البحث
كُلُوا وَاشْرَبُوا
تحت قسم :
من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
3199
2019/11/18
2024/12/18
قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا وَتَصَدَّقُوا فِي غَيْرِ إِسْرَافٍ وَلَا مَخِيلَةٍ".
أحل الله لعباده الطيبات، وحرم عليهم الخبائث، ووضع عنهم ما يثقل عليهم فعله. فقال: { يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ } (سورة البقرة: 168)
وقال تبارك وتعالى: { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّبَاتِ مَا رَزَقْنَاكُمْ وَاشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ } (سورة البقرة: 172).
وقال عز من قائل: { يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَكُلُوا وَاشْرَبُوا وَلَا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ الْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الْآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ } (سورة الأعراف: 31-32).
وهذه الوصية ترجمة وبيان لمعاني هذه الآيات وما يماثلها، فقد أباح النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ما أباحه الله لعباده فقال: "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا" وأمرهم بالصدقة على سبيل الوجوب؛ لإن الصدقة تطفيء غضب الرب، وتدفع عن الإنسان غائلة البخل، وتقيه عذاب النار، كما سيأتي بيانه.
وهذه الوصية تفصح عن سماحة الإسلام ويسره، ورفع الحرج عن معتنقيه، ودفع السوءعنهم بما تجود به أنفسهم.
ولنا فيها نظرات تكشف بها عن بعض ما يتعلق بها من أحكام شرعية، ولطائف بيانية، نحن في حاجة إليها.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "كُلُوا وَاشْرَبُوا وَالْبَسُوا" أي كلوا ما شئتم من الحلال الطيب. فهو أمر عام، مخصوص بما أحله الله كما هو مفهوم من القرآن والسنة.
وهذا الأمر يقتضي ثلاثة أمور متلازمة:
الأول: أن يكون المأكول، والمشروب، والملبوس من الحلال الطيب، كما ذكرنا، بشرط أن يكون نافعاً ولائقاً، ومناسباً.
فالمريض مثلاً لا يأكل ولا يشرب ولا يلبس ما يضره.
الأمر الثاني: لا يخرج المسلم في مطعمه ومشربه وملبسه عن الحد اللائق به، والمناسب له، فالإمام الذي يصلي بالناس، والرجل المواظب على الجماعة في المسجد، لا ينبغي أن يأكل ما له رائحة كريهة كالثوم والبصل؛ لأن ذلك يؤذي الناس.
وقد نهى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ من أكل ثوماً أو بصلاً عند دخول المسجد فقال: "من أكل ثوماً أو بصلاً فليعتزل مسجدنا وليقعدن في بيته".
وهذا الأمر للكراهة، وقيل للتحريم على ما سيأتي بيانه في موضعه.
وفيه تنفير المسلم من أكلهما في الأوقات المقاربة لأوقات الصلاة.
والرجل مثلاً: لا يلبس من الثياب ما اعتادت النساء أن تلبسه، ولا من الحلي ما اعتادت النساء أن تتحلى به.
وكذلك المرأة، لما فيه من التشبه المنهي عنه.
فمن البلاء والعار أن يتشبه الرجال بالنساء، والنساء بالرجال، في الملبس وغيره مما يخرج كل منهما عن طبعه وطبيعته، ويجعله يشبه الآخر في وضعه، ومظهره، وأقواله، وأفعاله.
روى البخاري في صحيحه والترمذي في جامعه، وأبو داود في سننه، وغيرهما عن ابن عباس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا قال: "لَعَنَ الْمُتَشَبِّهَاتِ مِنْ النِّسَاءِ بِالرِّجَالِ وَالْمُتَشَبِّهِينَ مِنْ الرِّجَالِ بِالنِّسَاءِ".
وروى أبو داود والنسائي وأحمد والحاكم بسند صحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: "لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّجُلَ يَلْبَسُ لِبْسَةَ الْمَرْأَةِ، وَالْمَرْأَةَ تَلْبَسُ لِبْسَةَ الرَّجُلِ".
وقد لا يقصد الرجل يلبس ما تلبسه المرأة غالباً التشبه بها، ومع ذلك يناله من هذا الإثم شيء، فليتق الله ولا يلبس ما تلبسه النساء, ولو كان في بيته، اتقاء للشبهات، وحذراً من الوقوع تحت هذا الوعيد الوارد في المتشبهين والمتشبهات.
