البحث
مؤتمر الإفتراء!
الوليد بن المغيرة
رجلاً، كبيراً، عادلاً، حكيما، ثرياً، سيداً من سادات قريش.
كان يقال له العدل لأنه كان يكسو الكعبة سنة وتكسوها قريش سنة أخرى . (1)
عندما نزلت دعوة الإسلام كان من أشد المعادين لها، والمحاربين لانتشارها.
وفي يوم جاء إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم-، فقرأ عليه القرآن، ولأنه كان رجلاً عليماً من أول ثانية سمعه علم حقيقته.
وعندما بلغ ذلك أبا جهل خاف من إسلامة وذهب إليه فوراً وقال له: يا عم، إن قومك يرون أن يجمعوا لك مالا.
قال: لم؟
قال: ليعطوكه، فإنك أتيت محمدا
قال: قد علمت قريش أني من أكثرها مالا
قال: فقل فيه قولا يبلغ قومك أنك منكر له، أو أنك كاره له
قال: وماذا أقول؟
فوالله ما فيكم رجل أعلم بالأشعار مني، ولا أعلم برجزه، ولا بقصيده مني، ولا بأشعار الجن.
والله ما يشبه الذي يقول شيئا من هذا، ووالله إن لقوله الذي يقول حلاوة، وإن عليه لطلاوة (أي: رونقاً وحسناً) وإنه لمثمر أعلاه، مغدق أسفله، (أي أن القرآن نديّ وطري على القلب) وإنه ليعلو وما يعلى عليه، وإنه ليحطم ما تحته.
هكذا وصف الأعرابي القرآن وصفاً بليغاً لمّا سمع بعضا من كلام الله!
وهنا خوّفه أبو جهل فقال:
لا يرضى عنك قومك حتى تقول فيه.
وتطعن به وإلا تكن من المنبوذين ويسلب منك السيادة والرئاسة!
قال: فدعني حتى أفكر.
فلما فكر غلبه جحوده وكبريائة فقال: هذا سحر يؤثر. (2)
فأنزل الله تعالى في الوليد بن المغيرة:
فنزل قول الله عز وجل: "ذَرْنِي وَمَنْ خَلَقْتُ وَحِيدًا * وَجَعَلْتُ لَهُ مَالًا مَمْدُودًا * وَبَنِينَ شُهُودًا * وَمَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيدًا * ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ * كَلَّا إِنَّهُ كَانَ لِآيَاتِنَا عَنِيدًا * سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا"
صراع نفسي داخلي عنيف عند الوليد بين علمه بالحق وبين إنكاره له، وهكذا نفسية الكافر المضطربة:
"سَأُرْهِقُهُ صَعُودًا * إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ"
ثم ماذا كانت النتيجة بعد كل هذا التفكير الشديد الطويل؟
"ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ"
فما هو العقاب؟
"سَأُصْلِيهِ سَقَرَ"
اجتماع الكفار مخافة انتشار الإسلام! ( مؤتمر المفتريين )
أقامت قريش مؤتمراً ضخماً تحت عنوان، لنفتريَ على محمد
انضمت إليه جميع الفصائل المكية بزعمائها، وزعّموا عليهم الوليد بن المغيرة.
والسبب في إقامته:
المصيبة الكبرى التي ستحط على رؤوسهم الفترة القادمة عندما يأتي الناس إلى الحج ويسمعوا من محمد دعوته، ويعلمون صدق رسالته، ويسلموا لله.
وبالتالي يتحررون من عبوديتهم لهم ومن أوثانهم، وهم لا يريدون ذلك.
استفتح الوليد المؤتمر وقال: يا معشر قريش! إنه قد حضر موسم الحج، وإن وفود العرب ستأتي من كل مكان، وقد سمعوا بأمر صاحبكم هذا -يقصد محمد-، فأجمعوا فيه رأياً واحداً، ولا تختلفوا فيكذب بعضكم بعضاً، ويرد قولكم قول بعض.
وهذا دليل منهم على صدق محمد فلو كان معروفاً بصفة سيئة لاجتمعوا جميعاً عليها!
فلذلك أراد الوليد أن تكون افتراءاتهم جميعاً موَحّدَه .
قالوا: فأنت يا أبا عبد شمس قل وأقم لنا رأياً نقول به
أي أخبرنا كذبة تراها مناسبة وسنرددها.
فأراد الوليد أن يخرج كل ما في أنفسهم، فقال لهم الوليد: بل أنتم قولوا أسمع.
فبدأوا يفكرون في كذبة تلو الكذبة.
فقالوا: هو كاهن
فرد عليهم الوليد و قال: ما هو بكاهن، لقد رأيت الكهان فما هو بزمزمة (أي: ترنيمة) الكاهن.
فلن يقتنع الناس إذا قلتم بأنه كاهن وسيعلمون أننا نكذب.
فقالوا: هو مجنون
فقال: ما هو بمجنون، لقد رأينا الجنون وعرفناه، فما هو بخنقه ولا تخالجه ولا وسوسته.
فلم نرى منه جنوناً قط في حياته ولا في تصرفاته.
فقالوا: هو شاعر
فقال: ما هو بشاعر، قد عرفنا الشعر برجزه وقريضه ومقبوضه ومبسوطه، فما هو بالشعر.
لقد عرفنا كل أنواع الشعر، وهذا بالتحقيق ليس شعراً.
