1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى

الْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنَ الْيَدِ السُّفْلَى

الكاتب : الدكتور / محمد بكر إسماعيل
5036 2018/10/29 2024/04/18
المقال مترجم الى : English हिन्दी

 

 

عَنْ أَبي أُمَامَةَ الباهلي – رضي الله عنه – أن رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "يَا ابْنَ آدَمَ إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ وَإِنْ تُمْسِكْهُ شَرٌّ لَكَ وَلَا تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى".

 

هذا الحديث فيه وصية للأولياء بمن يعولونهم، ويرعون شئونهم، ويكونون مسئولين عنهم في الدنيا والآخرة، وهم الأولاد والزوجات، ومن تجب عليهم نفقتهم كالآباء والأمهات، والأخوات اللاتي ليس لهن من يعولهن غيرهم.

 

وقد مهد النبي صلى الله عليه وسلم لهذه الوصية بجمل خيرية ترغب في الإنفاق من فضول الأموال بقدر الوسع والطاقة، من غير إسراف ولا تكلف، ثم ختمها بحكمة سامية جعلت مضرب الأمثال في العزة والقناعة، وعفة النفس، وبذل ما في الطاقة بذله لمن يستحقه.

*     *     *

وخطاب النبي صلى الله عليه وسلم بقوله: "يَا ابْنَ آدَمَ" يشعر بعراقة النسب وعظمة الانتساب، إذ نسبه إلى أول نبي أرسله الله إلى أبنائه، والمرء يسره أن ينتسب إلى أبيه الأول، ويجد في ذلك مسرة ومبرة.

 

ويشعر هذا الخطاب – أيضا – بتكريم الله له لأنه قد زوده بالعقل والعلم، وأمده بالقدرة على عمارة الأرض وسخر له ما في البر والبحر، وجعله سيداً على ما خلق وبرأ من الكائنات الحية، وأعطله من الخير ما لا يحصى عده، ولا يعرف أمده.

 

ولقد قال الله - عز وجل – في سورة الإسراء: { وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا } (سورة الإسراء: 70).

 

ويشعر هذا الخطاب – كذلك – بأن الإنسان عائد إلى التراب الذي خلق منه أبوه آدم، وتارك ما في يديه من مال ونشب، فلا ينبغي أن يتمسك بشيء زائل، أو هو زائل عنه، ثم إنه مبعوث ليوم عظيم ومحاسب على ما قدم وأخر من خير وشر.

 

ولا يخفى ما في الخطاب من التنبيه إلى أهمية ما سيُلقَى بعده من توجيهات حكمية ينبغي أن تؤخذ مأخذ الجد والاعتبار – كما هو الشأن في الخطاب إذا ورد في بدء الكلام.

*     *     *

وقوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلْ" بفتح همزة إن ونصب الفعل المضارع بعدها، على تأويل مصدر تقديره: إنك في بذلك الفضل – هم ما زاد عن حاجتك – "خَيْرٌ لَكَ" في الدنيا والآخرة؛ فإنك تثاب على عملك الصالح في الدارين معاً، كما جاء في قوله تعالى في سورة آل عمرام في شأن الربيين { فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الْآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } (سور آل عمران: 148).

 

وثواب الدنيا يكون في صلاح الحال، وهدوء البال، واطمئنان القلب بذكر الله، وهوان الدنيا على المسلم حتى لا ينصب في جميع حطامها فيشقى.

 

وقد ترجم الله – عز وجل – هذا الثواب بشيء من التفصيل في قوله تعالى: { أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَبَشِيرٌ  وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ } (سورة هود: 2- 3).

 

وقوله تعالى- : { مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ } (سورة النحل: 97).

 

والمتاع الحسن والحياة الطيبة هي ما قد ذكرناه من صلاح الحال وهدوء البال إلى غير ذلك من النعم الظاهرة والباطنة التي يشعر بها المؤمن ويعجز عن التعبير عنها والشكر عليها.

 

وثواب الآخرة خير وأبقى، وأعظمه رضوان الله عز وجل كما قال – جل وعلا – في سورة التوبة: { وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ } (سورة التوبة: 72).