الأمر الثالث: أن يكون التمتع بهذه الطيبات مما يقره العرف السائد في البلد، بحيث لا يتعرض المسلم للغمز واللمز والقيل والقال، فإن خير الناس من يتقي أذى الناس.
ومخالفة الناس في ملابسهم وعاداتهم في المأكل والمشرب ليست من المروءة؛ إذا كانوا لا يخالفون الشرع فيما يفعلون.
فالرجل مثلاً إذا كان يعيش في قوم يلبسون العمامة، ولا يتخلون عنها كأهل صعيد مصر، فلا يستحب له أن يخالفه، ويمشي برأسه عارية.
وإذا كان أهل بلده يلبسون الطواقي فوق رءوسهم فلا يستحب له أن يلبس ما يلبسه الفرنجة من القبعات ونحوها.
هذا ما ينبغي مراعاته في الأكل والشرب والملبس، وغير ذلك مما هو في معناه.
وقوله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "وَتَصَدَّقُوا" معناه: أخرجو صدقة طيبة بها نفوسكم مما تأكلون وتشربون وتلبسون.
فالصدقة التي لا يتبعها من ولا أذى فيها مرضاة الله تبارك وتعالى، ومنجاة للمسلم من بلاء الدني، وعذاب الآخرة، وفيها تحصين للمال، وشفاء من الأمراض، ودفع للعين والحسد، وإذهاب للهم والحزن.
وهي برهان لصحة الإيمان، وسلامة اليقين، ودليل على حسن الثقة بالله، وعظيم التوكل عليه.
وهي نوعان: صدقة واجبة، وصدقة مستحبة.
والصدقة الواجبة: تسمى زكاة، وأجرها أكبر من صدقة التطوع.
وصدقة التطوع: أفضل من قيام الليل وصيام النهار.
والأدلة على ذلك كثيرة، قد ذكرنا بعضها في وصايا سابقة، ونذكر هنا طرفاً آخر منها، فنبدأ بما جاء في كتاب الله عز وجل:
يقول الله عز وجل: { خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا وَصَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلَاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } (سورة التوبة: 103).
فالصدقة طهرة للقلب من الآفات التي تحزنه وتمرضه وتعكر صفو إيمانه وتنغص عليه حياته، وهي تزكي النفس من آفات البخل والحرص والطمع والشح وحب الذات وحب المال وحب الدنيا بوجه عام، وتزيل غفلته عن الآخرة، لأنه إذا تصدق ذكر أن صدقته هذه سوف يدخرها الله له في الآخرة، وينميها له حتى تصير التمرة التي تصدق بها مثل جبل أحد، فيفرح بذلك، وينتظر الموت، وهو راضي النفس، لعلمه أنه سيلقي جزاءه على ما قدمه لنفسه من خير، وبذلك فليفرح المؤمنون.
وقال جل وعلا: { آمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَأَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَأَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ } (سورة الحديد: 7).
وقال عز من قائل: { إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَالْمُصَّدِّقَاتِ وَأَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا يُضَاعَفُ لَهُمْ وَلَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ } (سورة الحديد: 18).
وقال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "سَبْعَةٌ يُظِلُّهُمْ اللَّهُ فِي ظِلِّهِ يَوْمَ لَا ظِلَّ إِلَّا ظِلُّهُ الْإِمَامُ الْعَادِلُ وَشَابٌّ نَشَأَ فِي طَاعة رَبِّهِ، وَرَجُلَانِ تَحَابَّا فِي اللَّهِ اجْتَمَعَا عَلَيْهِ وَتَفَرَّقَا عَلَيْهِ وَرَجُلٌ دعته امْرَأَةٌ ذَاتُ مَنْصِبٍ وَجَمَالٍ فَقَالَ: إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَّب العالمين وَرَجُلٌ تَصَدَّقَ صَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا؛ حَتَّى لَا تَعْلَمَ شِمَالُهُ مَا تُنْفِقُ يَمِينُهُ، وَرَجُلٌ قَلْبُهُ مُعَلَّقٌ فِي الْمَسَاجِدِ، وَرَجُلٌ ذَكَرَ اللَّهَ خَالِيًا فَفَاضَتْ عَيْنَاهُ
والشاهد في قوله: "تَصَدَّقَ صَدَقَةٍ فأَخْفَاهَا" لأن صدقة السر تطفيء غضب الله تعالى.
