم واستبشارهم بالخير القادم عليهم.
واللهو نوعان: لهو بريء محمود، ولهو مشبوه مذموم.
والأول هو المراد هنا قطعاً؛ لأنه إعلان للنكاح يحضره الأقارب والجيران والأصدقاء؛ مشاركة لأهل العرس أفراحهم وآمالهم فيما يترتب على الزواج من الإنجاب ودوام العشرة وحلول البركة في الرزق والعمر.
وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "فَإِنَّ الْأَنْصَارَ يُعْجِبُهُمْ اللَّهْوُ" جملة تعليلية تؤكد الأمر وتقويه.
والمعنى: أنهم يحبون اللهو أكثر من غيرهم، وليس المعنى: أن غيرهم ليس مثلهم في حب اللهو، فحب اللهو فطرة في البشر، إلا أنهم يتفاوتون فيه.
والأنصار قوم يتميزون برقة الطبع وخفة الظل أكثر ممن حولهم من الأعراب.
والرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يرد المفاضلة بينهم وبين غيرهم في ذلك، ولكنه أراد الإخبار عنهم بهذه الصفة؛ ليضع الناس في اعتبارهم ذلك، فيصحبونه معهم إذا زفوا إلى واحد منهم امرأة: منهم أو من غيرهم.
وقد وردت روايات لا بأس من ذكرها هنا على ما فيها من ضعف في السند، ترينا مدى عظمة الإسلام في اليسر والسماحة ورفع الحرج ومسايرة الفطرة.
روى أحمد والبزار عن جابر بن عبدالله – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – أن النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال لعائشة:
"أَهْدَيْتُمْ الجارية إِلَى بيتها" قالت: نعم.
قَالَ: "فهلا بعثتم معها من يغنيهم، يقول: أتيناكم أتيناكم فَحَيُّونَا نُحَيِّيكُم؛ فَإِنَّ الْأَنْصَارَ قَوْمٌ فِيهِمْ غَزَلٌ".
وروى الطبراني في الأوسط عن عائشة – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أن النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: "فَهَلْ بَعَثْتُمْ مَعَهَا جَارِيَةً تَضْرِبُ بِالدُّفِّ وَتُغَنِّي".
قالت: تقول ماذا؟.
قال: "تقول:
أَتَيْنَـــاكُــمْ أَتَـيْنَــاكُـــمْ فَحَيَّــانَــا وَحَيَّاكُـمْ
وَلَوْلَا الذَّهَبُ الْأَحْمَــرُ مَــا حَـلَّتْ بِوَادِيكُمْ
وَلَوْلَا الْحِنْطَةُ السَّمْرَاءُ مَا سَمِنَتْ عَذَارِيكُمْ
وهذا الرجز إما أن يكون جاء من النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – عفو الخاطر، وإما أن يكون قد سمعه من بعض الجواري اللاتي يغنين في العرس؛ لأنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – لم يكن يقول الشعر، وإنما كان يقرأ القرآن وكفى.
{ وَمَا عَلَّمْنَاهُ الشِّعْرَ وَمَا يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ وَقُرْآنٌ مُبِينٌ } (سورة يس: 69).
ومن هذا يتبين لنا أن الغناء البريء لا شيء فيه، بل يكون أحياناً من المستحبات إذا كان يدعو إلى فضيلة أو ينهي عن رذيلة أو يعبر عن سرور أو حزن.
فالأغاني – كما قال كثير من الفقهاء – كلام حَسَنُهُ حَسَنُ وقبيحه قبيح.
ويؤخذ من هذه الوصية فوق ما ذكرنا: أن الزواج نعمة من نعم الله الكبرى، وأن التعبير عنها بما هو مشروع يعد شكراً لله على هذه النعمة، وعلى المسلم أن ينوي ذلك؛ حتى يكون مأجوراً على ما يأتي به من الأفعال المعبرة عن السرور والاستبشار، فأنفاس المؤمن إن وهبها الله أحصاها الله إليه وأثابه عليها.
ويؤخذ منها: أن اللهو البريء في مثل هذه المناسبات من المستحبات، فمن قصر فيه، فقد حرم نفسه وحرم العروسين من التمتع بهذا اللهو المرخص فيه.
وأي إنسان يفتي بترك هذا اللهو يكون قد تسبب في كبت المشاعر، التي لا ينبغي أن تكبت في مثل هذه المناسبات.
ومن هنا لا تحسب فتواه هذه ديناً، بل هي من قبيل التزمت والتشدد، والدين يسر لا عسر فيه ولا حرج.
والمؤمن ينبغي عليه أن يروح عن نفسه ساعة بعد ساعة مغتنماً في ذلك أي مناسبة سارة من غير أن يتعدى على حرمات الشريعة وحدودها، حتةى يتفرغ للعبادة بعد ذلك فيؤديها وهو منشرح الصدر قوي الجسم.
ولولا هذه المناسبات السارة التي يروح فيها الإنسان عن نفسه، لاختل توازنه النفسي والعقلي وضاق ذرعاً بهذه الحياة.
فليأخذ كل منا حذره من التزمت والتنطع، والقول بأن هذا حرام وهذا حلال بغير علم؛ فإن ذلك افتراءٌ على الله يجب الإقلاع عنه والتوبة منه.
إن التعبير عن السرور بالزواج بضرب الدفوف والأغاني البريئة يحدث ألفة بين الزوجين وبين أسرتيهما، وتبقى هذه الذكرى ماثلة في أذهانهم عمراً طويلاً ولاسيما الزوجان.
فهذا علاج نفسي من أمراض كثيرة ربما لا تزال إلا به، كالكبت والانطواء وعدم الثقة بالنفس ونحو ذلك من العقد النفسية التي قد يعجز الأطباء عن علاجها.
وليس هناك فرحة يعتز بها كل من الزوجين وأسرتيهما مثل هذه الفرحة.
وقد عرفت فتاة كان بها لوث أو جنون وقد تقدمت في السن، فأشرت على أهلها أن يبحثوا لها عن زوج بأي وسيلة ممكنة، وقلت لهم: إن علاجها زواجها، وقد وقع في قلبي ذلك، ولا أدري مدى صحته، وقلت في نفسي: إنها وصية فيها خير لها ولهم، وربما يحدث ما توقعته، وربما تظل كذلك وزوجها يرضى بها على ما هي عليه، وربما يسعى في علاجها.
لكن ما حدث كان مذهلاً، فما إن عقدوا قرانها وزفوها لزوجها بعد أن أقاموا لها حفلاً كريما بالطريقة الشرعية، حتى أفاقت من جنونها ولم تكن تعرف أمها ولا أبوها، فقامت إليهما تُقبلهما بلهفة وفرح شديدين.
ومن يومها لم تظهر عليها أي أمارة من أمارات الجنون
ولله في خلقه شئون، نسأل الله لنا ولكم السلامة والعافية.