البحث
ولىَّ عهد النوم يا خديجة!
خديجة التي كانت من أفضل نساء عصرها، لم تنسَ المشهد الذي نقله لها غلامها ميسرة باعتراف الراهب بنبوة محمد ﷺ منذ خمسة عشر عامًا!
فاحتضنته وهدأته ثم قالت له:
«أبشر يا بن عم واثبت فوالذي نفس خديجة بيده، إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة، والله لا يخزيك الله أبدًا»
و كان هناك مجموعة من العرب القلائل الذين لم تركن قلوبهم، ولم تُسلّم عقولهم للسجود لصنم مخلوق مثلهم، وبقوا على التوحيد الذي تنادي به فطرتهم!
وكان على رأسهم ابن عم خديجة "ورقة بن نوفل" وكان رجلًا صالحًا ورِعًا.
وكان يعلم أن نبيًّا سيظهر في هذا الزمان وكان ينتظره، وقد كان في ذلك الوقت شيخًا كبيرًا قد عُمي بصره.
فذهبت إليه السيدة خديجة ومعها سيدنا محمد -صلى الله عليه وسلم- ثم قالت له:
"يا بن عم اسمع من ابن أخيك."
فقال له ورقة:
"يا بن أخي ماذا ترى؟"
فأخبره رسول الله ﷺ بكل ما حدث، وورقة يستمع بكل تركيز.
فما أن انتهى من سماع حديثه؛ حتى تحرك الحزن الذي كان يملأ قلبه على حال جزيرة العرب بل على حال العالم كله في ذلك الزمان، بسبب سواد الشرك، ووضع بدلًا منه الاستبشار بنبي الإسلام!
ثم قال لها وقلبه ينطق من السعادة:
" هذا الناموس الذي ينزل على محمد، يا ليتني فيها جذعًا"
أي: ليتني لم أكن عجوزًا بل شابًا قويًّا
"ليتني أكون حيًّا إذا يُخرجك قومك"
فتعجب النبي ﷺ وقال له:
أو مخرجي هم؟!
وهم يعلمون مدى صدقي وأمانتي طوال الأربعين عامًا التي عشتها بينهم!
فقال له ورقة:
- " نعم، لم يأتِ رجل بمثل ما جئت به إلا عودي، وإن يدركني يومك أنصرك نصرًا مؤزرًا "
أي: إن بُعثت وأنا على قيد الحياة سأكون أول من ينصرك.
ورقة كان عالمًا بكتب اليهود والنصارى، وكان يعلم أن جميع الأنبياء السابقين وأصحاب الرسالات الذين أرسلهم الله؛ ليرشدوا الناس إلى التوحيد، قد عاداهم قومهم، وآذوهم، واضطهدوهم، ولربما قتلوهم. (1)
اللقاء المنتظر .. والمخلوق العجيب!
ذهب محمد ﷺ إلى الغار ليكمل ما كان يفعله فيه من التعبد والتنسك لله.
وكان قلبه ينتظر بشوق لقاء جبريل -عليه السلام- مرة أخرى، وذلك بعدما تحول خوفه منه، إلى شوق إليه وبما يحمله من آيات معجزات.
ولكن كانت حكمة الله أن يتأخر نزول الوحي قليلًا عن محمد ﷺ.
وقد اختلف المؤرخون في الفترة التي فتر فيها الوحي، لكن أغلب الظن أنها كانت ما بين ثلاثة أيام إلى أربعين يومًا. (2)
وسواء كانت ثلاثة أيام أو أربعين يومًا فقد كانت الأثقل على قلب محمد ﷺ.
وفي يوم من الأيام وهو يمشي في طريق من الطرقات والحزن يملأ قلبه، إذ به يسمع صوتًا غريبًا، فنظر إلى يمينه فلم يرَ شيئًا، فنظر إلى يساره فلم يرَ شيئًا، فنظر إلى أمامه وخلفه فلم يرَ شيئًا أيضًا!
ثم سمع صوتًا يناديه نداءً من السماء: "يا مُحمد"
فرفع محمد رأسه إلى السماء ورأى مشهداً من أعجب المشاهد التي قد يراها أي إنسان، رأى ذلك الرجل الذي دخل عليه في الغار، ولكن بهيئة أخرى!
فيقول محمد ﷺ عن المشهد:
"رأيت جبريل -عليه السلام- جالسًا على عرشٍ في الهواء، يملأُ ما بين المشرق والمغرب، له ستمائة جناح"
تخيّلوا هذا المشهد، وهو ينادي "يا محمد أنت رسول الله، وأنا جبريل"
واختفى جبريل -عليه السلام- بعد أن ظهر على صورته الحقيقية.
هذا الموقف جعل محمد ﷺ يثبت في مكانه لا يتحرّك مشدوهًا مما رآه.
في نفس هذا الوقت تحرَّك قلب خديجة -رضي الله- عنها وشعرت أن محمدًا قد حدث له شئٌ، فأرسلت غُلمانها للاطمئنان عليه في الغار فلمَّا ذهبوا إليه لم يجدوه فيه، فلما عادوا إليها بدون زوجها، خرجت بنفسها للبحث عنه وأرسلت غلمانها إلى الجهات الأربع للوصول إليه.