عن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "صَنَائِعِ الْمَعْرُوفِ تَقِي مَصَارِعِ السُّوءِ، وَصَدَقَةِ السِّرِّ تُطْفِئُ غَضَبَ الرَّبِّ، وَصِلَةِ الرَّحِمِ تُزِيدُ فِي الْعُمْرِ" يعني تبارك فيه.
ويتفاوت أجر الصدقة بحسب من صرفت له، فإذا صرفت لمن اشتد فقره كان أجرها أكبر، وكذلك إذا صرفت للرجل الصالح، فإنه قد يدعو له بدعوة يكون فيها الخير كله.
ومن أطعم أحباب الله أدخله الله في زمرتهم، وحشره معهم.
والصدقة على القريب أعظم أجراً من الصدقة على البعيد؛ لأن القريب أولى من غيره بالبر والصلة.
عن سلمان بن عامر عن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "الصَّدَقَةُ عَلَى الْمِسْكِينِ صَدَقَةٌ وَهِيَ عَلَى ذِي الرَّحِمِ ثِنْتَانِ صَدَقَةٌ وَصِلَةٌ".
والصلة هي البر والعطف والمودة والائتلاف.
وعن أبي أمامة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "إِنَّ الصَّدَقَةِ عَلَى ذِي الْقَرَابَةِ يضعف أجرها مرتين".
والصدقة على القريب القاطع لرحمه المضمر للعداوة في باطنه أعظم أجراً؛ لأنه قد أحسن لمن أساء إليه".
وقد قال علي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: أحسن لمن أساء إليك تكن أعبد الناس.
وروى الطبراني في الكبير عن حكيم بن حزام رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: عَنْ الصَّدَقَاتِ أَيُّهَا أَفْضَلُ قَالَ: "عَلَى ذِي الرَّحِمِ الْكَاشِحِ".
والكاشح: هو الذي يضمر العداوة، ويعرض بوجهه عن ذوي رحمه.
ومن كان له قريب في أمس الحاجة إلى صدقته وصرفها عنه إلى غيره لم يقبل الله منه هذه الصدقة؛ لأن قريبه أولى بمعروفه وله حق عليه.
وقد قال الله عز وجل: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } (سورة الإسراء:26).
وروى الطبراني في الكبير بسند رواته ثقات – كما قال المنذري في الترغيب – عن أبي هريرة رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "والذي بَعَثَنِي بِالْحَقِّ لا يعذب الله يوم القيامة من رحم يتيم، ولان له في الكلام، ورحم يتمه وضعفه، ولم يتطاول على جاره، بفضل ما آتاه الله.
وقال: يا أمة محمد، والذي بعثني بالحق لا يقبل الله صدقة من رجل، وله قرابة محتاجون إلى صلته. ويصرفها إلى غيرهم، والذي نفسي بيده لا ينظر الله إليه يوم القيامة".
وقد نهى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عن الإسراف والمخيلة بأسلوب حكيم، إذ جعلها شرطاً في حق الطعام والشراب والكساء، فقال: "كلوا واشربوا والبسوا وتصدقوا من غير إسراف ولا مخيلة".
فهذا الشرط قيد في تقرير الحكم، بمعنى أن الإسراف والمخيلة – وهي الكبر والرياء والغرور لا يباحان في شيء، وهما في المأكل والمشرب والملبس والتصدق أشد جرماً، فهما كبيرتان من الكبائر كما دل على ذلك ما جاء في الكتاب والسنة.
ويشتد الذنب كلما زاد الإسراف وتمادى المرء في كبره وغروره وإعجابه بنفسه.
وقد مرت بنا هذه الأدلة في وصايا سابقة، ويكفي أن الله قد قال في كتابه العزيز: { إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ } (سورة الأنعام: 141) أي لا ينظر إليهم ولا يرحمهم ولا يوفقهم للعمل الصالح، ولا يهديهم سبيلاً ولا يدخلهم الجنة؛ لأنه يبغضهم ولا يحبهم، والويل كل الويل لمن أبعضه الله.
ويكفيه ذماً قوله تعالى: { إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كَانُوا إِخْوَانَ الشَّيَاطِينِ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِرَبِّهِ كَفُورًا } (سورة الإسراء: 27).
والإسراف أخو الكفر؛ لأنه تجاوز لحدود الله واعتداء عليها { وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ } (سورة الطلاق: 1).
والخيلاء: مفسدة للدين، مذهبة للإيمان، لا يزداد العبد بها من الله إلا بعداً، ولا يزداد بها من الناس إلا بغضاً.
