البحث
الوضع السياسي والعسكري (صلح الحديبية)
الفصل الأول : الوضع السياسي والعسكري
1 صلح الحديبية
كان قد مضى عام كامل على انتهاء غزوة الأحزاب حين أعلن رسول الله صلى الله عليه وسلم عزمه على أداء العمرة واستنفر الناس للمشاركة في ذلك.
والمستنفرون هم أهل المدينة المهاجرون والأنصار، وكذلك الأعراب الذين أسلموا حديثاً واستقروا حول المدينة. وهم من أعراب غفار ومزينة وجهينة وأشجع وأسلم والديل (1).
لم تكن المعطيات العامة - بغض النظر عن الالتزام الإيماني - تشجع على المشاركة في هذه العمرة، لأكثر من سبب:
- فالحرب ما زالت قائمة بينه صلى الله عليه وسلم وبين قريش، وقد هاجمته في المدينة مرتين خلال سنتين، في أُحُد والخندق، وذهابه صلى الله عليه وسلم للعمرة فيه تحدٍ كبير لقريش مما يتوقع معه بل يغلب على الظن وقوع القتال.
- كانت العرب كلها تهاب قريشاً، ولا تريد أن تدخل معها في معركة، بل إن وفد بني عبد بن عدي حين وفدوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم وأسلموا اشترطوا ألا يقاتلوا قريشاً. فكان من قولهم: يا محمد، نحن أهل الحرم وساكنه وأعز من به، ونحن لا نريد قتالك، ولو قاتلت غير قريش قاتلنا معك ولكنا لا نقاتل قريشاً، وإنا لنحبك ومن أنت منه. . فأسلموا (2).
وإذن فالمعركة لو حدثت ستكون مع قريش، وهذا أمر لا ترغب به كثير من القبائل.
- إن قوة الرسول صلى الله عليه وسلم ما زالت قليلة في نظر كثير من الناس ولذلك لو حدث قتال فالمتوقع حسب المعطيات المادية أن ينتصر صاحب القوة الأكبر. .
لهذا ولغيره لم يجد استنفار النبي صلى الله عليه وسلم من المنافقين الذين هم في المدينة (3) ولا من الأعراب الذين هم في أطراف المدينة أذناً صاغية، فقد كانوا يتوقعون ويظنون ظن السوء، وقد سجل القرآن أمر الفريقين في سورة الفتح:
فقال تعالى في حق المنافقين:
{وَيُعَذِّبَ ٱلْمُنَٰفِقِينَ وَٱلْمُنَٰفِقَٰتِ وَٱلْمُشْرِكِينَ وَٱلْمُشْرِكَٰتِ ٱلظَّآنِّينَ بِٱللَّهِ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ ۚ عَلَيْهِمْ دَآئِرَةُ ٱلسَّوْءِ ۖ وَغَضِبَ ٱللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلَعَنَهُمْ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ ۖ وَسَآءَتْ مَصِيرًا} (4).
وقال تعالى في حق الأعراب:
{سَيَقُولُ لَكَ ٱلْمُخَلَّفُونَ مِنَ ٱلْأَعْرَابِ شَغَلَتْنَآ أَمْوَٰلُنَا وَأَهْلُونَا فَٱسْتَغْفِرْ لَنَا ۚ يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِم مَّا لَيْسَ فِى قُلُوبِهِمْ ۚ قُلْ فَمَن يَمْلِكُ لَكُم مِّنَ ٱللَّهِ شَيْـًٔا إِنْ أَرَادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرَادَ بِكُمْ نَفْعًۢا ۚ بَلْ كَانَ ٱللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًۢا بَلْ ظَنَنتُمْ أَن لَّن يَنقَلِبَ ٱلرَّسُولُ وَٱلْمُؤْمِنُونَ إِلَىٰٓ أَهْلِيهِمْ أَبَدًا وَزُيِّنَ ذَٰلِكَ فِى قُلُوبِكُمْ وَظَنَنتُمْ ظَنَّ ٱلسَّوْءِ وَكُنتُمْ قَوْمًۢا بُورًا} (5).
وهكذا تذكر الآيات الكريمة ما كان يجول بخاطرهم وخاطر المنافقين من أن قريشاً سوف تحصد المسلمين حصداً، بحيث لن يرجع أحد إلى أهله
وانطلق صلى الله عليه وسلم مع هلال ذي القعدة للسنة السادسة من الهجرة مع ألف وأربعمائة (6) من المهاجرين والأنصار وبعض الأعراب، تجاه مكة لأداء العمرة.