*     *     *

ويكفي ابن آدم من الخير أن يبذل للفقراء ما زاد على حاجته، فإنه لو فعل ذلك يكون قد اقتحم العقبة ونجا من عذاب الله في الدنيا والآخرة.

 

والله – عز وجل – لم يكلف عباده أن ينفقوا جميع أموالهم ولا نصفها ولكنه – جل شأنه – أمرهم أن ينفقوا منها بقدر ما تجود به أنفسهم، وبما زاد عن الحاجة.

 

قال تعالى: { وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ } (سورة البقرة: 219) أي: الزيادة عن الحاجة.

 

أما من زاد فإن الله يزيده من فضله أضعافاً مضاعفة، والله واسع الفضل غزير الفيض، لا يزال يعطي عباده من الخير ما بذلوا من الخير.

 

قال تعالى: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً وَاللَّهُ يَقْبِضُ وَيَبْسُطُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ } (سورة البقرة: 245).

 

وقال جل وعلا: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ وَلَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ } (سورة الحديد: 11).

 

وقد ضرب الله مثلين في سورة البقرة لمضاعفة الأجور إلى الحد الذي لا يخطر على قلب بشر، فقال – عز من قائل: { مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ } (سورة البقرة: 261).

 

ولننظر إلى الحبة الواحدة قد أنبتت سبع سنابل، في كل سنبلة منها مائة حبة سوف تزرع مرة أخرى، فتنبت كل حبة من المائة سبع سنابل، ولا تزال تنبت وتنبت، وهكذا شأن الصدقة يزيد الله فيها حتى تصير الثمرة مثل جبل أحد كما جاء في الحديث الصحيح.

 

والله – عز وجل – يضاعف الأجر بحيث لا يقع ما قدره للمحسنين تحت حصر.

 

وقال- جل وعلا: { وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ وَتَثْبِيتًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْهَا وَابِلٌ فَطَلٌّ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سورة البقرة: 265).

 

وهذا المثل بين الله لنا فيه أن الحبة تصبح جنة ذات زرع وثمر تنبت بأي نوع من المطر: غزيراً كان أم قليلاً وتؤتي أكلها ضعفين، والضعف يقتضي التكرار كأنه لا ينقطع أبداً ولا يزول كما دل عليه قوله تعالى في الآية السابقة: { مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ أَضْعَافًا كَثِيرَةً } (سورة البقرة: 245).

والوابل: في الآية معناه المطر الكثير.

والطل: هو القليل الكافي.

والربوة: المكان المرتفع الخصب.

 

ومن هذين المثلين يتبين لنا معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّكَ إِنْ تَبْذُلْ الْفَضْلَ خَيْرٌ لَكَ"، فهذا هو الخير الذي لا ينقطع مدده أبداً. كما قال – جل وعلا-: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ } (سورة فصلت: 8).

 

والناس في البذل والإنفاق درجات:

أدناهم: من يكتفي بإخراج الواجبات، كتأدية الزكاة، ونفقة الزوجة والأولاد وسائر من يعولهم.

 

وأعلاهم درجة: من يجود بماله كله، كأبي بكر الصديق رضي الله عنه.

 

ودونه في الدرجة عمر بن الخطاب – رضي الله عنه – الذي جاد ينصف ماله إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومثل عمرعثمان بن عفان – رضي الله عنه – الذي جهز جيش العسرة. وغيرهم ممن لم يدخر وسعاً في الإنفاق في وجوه الخير.

{ وَكُلُّ شَيْءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدَارٍعَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِ } (سورة الرعد:     8- 9).

*     *     *

أما الإمساك عن الإنفاق فهو شر ما بعده شر إلا الكفر، فليس هناك صفة أقبح من البخل، ولا سيما البخل في الوجوه الواجبة كالزكاة، فإن من امتنع عن دفع الزكاة قسا قلبه وساء خلقه، وفسد حاله ومآله، وحشر مع الكفار.

 

قال تعالى: { وَوَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ الَّذِينَ لَا يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ } (سورة فصلت: 6- 7).

 

 

والبخيل قد أشرك حب المال مع حب الله, وآثر الدنيا على الآخرة، وظلم أصحاب الحقوق عليه، وتحلى بصفة يبغضها الله عز وجل؛ فهو الكريم يحب من حاكاه في الكرم بقدر طاقته البشرية، ويبغض من كنز المال ومنع حق الفقراء فيه.