وقد جاء في الحديث الشريف: "لَا يَدْخُلُ الْجَنَّةَ مَنْ كَانَ فِي قَلْبِهِ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ مِنْ كِبْرٍ".
فمن أراد أن يقي نفسه شر الإسراف والخيلاء، فليلزم الوسطية في أكله وشربه وشأنه كله.
وليأخذ من الطعام والشراب بقدر ما تدعو إليه الحاجة. فقد قال النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ في الحديث الصحيح: "بحَسْبُ ابْنِ آدَمَ لُقَيْمَاتٌ يُقِمْنَ صُلْبَهُ، وَإِنْ كَانَ لَا بُدَّ فَاعلاً فَثُلُثٌ لِلطَّعَامِ، وَثُلُثٌ لِشَّرَابهُ وَثُلُثٌ لِنَّفَسهُ" وقد تقدم شرح هذا الحديث.
وإذا أراد أن يتصدق فليخف صدقته، حذراً من الرياء والغرور وحب الظهور، وإذا كان لبس الجميل من الثياب يثير الإعجاب في نفسه فليقتصر منها على ما تدعو الضرورة إليه.
وإن كان لابد يريد أن يتجمل بالثياب، فلا بأس من ذلك، بشرط أن يكون قادراً على كبح جماح نفسه من الخيلاء، فالله سبحانه وتعالى يحب أن يرى أثر نعمته على عبده.
وعليه أن يعود نفسه على التواضع حتى يألفه، ويصير ديدنه في جميع أحواله.
فقد روى الترمذي عن معاذ بن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: "مَنْ تَرَكَ اللِّبَاسَ تَوَاضُعًا لِلَّهِ، وَهُوَ يَقْدِرُ عَلَيْهِ، دَعَاهُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عَلَى رُءُوسِ الْخَلَائِقِ حَتَّى يُخَيِّرَهُ مِنْ أَيِّ حُلَلِ الْإِيمَانِ شَاءَ يَلْبَسُهَا".
فوازن أيها الأخ المسلم بين رغبات نفسك، ورغبات دينك، فنفسك تدعوك إلى التظاهر والترفع، ودينك يدعوك إلى الحياء والتواضع، وهو لا ينهاك عن التجمل بما تشاء من الثياب والزينة، إلا ما استثناه من ذلك – كالذهب والحرير للرجال -، فكن متيقظاً إلى ما يوسوس به الشيطان في التجمل وعدمه، بحيث لا يكون التجمل دافعاً لك على الرياء والخيلاء، ولا يكون تركه دافعاً لك على ترك ما أباحه الله لك من غير داع يقتضيه، بحجة الزهد والورع، فإن الزهد والورع في ترك ما حرم الله، لا في ترك ما أباحه لعباده، كما عرفت في قوله تعالى: { قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ } (سورة الأعراف: 32).
ونذكر هنا تتمة للفائدة حكم من يطيل إزاره إلى أسفل الكعبين. هل يكون بهذا عاصياً؟ أم الأمر لا يخرج عن كونه مكروهاً؟ وهل الكراهة في ذلك للتحريم أم للتنزيه؟.
فأقول: يستحب عند أكثر أهل العلم تقصير الثياب إلى منتصف الساقين، أو إلى الكعبين، بل عد بعضهم ذلك من السنن، مستدلين بما رواه الترمذي في الشمائل عن الأشعث بن سليم قال: سمعت عمتي تحدث عن عمها قال: بينما أنا أمشي إذا إنسان خلفي يقول: "ارْفَعْ إِزَارَكَ فَإِنَّهُ أَنْقَى وَأَبْقَى". فالتفت فإذا هو رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فقلت: يا رسول الله إنما هي بردة ملحاء، قال: "أما لك في أسوة؟"، فنظرت فإذا إزاره إلى نصف ساقيه.
وفي رواية لأحمد وابن سعد، والبيهقي قال: "ارْفَعْ إِزَارَكَ فَإِنَّهُ أَنْقَى لِثَوْبِكَ وَأَتْقَى لِرَبِّكَ. أَمَّا لَكَ في أسوة؟".
والبردة الملحاء: هي كساء مخطط فيه بياض وسواد، ومراده أنها بردة مبتذلة ليست للزينة، وجرها لا يؤدي إلى الخيلاء، ولكن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أمره أن يقتدي به في تقصير الثياب، وإن لم يؤد إسبالها إلى الخيلاء، سداً للذريعة.
