البحث
عفة المهاجرين وعملهم
عفة المهاجرين وعملهم:
نستطيع القول بأن كرم الأنصار وسخاءهم الكبير، قابله عفة وكرم ونفس من المهاجرين قلما نجد له نظير له نظيراً، فهم لم يتركوا أموالهم في مكة على أمل تعويضها من أموال إخوانهم الأنصار، وإنما تركوها في سبيل عقيدتهم، وإذا ألجأتهم الحاجة في هذه الفترة فقد كانوا يقتصرون على ما يقيم أودهم. .
روى البخاري عَنْ أَنَسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: (قَدِمَ عَبْدُ الرَّحْمَنِ بْنُ عَوْفٍ الْمَدِينَةَ فَآخَى النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ سَعْدِ بْنِ الرَّبِيعِ الْأَنْصَارِيِّ وَكَانَ سَعْدٌ ذَا غِنًى فَقَالَ لِعَبْدِ الرَّحْمَنِ أُقَاسِمُكَ مَالِي نِصْفَيْنِ وَأُزَوِّجُكَ قَالَ بَارَكَ اللَّهُ لَكَ فِي أَهْلِكَ وَمَالِكَ دُلُّونِي عَلَى السُّوقِ فَمَا رَجَعَ حَتَّى اسْتَفْضَلَ أَقِطًا وَسَمْنًا فَأَتَى بِهِ أَهْلَ مَنْزِلِهِ. .) (1).
ونقول إن مسلك عبدالرحمن هذا ليس خاصاً به، بل إن الكثير من المهاجرين كان مكوثهم يسيراً في بيوت إخوانهم من الأنصار ثم باشروا العمل والكسب واشتروا بيوتاً لأنفسهم وتكفلوا بنفقة أنفسهم. .
ومن هؤلاء أبو بكر الصديق رضي الله عنه، الذي أخرج ماله معه عندما هاجر، قالت سْمَاءَ بِنْتِ أَبِي بَكْرٍ قَالَتْ لَمَّا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَخَرَجَ مَعَهُ أَبُو بَكْرٍ احْتَمَلَ أَبُو بَكْرٍ مَالَهُ كُلَّهُ مَعَهُ خَمْسَةَ آلَافِ دِرْهَمٍ أَوْ سِتَّةَ آلَافِ دِرْهَمٍ قَالَتْ وَانْطَلَقَ بِهَا مَعَهُ قَالَتْ فَدَخَلَ عَلَيْنَا جَدِّي أَبُو قُحَافَةَ وَقَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ فَقَالَ وَاللَّهِ إِنِّي لَأَرَاهُ قَدْ فَجَعَكُمْ بِمَالِهِ مَعَ نَفْسِهِ قَالَتْ قُلْتُ كَلَّا يَا أَبَتِ إِنَّهُ قَدْ تَرَكَ لَنَا خَيْرًا كَثِيرًا قَالَتْ فَأَخَذْتُ أَحْجَارًا فَتَرَكْتُهَا فَوَضَعْتُهَا فِي كُوَّةِ الْبَيْتِ كَانَ أَبِي يَضَعُ فِيهَا مَالَهُ ثُمَّ وَضَعْتُ عَلَيْهَا ثَوْبًا ثُمَّ أَخَذْتُ
بِيَدِهِ فَقُلْتُ يَا أَبَتِ ضَعْ يَدَكَ عَلَى هَذَا الْمَالِ قَالَتْ فَوَضَعَ يَدَهُ عَلَيْهِ فَقَالَ لَا بَأْسَ إِنْ كَانَ قَدْ تَرَكَ لَكُمْ هَذَا فَقَدْ أَحْسَنَ وَفِي هَذَا لَكُمْ بَلَاغٌ قَالَتْ لَا وَاللَّهِ مَا تَرَكَ لَنَا شَيْئًا وَلَكِنِّي قَدْ أَرَدْتُ أَنْ أُسْكِنَ الشَّيْخَ بِذَلِكَ (1).
والمعروف أن أبا بكر كان تاجراً، ولا شك بأنه زاول تجارته منذ وصوله إلى المدينة.
وخرج عمر بن الخطاب بأمواله أيضاً، ففي قصة هجرته مع عياش بن أبي ربيعة. . أنه قال لعياش - وقد جاء أبو جهل يقنعه بالعودة إلى مكة رحمه بأمه - والله إنك لتعلم أني لمن أكثر قريش مالاً، فلك نصف مالي ولا تذهب. .(2).
وهذا يعني أن عمر قد خرج بماله، وإلا فكيف يعد عياشاً بنصف ماله إن لم يكن قد خرج به؟ ومن المعلوم أن عمر كان تاجراً وأنه مارس تجارته بعد وصوله إلى المدينة.
وكذلك حمل عثمان جميع أمواله معه. . (3).
وكذلك نقدر أن عثمان بن مظعون قد خرج بماله، فقد أخرج ابن سعد الخبر التالي: دخلت امرأة عثمان بن مظعون على نساء النبي صلى الله عليه وسلم فرأين هيئتها مالك؟ فما في قريش أغنى من بعلك، فقالت: أما ليله فقائم. .(4) وهذا يعني أنه قد خرج بأمواله، ذلك أن الفترة التي عاشها في المدينة لا تتيح له هذا الغنى، فقد توفي رضي الله عنه في شعبان سنة ثلاث من الهجرة.
ولا شك أن غيرهم أيضاً استطاع أن يحمل ماله أو بعض ماله، وهكذا فإن بعض المهاجرين استطاع أن يتكفل بنفقات نفسه وعياله دون أن يكلف الأنصار شيئاً. بل إنه ساهم في نفقات بعض إخوانه من المهاجرين كما سوف نرى.
المراجع
- رواه البخاري برقم 2049.
- سيرة ابن هشام 1/ 488.
- سيرة ابن هشام 1/ 475.
- ذكر ذلك محمد رضا في كتابه (محمد رسول الله) ص 156 بالنسبة لعثمان.
- فتح الباري 12/ 411.