 

واقرأ ما جاء في وعيده قوله تعالى: { وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ } (سورة التوبة: 34- 35).

 

واقرأ قوله – جل شأنه - : { كَلَّا إِنَّهَا لَظَى نَزَّاعَةً لِلشَّوَى تَدْعُو مَنْ أَدْبَرَ وَتَوَلَّى وَجَمَعَ فَأَوْعَى } (سورة المعارج: 15- 18).

 

واقرأ قوله عز وجل: { فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلَاتِهِمْ سَاهُونَ الَّذِينَ هُمْ يُرَاءُونَ وَيَمْنَعُونَ الْمَاعُونَ } (سورة الماعون: 4- 7 ).

 

والماعون: كل ما يعين الإنسان على قضاء حوائجه.

 

والآيات في هذا المعنى كثيرة، وهي تشمل بعمومها من أسلم ولم يبرهن على إسلامه بالعمل الصالح، فكان كمن لم يسلم في أخلاقه وطباعه وسلوكه، فهو معهم بعمله في الدنيا، ومعهم بعمله في الآخر. { وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا } (سورة الكهف: 49).

 

والإمساك من طبع الإنسان بدليل قوله تعالى: { قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزَائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذًا لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفَاقِ وَكَانَ الْإِنْسَانُ قَتُورًا } (سورة الإسراء: 100 ).

 

لكن هذا الطبع ينبغي أن يتخفف المرء منه ما استطاع إلى ذلك سبيلا.

 

ومن أجل ذلك سيقت له المواعظ التي تحمله على التخلص منه بالترغيب تارة وبالترهيب تارة أخرى.

 

وإذا تخلص المرء من البخل والتقتير فقد صار بطلاً في هذا المجال؛ لأنه يصعب على الإنسان أن يتخلص من هذا الداء الوبيل بسهولة حتى أن بعض المربين كالإمام الغزالي قد أشار على البخلاء أن يتخلصوا من بخلهم ولو بالرياء، وذلك من باب التخلص من داء أشد بداء أخف، ثم يسهل عليه بعد ذلك أن يتخلص من الداء الأخف والأثقل معاً فيسلم له دينه ويقينه.

 

والإنسان بطبعه شحيح بما عنده، حريص على ما في يديه، يكره النقص ويحب الزيادة، ويطمع فيما لا مطمع له فيه أحياناً.

 

قال تعالى: { وَأُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ } (سورة النساء: 128 ) أي: ألزمته وعانقته، ولكن النفوس المؤمنة تتخلص منه شيئاً فشيئاً حتى يختفي الشح وراء الشعور فلا تكاد تجده أو تحس بوجوده، فيكون الكرم في البؤرة ويكون الشح في الحاشية – كما يعبر بذلك علماء النفس.

 

والطبع – أحياناً – يغلب التطبع فيظهر الشح فجأة ثم يختفي، وأحياناً يغلب التطبع على الطبع حتى يحل محله، وذلك يرجع إلى قوة الإيمان وضعفه.

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: الْمُؤْمِنُ الْقَوِيُّ خَيْرٌ وَأَحَبُّ إِلَى اللَّهِ مِنْ الْمُؤْمِنِ الضَّعِيفِ وَفِي كُلٍّ خَيْرٌ. احْرِصْ عَلَى مَا يَنْفَعُكَ، وَاسْتَعِنْ بِاللَّهِ وَلَا تَعْجَزْ... إلى آخر الحديث". وقد سبق بيان معناه والحمد لله.

 

وإذا كنا قد عرفنا معنى الخير في هذا الحديث وأدركنا أنه لا منتهى لحده وأمده فالشر كذلك قد يتسع بسبب البخل والحرص، والشح والطمه، والجشع، حتى يصل بصاحبه إلى أن يعبد المال من دون الله، فلا يطعم مسكيناً، ولا يحض على إطعامه، ولا يكرم يتيماً ولا يحسن إليه، ولا يصل رحماً، ولا يلتفت إلى أم أو إلى أب، ولا يسهم في شيء مما يحتاج الناس إليه؛ فيعتزله الناس جميعاً ويبغضونه بغضاً ما بعده بغض، ولا يشاركونه آماله ولا آلامه ولا يعدونه من الأحياء، فهو ميت في صورة حي.