واستدلوا أيضاً بما رواه أحمد، والطبراني في الأوسط عن أنس رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "الْإِزَارُ إِلَى نِصْفِ السَّاقِ أَوْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ لَا خَيْرَ فِي أَسْفَلَ مِنْ ذَلِكَ".
وبما رواه أبو داود والترمذي والنسائي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ لَمْ يَنْظُرْ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَقَالَتْ أُمُّ سَلَمَةَ فَكَيْفَ تَصْنَعْ النِّسَاءُ بِذُيُولِهِنَّ قَالَ يُرْخِينَ شِبْرًا فَقَالَتْ إِذًا تَنْكَشِفُ أَقْدَامُهُنَّ قَالَ فَيُرْخِينَ ذِرَاعًا لَا يَزِدْنَ عَلَيْهِ.
وروى أصحاب السنن إلا البخاري عن أبي ذر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "ثَلَاثَةٌ لَا يُكَلِّمُهُمْ اللَّهُ وَلَا يَنْظُرُ إِلَيْهِمِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَا يُزَكِّيهِمِ ، وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ قُلت مَن هُمْ يَا رَسُولَ الله قَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا؟ فأعادها النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ثَلَاثَاً، فَقُلت: مَن هُمْ يَا رَسُولَ الله قَدْ خَابُوا وَخَسِرُوا؟ فَقَالَ: الْمُسْبِلُ وَالْمَنَّانُ، وَالْمُنَفِّقُ سِلْعَتَهُ بِالْحَلِفِ الْكَاذِبِ أو الفاجر"
والمسبل: هو الذي يطيل ثيابه خيلاء.
والمنان: هو الذي يمن بالعطية على من أعطاه.
والمنفق سلعته: المروج لها بالحلف.
ففي هذه الأحاديث دعوة للرجال بتقصير الثياب إلى منتصف الساقين، أو إلى الكعبين، ودهوة النساء بتطويل الثياب إلى ما تحت الكعبين بشبر أو بشبرين.
والمراد بالذراع المرخص فيه للنساء الوارد في حديث ابن عمر، دراع اليد وهو شبران، لحديث ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ كما في سنن أبي داود – قال: "رخص رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لأمهات المؤمنين في الذيل شبراً، ثم استزدته فزادهن شبراً، فكن يرسلن إلينا فنذرع لهن ذرعاً".
وفي بعض هذه الأحاديث المتقدمة تحذير صريح للرجال من إسبال الثياب للخيلاء.
قال القسطلاني في المواهب اللدانية: (حاصل ما ذكر في الأحاديث: أن للرجل حالين – حال استحباب وهو أن يقتصر بالإزار على نصف الساق.
وحال جواز وهو أن ينزل به إلى الكعبين.
وكذا للنساء حالات: حال استحباب وهو أن تزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الستر.
وحال جواز وهو أن تزيد على ما هو جائز للرجال بقدر الذراع.
وأن الإسبال يكون في القميص والعمامة والإزار، وأنه لا يجوز إسباله تحت الكعبين إن كان للخيلاء، وإن كان لغيرها فهو مكروه للتنزيه). أ هـ.
وهذا كلام نفيس حاسم للنزاع القائم بين العلماء في هذه المسألة.
والذي يقطع بأن الإسبال لا يحرم إلا إذا قصد به الخيلاء، ما رواه أصحاب السنن إلا الترمذي عن ابن عمر رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا أن النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: لَا يَنْظُرُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِلَى مَنْ جَرَّ ثَوْبَهُ خُيَلَاءَ، فَقَال أبو بكر: يَا رَسُول الله إِزَارِي يَسْتَرْخِي إِلَّا أَنْ أَتَعَاهَدَ ذَلِكَ مِنْهُ فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَسْتَ مِمَّنْ يَفْعَلهُ خُيَلَاءَ
وبعد، فإن هذه الوصية تحذرنا من خطرين كبيرين، وجرمين عظمين، وهما: الإسراف، والمخيلة، وتدعونا إلى القصد والاعتدال، في المأكل والمشرب والملبس، وإلى التواضع لله في جميع أحوالنا.
فإن الخير كل الخير في الوسطية والخضوع لله – عز وجل -، وهما: صفتان عظيمتان من صفات عباد الرحمن، كما بيناه في وصية سابقة.
والله هو الموفق والهادي إلى سواء السبيل.