قالوا: هو ساحر
قال: ما هو بساحر، لقد رأينا السحار وسحرهم، فما هو بنفثه ولا عقده.
يأس زعماء قريش
وقالوا: فما تقول يا أبا عبد شمس؟
فقال الوليد كلمته:
والله إن لقوله لحلاوة، وإن أصله لعذق -العذق هي النخلة-، وإن فرعه لجناه -ما يجنى من الثمر، وما أنتم بقائلين أي من هذه الإتهامات عنه إلا عرفت أنها باطلة.
تفاجأ زعماء قريش وكل من بالمجلس بقول الوليد بن مغيرة
فقالوا: يا وليد ماذا تقول؟
لم يزال تأثير القرآن الكريم واقعاً في قلب الوليد.
حتى قال من في المجلس: يا وليد قل فيه قولا غيره.
يعني أي شيء، ولو كان كذباَ.
غادر الوليد وتكبّر على الحقيقة التي يعلمها يقيناً، فأخذ يفكر بكذبة، ويقدّر وينظر ويبصر ويعبس.
ثم عاد لهم وقال: وإن أقرب القول، أن نقول هو سحر.
ولكن حتى لا يضحك علينا الناس سنقول أنه ساحر غير تقليدي، ليس كالناس المعروفين بالسحر عن طريق النفث والعقد، ولكنه يُسحر بِسِحرٍ يُفرّق به بين المرء وأبيه، وبين المرء وأخيه، وبين المرء وزوجه، وبين المرء وعشيرته. (3)
هو يعلم أن هذا القول ليس بصحيح، وأنه حتى الطفل الصغير لن يصدقه ولكن ليس لهم حل غيره!
بدأت وفود الحجيج تصل إلى مكة
وبدأ محمد وأبو بكر يسيرون إلى خيام الحجاج
يستأذنون خيمة خيمة ثم يدخل على أصحابها ويخبرهم بالإسلام.
ويقول: يا أيها الناس، قولوا لا إله إلا الله تفلحوا.
ومن خلف محمد وأبو بكر، أبو لهب كان يسير وراء محمد في دعوته
ويقول للناس: ما عليكم منه إنه ابن أخي وإنه لمجنون، لا عليكم بكلامه لا تتركوا آلهتكم.
رغم ذلك كان محمد صلباَ لا يلتفت لكلام عمه، وأكمل دعوته. (4)
لقد جئتكم بالذبح!
في يومٍ ما، كان المشركون جالسون عند الكعبة
يتكلمون في محمد، فلم يكن يشغلهم ويكيدهم شئ في تلك الفترة سوى محمد.
قال واحد منهم: ما رأينا مثل صبرنا على محمد، سب ديننا، وشتم آلهتنا، وسفّه أحلامنا، وصبرنا عليه.
ومن لا يسفه أحلام قوم في الصباح يسجدون إلى صنم وفي المساء يأكلونه؟
وبينما هم يتكلمون في محمد، إذ به يظهر، وتوجه إلى حجر الكعبة، ثم بدأ بالطواف.
لم يبالي بأصنامهم ولا بهم، فكان يعتز بدينه وإسلامه ولا يكترث لما يقوله عنه الناس.
فلما طاف الشوط الأول ومرّ عليهم غمزوه وسبّوه وتكلموا عليه، فلم يرد عليهم ولم يبال بهم.
ولما جاء الشوط الثاني ومر عليهم، غمزوه وسبّوه وتكلموا عليه، فلم يرد عليهم مرة أخرى.
ولما جاء الشوط الثالث، وازدادوا في غمزه وسبّه والسخرية من دينه وطوافه.
توقف عن الطواف فجأة، وتوجه نحوهم، فلما اقترب منهم تحولت وجوههم المُتَلَمِّزة إلى وجوه خائفة مرتعبة من هيبته فلم يتكلموا بحرف واحد حتى قال لهم:
أتسمعون يا معشرَ قريشٍ ! أما والَّذي نفسُ محمَّدٍ بيدِه ؛ لقد جئتُكم بالذَّبحِ .
الذبح لكم ولكل من رأى الحق بعينيه، وتيقن به بقلبه، ولم ينطق به لسانه، و حارب به أتباعه.
عندما قال محمد ذلك، ارتعبوا! وخافوا خوفاً شديداَ.
لدرجة أن من رآئهم ظن وكأنه قد نزلت عليهم صاعقة من السماء، فقد تجمدوا في أماكنهم خوفاً وفزعاً من رسول الله.
حتى قال واحد منهم: انصرف أبا القاسم راشداً، فوالله ما كنتَ جهولاً.
تلطفوا معه و كنّوه بكنيته بعدما كانوا يستهزئون به. (5)
عندما يأسوا من إبعاده عن دعوته قرروا الإستجابة لمطالبه ولكن بشرط واحد فقط..
فما هو هذا الشرط يا ترى؟ وماذا كان رد النبي عليهم؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من برنامج طريق النور
المراجع
- كتاب أنساب الأشراف - ت حميد الله - البلاذري - صفحة 133
- كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 230
- كتاب سيرة ابن هشام ت السقا - عبد الملك بن هشام - الجزء الأول - صفحة 270
- كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 232 و 233
- كتاب سيرة ابن هشام ت السقا - عبد الملك بن هشام - الجزء الأول - صفحة 289 و 290