 

يقول النبي صلى الله عليه وسلم: "تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ وَعَبْدُ الدِّينَارِ وَعَبْدُ الْخَمِيصَةِ تَعِسَ وانتكس، وَإِذَا شِيك فَلَا انتقش" أي: إذا أصابته شوكة لا يجد من ينقشها له لعدم تعاونه مع الناس، وبخله عليهم بما هم في حاجة إليه.

 

والخير يبقى وإن طال الزمان به

والشر أخبث ما أوعيت من زاد

 

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يقل: تعس طالب الدرهم والدينار، ولكنه قال ""تَعِسَ عَبْدُ الدِّرْهَمِ الدِّينَارِ" والفرق بين من يطلب ومن يعبد كبير، فمن بلغ به الطلب إلى حد العبادة خاب سعيه وخسر دنياه وآخرته، وكان إنساناً شاذاً ليس فيه من معاني الإنسانية شيء.

 

والإنسان – كما يقول ابن خلدون –: "مدني بطبعه"، أي هو متعاون مع بني جنسه، لا يستطيع أن يعيش بمعزل عنهم، ولا يجد لنفسه غنى عن تعاونه معهم وتعاونهم معه، فإذا جعل المال مبلغ همه ظن أنه ساع إلى طريق السعادة أو هو مغمور فيها، وهو المخدوع بحق.

ولست أرى السعادة جمع مال         ولكن التقي هو السعيد

وتقوى الله خير الزاد زخــراً          وعنـد الله للأتقى مزيد

 

إن المؤمن يعرف بهوان الدنيا عليه، والبخيل يعرف بتفانيه في طلبها.

 

ومن جعل الدنيا مبلغ همه شتت الله شمله وجعل فقره بين عينيه، ومن جعل الآخرة مبلغ همه جمع الله شمله وجعل غناه في قلبه، وأتته الدنيا وهي راغمة.

 

هذا وقد حذر النبي – صلى الله عليه وسلم – من الشح والبخل، والحرص والطمع، فقال: "اتَّقُوا الظُّلْمَ فَإِنَّ الظُّلْمَ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ، وَاتَّقُوا الشُّحَّ فَإِنَّ الشُّحَّ أَهْلَكَ مَنْ كَانَ قَبْلَكُمْ، حَمَلَهُمْ عَلَى أَنْ سَفَكُوا دِمَاءَهُمْ وَاسْتَحَلُّوا مَحَارِمَهُمْ".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: "لَا يَجْتَمِعُ غُبَارٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَدُخَانُ جَهَنَّمَ فِي جَوْفِ عَبْدٍ أَبَدًا وَلَا يَجْتَمِعُ الشُّحُّ وإِيمَانُ فِي قَلْبِ عَبْدٍ أَبَدًا".

 

وقال صلى الله عليه وسلم: السَّخِيُّ قَرِيبٌ مِنْ اللَّهِ، قَرِيبٌ مِنْ الْجَنَّةِ، قَرِيبٌ مِنْ النَّاسِ بَعِيدٌ مِنْ النَّارِ، وَالْبَخِيلُ: بَعِيدٌ مِنْ اللَّهِ، بَعِيدٌ مِنْ الْجَنَّةِ بَعِيدٌ مِنْ النَّاسِ، قَرِيبٌ مِنْ النَّارِ وَلَجَاهِلٌ سَخِيٌّ أَحَبُّ إِلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مِنْ عَابد بَخِيلٍ".

 

وقد تكلمنا فيما سبق عن الشح فلا تطيل الكلام فيه هنا.

*     *     *

وقوله صلى الله عليه وسلم: "تُلَامُ عَلَى كَفَافٍ" معناه أن ابن آدم لا يلومه الناس وهو على فقر وعسر ألا يجود بشيء مما تحت يده؛ لأنه في حاجة إليه ولا غنى له عنه، والكفاف هو مقدار الضرورة.

 

يقال: فلان على كفاف، أي على ضرورة لا يستطيع أن يجود بشيء مما عنده لشدة احتياجه إليه – كما أشرنا.

