البحث
إسلام الفاروق!
رجلاً كان قلبه جمرة مشتعلة بلا انطفاء، وعقله عاصفة منفعلة بلا انتهاء. لكن حين مس قلبة دعوة سيد الأنبياء، انطفأت الجمرة وسكنت العاصفة، ليولد من جديد بنور الإيمان، ليتحول قلب كان قاسيًا كالصخر إلى رقيقًا كالماء، حريصًا على الحق، مدافعًا عن الإسلام بصدق.
كيف يتحول الجبار إلى رجلٍ رحيم، والطاغية إلى رمزٍ للعظمة؟ إنها قصة التغيير التي لا يمكن نسيانها
يسلم الحمار ولا يسلم عمر!
عمر كان من أشد الناس كرهاً وعداوة للدين، لدرجة أنه كان يعذب جارية له أسلمت من أول النهار إلى آخره، ويقول: والله ما تركتها إلا ملالة.
يعني: لا تظني أني أشفقت عليك، بل كل ما في الأمر أني مللت من كثرة ضربك!
وعندما كان المسلمون يجهزون أنفسهم لهجرة الحبشة الأولى.
رأى عمر امرأة من المسلمين، تجهز نفسها للهجرة، فسألها: يا أم عبد الله، إلى أين؟
فقالت: والله لنخرجن في أرض الله الواسعة، لقد آذيتمونا وقهرتمونا حتى يجعل الله لنا مخرجاً.
لم يغضب عمر هذه المرة ويهم بضربها، بل قال لها: صحبكم الله.
هي غير معتادة منه على هذه الرقة، فلما التقت بزوجها عامر بن ربيعة قالت له ما قال عمر وما رأت عليه من رقة وحزن.
فقال لها: أطمعت في إسلامه؟
قالت: نعم
قال: فلا يسلم الذي رأيت -يعني: عمر بن الخطاب - حتى يسلم حمار الخطاب. (1)
يرى عامر أن فرصة إسلام حمار عمر أكبر من فرصة إسلام عمر ذات نفسه من شده ما رأوا منه من حقد وكره وتعذيب للمسلمين .
جلسة مع الشيطان!
في ليلة جلس عمر مع نفسه ليوسوس له الشيطان قائلا:
ألا ترى ما حدث لخالك أبو جهل منذ ثلاث أيام، عندما فتح حمزة رأسه وأهانة أمام الناس؟
ألا ترى كيف يصبو الناس ويخرجون من عباده الات والعزى وإساف؟
ألا تريد ان تنهي على هذه الفكرة وتنقذ منها الأجيال؟
فخرج بفكرة شيطانية
ألا وهي قتل محمد عليه السلام
جاء الصباح، وانطلق عمر ليُنقذ مكة -كما يظن- بقتل محمد صلى الله عليه وسلم، فأمسك سيفه الحاد وتوّجه إلى بيته يريد أن يقتله.
وفي الطريق، رآه نعيم بن عبدلله و كان قد اخفى إسلامه، فسأل عمر: أين تريد، يا ابن الخطاب.
فأجابه عمر وكان واضحاً أنه في قمة الغضب: أريد محمداً، هذا الصابئ الذي فرق أمر قريش، وسفه أحلامها، وعاب دينها، وسفه آلهتها فأقتله!
فقال: والله لقد غرتك نفسك يا عمر أترى بني عبد مناف تاركيك تمشي على الأرض وقد قتلت محمداً؟
يخوفه من بني عبد مناف، ومن انتقامهم منه وقتلهم له.
ولكن لم يصده ذلك.
وهنا اضطر نعيم حتى يوقفه إلى كشف سر إسلام أخته وزوجها.
فأكمل نعيم وقال له: أفلا ترجع إلى أهل بيتك فتقيم أمرهم.
يعني: اذهب إلى أهل بيتك أولاً وابدأ بهم ثم التفت إلى محمد.
فصرخ عمر في فزع: أي أهل بيتي؟
أي مالِ أهل بيتي؟
غيّر عمر بن الخطاب وجهته تماماَ وذهب مسرعاً إلى بيت أخته فاطمة بنت الخطاب وزوجها سعيد بن زيد والدماء تغلي في جسمه.