كل هذا و محمد ﷺ في مكانه بين جبال مكة وحيدًا، خائفًا من شدة هول المنظر الذي رآه، حتى أفاق وبدأ بالجري نحو بيت خديجة وهو خائف يرتجف.
وعندما رأته خديجة رضي الله عنها على هذا الحال خافت عليه وأدخلته البيت وهو يقول: "دثّروني، دثّروني".(3)
أي غطّوني ودفّوني
فنزلت عليه الآية:
{يَٰٓأَيُّهَا ٱلۡمُدَّثِّرُ * قُمۡ فَأَنذِرۡ * وَرَبَّكَ فَكَبِّرۡ * وَثِيَابَكَ فَطَهِّرۡ * وَٱلرُّجۡزَ فَٱهۡجُرۡ}
[المدثر1-5]
ناداه ربه بنداء لتبدأ معه رحلة الدعوة إلى الإسلام
فأمره بأن ينذر قومه عاقِبة عبادة الأحجار، دون توحيد الواحد القهار.
وبأن يطهر ثيابه من أي نجاسات، لأنه أصبح يتلقى أعظم رسالة قد أنزلها الله من السماء.
وأن يستمر على هجران الأوثان والأصنام، والبعد عنها وعدم الالتفات إليها بأي بحال من الأحوال.
فنزلت كلمات الله على قلبه هدأت نفسه، وأراحت قلبه، وأشعلت عزمه!
ولىَّ عهد النوم يا خديجة!
تمت الإجابة على كل التساؤلات وفهم محمد تفسيرات كل الأشياء الغريبة التي مر بها في حياته، من شق الصدر، وسلام الحجر، والرؤيا الصادقة، والرجل الذي جاءه في غار حراء، وبدأ رحلته الطويلة في الدعوة إلى الله -عز وجل-.
فقام محمد ﷺ بعد هذه الآيات ولم يقعد إلى أن مات، قام وما ترك صغيرًا ولا كبيرًا، ولا سيدًا ولا عبدًا، ولا فردًا ولا قبيلة، إلا ودعاهم إلى الإسلام.
فكانت خديجة تطلب منه أحيانًا أن يستريح ولو قليلًا، فيقول: (مضى وقت النوم يا خديجة)!
الآن على محمد ﷺ أن يبدأ العمل والدعوة، فقد مر على مكة أكثر من 600 سنة دون نبي، كيف سيكون تقبّلهم لنبيّ جديد من أنفسهم؟
بالتأكيد رسالة الإسلام مُقنعة، ولكنها فكرة غريبة على مكة، لذلك كان على محمد ﷺ أن يختار الذين يعلم منهم ميلهم للتوحيد، وبعدهم عن الرجس من المقربين ممن حوله.
فبدأ محمد ﷺ بأكثر الناس حبًّا له، وبأكثر الناس احتمالًا وقبولًا لفكرته دون تردد؛ ليكونوا قاعدة قوية للدعوة نفسها، و يساعدوه في أمر الدعوة، فبدأ بحبيبته خديجة التي استقبلت الخبر بملء فؤادها حتى أصبحت أول آمن على وجه الأرض بعده.
ثم ذهب محمد ﷺ إلى أحب الرجال إلى قلبه، ذهب إلى "أبو بكر" صديقه الصدِّيق، فآمن به دون أن يرف له جفن ودون أي تردد، وفي ذلك
يقول محمد ﷺ:
"ما دعوت أحدًا إلى الإسلام إلا كانت له عنه كبوة تردد ونظر، إلا أبا بكر، ما عتم عنه حين ذكرته له، وما تردد فيه".
ودعى ابن عمه الصغير علي بن ابي طالب الذي تربى في حجره وكان شابًا عاقلًا حكيمًا فكان أول من آمن به من الصبيان.
ثم مولاه زيد بن حارثة الذي كان بينهما حب كبير لدرجة أن زيدًا فضّل أن يكون مولى عند سيدنا محمد ﷺ على أن يعيش حرًّا مع أبيه وعمه، فكان زيد يحب النبي ﷺ وكأنه والده، وكان معروفًا بين الناس بـزيد بن محمد، فآمن زيد كذلك.
فكان الأربعة الأوائل المنضمون للإٍسلام منهم الرجال والنساء، و فيهم السادة والعبيد، ومنهم الكبار والصغار. (4)
بدأت مرحلة جديدة من حياة محمد ﷺ المليئة بالتحديات والصعوبات، ولكن كان الخير موجودًا في قلوب كثير من الناس.
فمن هم الذين أشرقت قلوبُهم بنور الإسلام؟ وكيف بدأ التخطيط للمرحلة القادمة؟ وماذا فعل الصديق الصدوق للإسلام؟
وكيف سيتم إنارة عالم مظلم مليء بالأوثان؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة من برنامج طريق النور
المراجع
- كتاب صحيح السيرة النبوية للعلي - إبراهيم العلي - صفحة 50 https://shamela.ws/book/13606/...
- كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 178 https://shamela.ws/book/38114/...
- كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 179 https://shamela.ws/book/38114/...
- كتاب صحيح السيرة النبوية للألباني - ناصر الدين الألباني - صفحة 119 https://shamela.ws/book/592/13...