والله – عز وجل – لا يلوم عبده – أيضاً – إذا شح بما هو في حاجة إليه – كما يفيده قوله – صلى الله عليه وسلم: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ".

 

ولكن ينبغي على المسلم ألا يحرم نفسه من ثواب الإنفاق ولو بنصف تمرة, فإن الله عز وجل – قال: { فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ } (سورة الزلزلة: 7- 8).

 

وقد روى البخاري ومسلم عن عدي بن حاتم – رضي الله عنه – قال سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "اتَّقُوا النَّارَ وَلَوْ بِشِقِّ تَمْرَةٍ".

 

*     *     *

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَابْدَأْ بِمَنْ تَعُولُ" فضل بالإنفاق من تجب عليك نفقته؛ فتأدية الواجبات مقدمة على فعل المستحبات – كما هو معلوم.

 

فلا ينبغي أن يتصدق المسلم على فلان وفلان، ويدع أهله بلا طعام، أو يتركهم يسألون الناس.

 

قال صلى الله عليه وسلم: "كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ".

 

ولا شك أن الإنفاق على الأهل والأقارب أعظم أجراً من الإنفاق على غيرهم لقوله تعالى: { وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلَا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَالْجَارِ ذِي الْقُرْبَى وَالْجَارِ الْجُنُبِ وَالصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَابْنِ السَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتْ أَيْمَانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ مَنْ كَانَ مُخْتَالًا فَخُورًا } (سورة النساء: 36).

 

فبدأ سبحانه بالإحسان إلى الوالدين، وثنى بذوي القربى، وما ذاك إلا لمزيد العناية بهم، فهم أولى بالعطاء من غيرهم؛ لأنه لا يلحقهم من هذا العطاء عار كالذي يأتيهم من الغرباء.

 

وقال الله عز وجل: { وَآتِ ذَا الْقُرْبَى حَقَّهُ } (سورة الإسراء: 26).

وهذا الحق واجب، وتأدية الواجب أعظم أجراً من تأدية المستحبات – كما أشرنا.

 

روى مسلم في صحيحه عن أبي هريرة – رضي الله عنه – قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "دِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ فِي رَقَبَةٍ، وَدِينَارٌ تَصَدَّقْتَ بِهِ عَلَى مِسْكِينٍ، وَدِينَارٌ أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ، أَعْظَمُهَا أَجْرًا الَّذِي أَنْفَقْتَهُ عَلَى أَهْلِكَ".

*     *     *

وقوله صلى الله عليه وسلم: "وَالْيَدُ الْعُلْيَا خَيْرٌ مِنْ الْيَدِ السُّفْلَى". معناه أن اليد المعطية خير عند الله من اليد الآخذة – كما هو ظاهر – غير أن في هذه الفقرة من الحديث إشارات لا بد من ملاحظتها، منها:

 

(أ) الترغيب في الإعطاء، والتنفير من الأخذ من غير ضرورة ملحة.

(ب) والترغيب في التواضع، بمعنى أن المعطي ينبغي عليه أن يضع يده تحت يد الآخذ لئلا يشعر – ولو للحظة أنه خير من الآخذ.

 

(جـ) ومن الإشارات أيضاً أن اليد العليا يد خير دائماً لأنها تعمل فتأتي بالخير ثم تنفق من هذا الخير على من يستحق العون، بخلاف اليد السفلى فإنها يد عاطلة، إذ لو كانت عاملة لكانت معطية من كسبها كا دام صاحبها قادراً على العمل.

 

وهذا السر هو ما افهمه من قوله تعالى: { وَالَّذِينَ هُمْ لِلزَّكَاةِ فَاعِلُونَ } (سورة المؤمنون: 4). إذ لم يقل: مؤدون؛ ليدل قوله { فَاعِلُونَ } على اختلاق ما يزكي المسلم منه وتحصيله بالعمل، فهو يكافح في طلب الرزق، ويرغب في أن يكتب مع المزكين فيجد في الحصول على النصاب الموجب للزكاة لا على الفرار منها بالحيل المذمومة كما يفعل بعض من لا دين لهم.

 

رزقنا الله وإياكم فهماً في كتابه العزيز وسنة نبيه عليه الصلاة والسلام.

*     *     *

 

 

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day