البحث
المسار الاجتماعي للتربية
تربية الفرد في إطار الجماعة:
إن وجود "جماعة" ضرورة مهمة لتحقيق هذا الدين، بل إن الإسلام لا يتصور قيامه إلا في جماعة.
ولأصالة هذا المعنى في بناء هذا الدين، كان التطبيق العملي له في دنيا الواقع في وقت مبكر، يوم اتخذ الرسول صلى الله عليه وسلم دار الأرقم مركزاً لدعوته.
وما ندري أيهما كان أولاً، اتخاذ دار الأرقم أم نزول سورة العصر (1)؟ ذلك أن سورة العصر تبين بوضوح أن دعوة الإسلام لا تكون إلا في جماعة. قال تعالى:
{وَٱلْعَصْرِ إِنَّ ٱلْإِنسَٰنَ لَفِى خُسْرٍ إِلَّا ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَعَمِلُوا ٱلصَّٰلِحَٰتِ وَتَوَاصَوْا بِٱلْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ } (2).
و"التواصي" بالحق والصبر لا يتصور إلا في جماعة يوصي بعضهم بعضاً. .
وقد أكد القرآن الكريم هذا المعنى في سورة البلد لدى حديثه عن أصحاب اليمين فقال:
{ثُمَّ كَانَ مِنَ ٱلَّذِينَ ءَامَنُوا وَتَوَاصَوْا بِٱلصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِٱلْمَرْحَمَةِ. .} (3).
جاء في الظلال في تفسير هذه الآية:
"والتواصي به [الصبر] يقرر درجة وراء درجة الصبر ذاته. درجة تماسك الجماعة المؤمنة، وتواصيها على معنى الصبر، وتعاونها على تكاليف الإيمان، فهي أعضاء متجاوبة الحس، تشعر
جميعاً شعوراً واحداً بمشقة الجهاد لتحقيق الإيمان في الأرض وحمل تكاليفه، فيوصي بعضها بعضاً بالصبر على العبء المشترك، ويثبت بعضها بعضاً فلا تتخاذل، ويقوي بعضها بعضاً لا تنهزم. . وهو إيحاء بواجب المؤمن في الجماعة المؤمنة".
و"التواصي" يعني فعالية زائدة على العمل ذاته، فهو يعني أن يحقق الفرد في ذاته المعنى المطلوب. ثم يحث غيره عليه ويتعاون الجميع. . فتبرز صورة مشرقة لجماعة متضامنة واعية خيرة.
إن هذه المشاركة التي تشير إليها السورتان، بل تقرر إنها حقيقة قائمة، لها دورها الفعال في رفع قوة الجماعة، ورفع قدرتها على التحمل والصبر، ورفع فاعليتها على العطاء في شتى مجالات الخير.
إنها صورة عجيبة يتحسسها الخيال وهو يقف عند لفظ "تواصوا" إن كل فرد في المجموعة يوصي غيره، وهو بدوره يوصى من غيره، وبهذا يظهر التماسك القوي الذي يريد القرآن أن تكون عليه جماعة المسلمين (1).
ثم جاءت سورة الشورى لتؤكد هذا المعنى بشكل جلي واضح أثناء حديثها عن الذين آمنوا فقال تعالى:
{وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ} (1).
نعم هكذا: {وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ} وذلك في مكة وقبل أن تقوم دولة، إن القرآن الكريم هنا يقرر طابع الجماعة المسلمة قبل قيام الدولة وبعد قيامها، فهو يريد أن تكون هذه الصفة من صفاتها الثابتة.
وبدهي أن الشورى لا تكون إلا في جماعة. .
واضح بعد هذا أن التربية في مكة، ومن وقت مبكر، أرست في نفوس المؤمنين مكانة الجماعة، وأن الفرد المؤمن جزء لا يتجزأ من هذه الجماعة. ولقد وعى المؤمنون هذا الأمر وعياً كاملاً برهنت عليه الوقائع والأحداث.
المراجع
- رقم نزول سورة العصر "13" ولم يسبقها إلا السور القصار.
- سورة العصر بكاملها.
- رقم نزول سورة البلد هو "35" ورقم الآية 17.
- توصل العلماء الاقتصاد إلى أن واحد + واحد لا تساوي اثنين [1+1# 2] بمعنى أن عملاً ما ينجزه عامل في ساعتين، فإنا لو جمعنا عليه عاملين معاً لأنجزاه في أقل من ساعة. . وهذا يعني أن روح الجماعة في عالم الاقتصاد تساوي قيمة مادية.وقد قرر الإسلام هذا في ميدان الروح وعالم القيم، مع الفارق الكبير عن المثل الذي ضربناه، يساوي الفارق بين الروح والمادة.
- الآية 38 ورقم السورة نزولاً هو69".