وذهب نعيم مسرعاً إلى البيت الذي في الصفا الذي كان النبي ورفاقه وحمزة فيه يتدارسون القرآن ليُحذر النبي.
في هذا الوقت كان خباب بن الأرت رضي الله عنه وأرضاه يجلس مع سعيد بن زيد وزوجته في بيتهما يعلمهما القرآن.
وصل عمر إلى بيت أخته ووضع أذنه على الباب فسمع صوت خباب بن الأرت وهو يُقرؤهم القرآن.
فشعروا أن عمر عند الباب، فدخل خباب مسرعاً فاختبأ في غرفة داخلية، وخبّأت فاطمة الصحيفة التي كُتبت فيها سورة من سور القرآن.
بدأ عمر يضرب الباب بكل قوته لكسره، وهو ينادي بعنف: افتحوا الباب افتحوا الباب.
قام سعيد رضي الله عنه وفتح الباب، فدخل عمر إلى البيت وهو يحترق من الغضب، لم يجد عمر شيئاً لا القرآن ولا القارئ.
فسأل عمر: ما هذا الصوت الذي سمعته؟
ثم أكمل عمر وقال: لقد أخبرت أنكما تابعتما محمداً على دينه.
ثم بدأ يضرب سعيد، فقامت فاطمة بنت الخطاب ووقفت بينه وبين سعيد تدافع عن زوجها، فالتفت إليها عمر وبدأ يضربها حتى سالت الدماء من وجه فاطمة رضي الله عنه.
لما رأى سعيد الوضع قال لعمر في تحدٍ شديد: نعم قد أسلمنا وآمنا بالله ورسوله، فاصنع ما بدا لك!
وليس هذا فقط فقد قامت فاطمة وأمسكت بوجه عمر، وقالت له في قوة: وقد كان ذلك على رغم أنفك يا عمر.
ذهل عمر!
ما الذي جعلهم يقفون ويواجهون ويثبتون على دينهم هكذا؟ وهم يعلمون ماذا يمكن أن أصنع بهم؟
ثم بدأ تأثير دعوة رسول الله عندما رآهم تتقاطر منهم الدماء، فشعر بالندم ثم جلس وقال:
أروني هذا الكتاب حتى أقرأه.
كان عمر يقصد الصحيفة التي كانوا يقرؤون منها قبل أن يدخل، والتي كُتبت عليها سورة طه.
فقالت له فاطمة: يا أخي، إنك نجس على شركك وإنه لا يمسه إلا الطاهر.
قد تظن الآن أن عمر قام لقتل أخته فقد تمادت معه كما يرى، ولكن حدث العكس تماماً، فقد قام عمر في هدوء ليغتسل. (2)
بعدما اغتسل خرج بوجه غير الذي دخل به تشعر ان الماء لم ينزل على جسده فقط بل نزل على قلبه وعقله فطهرهم هم أيضاً
فجاء ومسك الصحيفة، وبدأ يقرأ قول الله:
(بسم الله الرحمن الرحيم)
(طه (1) مَآ أَنزَلۡنَا عَلَيۡكَ ٱلۡقُرۡءَانَ لِتَشۡقَىٰٓ (2) إِلَّا تَذۡكِرَةٗ لِّمَن يَخۡشَىٰ (3) تَنزِيلٗا مِّمَّنۡ خَلَقَ ٱلۡأَرۡضَ وَٱلسَّمَٰوَٰتِ ٱلۡعُلَى (4)ٱلرَّحۡمَٰنُ عَلَى ٱلۡعَرۡشِ ٱسۡتَوَىٰ (5) لَهُۥ مَا فِي ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَمَا فِي ٱلۡأَرۡضِ وَمَا بَيۡنَهُمَا وَمَا تَحۡتَ ٱلثَّرَىٰ (6) وَإِن تَجۡهَرۡ بِٱلۡقَوۡلِ فَإِنَّهُۥ يَعۡلَمُ ٱلسِّرَّ وَأَخۡفَى (7) ٱللَّهُ لَآ إِلَٰهَ إِلَّا هُوَۖ لَهُ ٱلۡأَسۡمَآءُ ٱلۡحُسۡنَىٰ (8))
حتى قال:
ما أحسن هذا الكلام وما أجمله.