عمرة أم غزوة؟:
عنوان بعض كتاب السيرة لهذا البحث بـ"غزوة الحديبية" منهم ابن حزم وابن كثير. , فهل كانت غزوة؟
الذي يبدو أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان على قناعة كاملة بأن قريشاً ما زالت الحاجز بينه وبين الناس، وأنه لا بد من أجراء ما، في سبيل كسر هذا الحاجز. ولعل اللقاء بين الفريقين أثناء أداء مناسك العمرة يكون فاتحة جديدة لعهد سلم بين الفريقين. . .
لقد اتخذ صلى الله عليه وسلم كل الإجراءات التي تؤكد سلامة نيته وأنه يريد العمرة ولا يريد قتالاً، ومن ذلك:
- إحرامه صلى الله عليه وسلم وأصحابه.
- سوق الهدي.
- خروجه في ذي القعدة وهو من الأشهر الحرم التي يضع الناس فيها السلاح. ولكن إذا كان صلى الله عليه وسلم إنما يريد العمرة ولا يريد القتال، فما الذي يضمن له أن قريشاً ستكون راغبة في السلم؟
إن احتمال حدوث القتال أمر قائم إذا لجأت قريش إلى ذلك، ولهذا نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد اتخذ بعض الاحتياطات لذلك.
- لم يكن جميع الصحابة محرمين، مما يدل أن مدلول استنفار النبي صلى الله عليه وسلم للناس كان أوسع من كونه للعمرة فحسب.
ففي حديث أبي قتادة المتفق عليه قوله:
(خَرَجْنَا مَعَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ حَتَّى إِذَا كُنَّا بِالْقَاحَةِ (7) فَمِنَّا الْمُحْرِمُ وَمِنَّا غَيْرُ الْمُحْرِمِ.. ) (8)
وهذا يعني أن غير المحرمين لم يقصدوا العمرة وإنما قصدوا مصاحبة رسول الله صلى الله عليه وسلم، لأنهم لو أرادوا العمرة لأحرموا من الميقات الذي تجاوزوه.
ويؤكد هذا: وقوف المغيرة بن شعبة، أثناء المفاوضات، خلف رسول الله صلى الله عليه وسلم بكامل عتاده الحربي والمغفر فوق رأسه وهذا يعني أنه غير محرم (9).
- وفي حديث مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وجه من أصحابه في مهمة منهم أبو قتادة فقال لهم: "خُذُوا سَاحِلَ الْبَحْرِ حَتَّى تَلْقَوْنِي" (10) ولعلها كانت مهمة استطلاعية. .
- تذكر بعض الروايات أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مائتا فارس (11).
- كما تذكر أنه قدم أمامه عيناً له من خزاعة (12).
فكل هذه الأمور تدل على أنه صلى الله عليه وسلم قد احتاط للأمر وهيأ نفسه للحالة التي قد يحدث فيها قتال على الرغم من الاقتصار في السلاح على السيوف.
ولا شك بأنه صلى الله عليه وسلم كان غير راغب بحدوث القتال، وما سعيه لتكثير الذين يخرجون معه إلا ليكون ذلك أدعى لقريش حتى لا تفكر في القتال، لأنها لو رأت المسلمين قلة فربما تبادر لذهنها أنها فرصة للنيل من رسول الله صلى الله عليه وسلم.
يؤيد ذلك أيضاً قوله صلى الله عليه وسلم - حين بركت ناقته -:
"حَبَسَهَا حَابِسُ الْفِيلِ ثُمَّ قَالَ وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا يَسْأَلُونِي خُطَّةً يُعَظِّمُونَ فِيهَا حُرُمَاتِ اللَّهِ إِلَّا أَعْطَيْتُهُمْ إِيَّاهَا" (13).
نخلص من هذا كله إلى أنها عمرة، ولكن الاحتياطات اتحذت لتحويلها إلى غزوة عند الضرورة.
المراجع
- انظر تفسير سورة الفتح في تفسير العلامة أبي السعود.
- طبقات ابن سعد 1/ 306.
- إلا الجد بن قيس، فإنه خرج - فيما يبدو - لحاجة خاصة به، ولذلك لم يشترك في البيعة.
- سورة الفتح: الآية 6.
- سورة الفتح: الآيتان 11- 12 قال في صفوة التفاسيرنقلاً عن التسهيل لعلوم القرآن: وقد رأى الأعراب أنه يستقبل عدداً من قريش وغيرهم فقعدوا عن الخروج، ولم يكن إيمانهم متمكناً.
- وهذا مما يؤكد أن المسلمين كانوا في غزوة الخندق ألف مقاتل فقط.
- هو واد على ثلاث مراحل من المدينة.
- رواه البخاري برقم 1823 ومسلم برقم 1196.
- رواه البخاري برقم 2731 وهو عند ابن هشام 2/ 313.
- رواه مسلم كتاب الحج رقم 60.
- انظر شرح الزرقاني على المواهب 2/ 181.
- المصدر السابق 2/ 181.
- رواه البخاري برقم 2731.