كان خباب مازال مختبأً، فبمجرد أن سمع ما قاله عمر خرج وأراد أن يحمّس عمر للإسلام قبل أن يتراجع.
فقال خباب لعمر: يا عمر، ولله إني لأرجو أن يكون الله قد خصك بدعوة نبيه؛ فإني سمعته بالأمس يقول: اللهم أيد الإسلام بأبي الحكم بن هاشم أو بعمر بن الخطاب.
فالله الله يا عمر. (3)
أي هيا أسلم يا عمر
فتعجب عمر وقال: أقال ذلك؟
فقال خباب: والله قد قال ذلك
فقال عمر: وأين رسول الله، خذني إليه فإني أريد الإسلام.
لم يقل عمر محمد! بل قال رسول الله!
فقال خباب: إنه في بيت عند الصفا. (4)
شجاعة سيد الأنبياء
أخذ عمر مرة أخرى سيفه فحمله، وتوجه إلى محمد صلى الله عليه وسلم ولكن ليس لقتله وإذهاق نفسه بل طلباً لإحياء روحه!
فتوجه إليه صباحا رجلاً يعبد الأصنام، والآن يتوجه إليه ليكن عملاقاً من عمالقة الإيمان.
كل هذا ولا يدري سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ولا أصحابه، إلاً أن عمر قادمٌ إليهم طالباً القتل والإنتقام.
فعندما وصل إلى بيت الصفا، و رآه أحد الصحابة من شق الباب.
خاف وقال: هذا عمر بن خطاب متوشحاً سيفه.
ففزع الصحابة كلهم في ذاك الدار، ولكن وقف أسد الله حمزة وكان قد أسلم حديثاً ولازال يتعلم الإسلام، وقال بكل بقوة وبسالة: وإن كان عمر، افتحوا له الباب، إن كان يريد خيراً أعطيناه وإن كان يريد شراً قتلناه بسيفه.
فقال النبي بكل قوة وثبات: ائذنوا له
ففتحوا الباب ودخل عمر ابن الخطاب إلى غرفة من غرف الدار.
فقام سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم أشجع الخلق لمواجهته، فدخل عليه، واقترب منه، وأخذ بمجامع ثيابه، وقال له بقوة: ما جاء بك يا ابن الخطاب، فوالله ما أرى أن تنتهي حتى يُنزل الله بك قارعة.
قال عمر بصوت منخفض والحياء يعتريه من أفعاله: يا رسول الله، جئت لأؤمن بالله وبرسوله وبما جاء به من عند الله.
الله أكبر، الله أكبر، كبّر رسول الله وكبّر كل من في الدار، فقد أسلم اليوم عمر!
كانت الفرحة لا توصف، أقبل الجميع على عمر يُهنؤنه ونسوا كل ما فعله بهم.
اليوم بدء عز الإسلام، اليوم بدأ الصحابة يكبّرون بصوتٍ مرتفع دون خوف من الكفار.
فالحمد لله الذي شرح صدر عمر للإسلام وأنقذه من النار. (5)
ماذا فعل الخطاب فور إسلامة؟
ويا ترى ما رده فعل سادات قريش على إيمانة؟
وما هي الإشاعة التي كادت تنهي امر المسلمين ؟
هذا ما سنعرفه في الحلقة القادمة.. من برنامج طريق النور
المراجع
- كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 345
- كتاب سيرة ابن هشام ت السقا - عبد الملك بن هشام - الجزء الأول - صفحة 343 و 344
- كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 344
- كتاب سيرة ابن اسحاق = السير والمغازي - محمد بن إسحاق - صفحة 184
- كتاب اللؤلؤ المكنون في سيرة النبي المأمون - موسى بن راشد العازمي - الجزء الأول - صفحة 349