البحث
اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا
عن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:" اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا وَاعْمَلُوا أن خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ، وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ".
* * *
الاستقامة هي الطاعة والانقياد لأمر الله تبارك وتعالى، والثبات على الصراط السوي والنهج المستقيم، وتعديل المسار كلما انحرفت النفس عن جادة الأمر أو مالت مع الهوى، وتصحيح النية في جميع الأعمال كلما همت النفس بالنظر إلى الخلق بقصد الرياء وحب الظهور.
وقد أوصى النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه ومن يجيء بعدها بالاستقامة؛ لأنها خير وصية تلقاها من ربه عز وجل في كتابه العزيز، قال تعالى: { فَاسْتَقِمْ كَمَآ أُمِرْتَ وَمَن تَابَ مَعَكَ وَلَا تَطْغَوْاْ إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ } (سورة هود: 112). فكانت هذه الآية أشد آية تلقاها النبي صلى الله عليه وسلم من ربه عز وجل، خشع لها قلبه، واقشعرت من جلالها جوارحه، فوعاها وعمل بمقتضاها على أتم وجه وأكمله، واقتدى به أصحابه فكانوا على مثال الخلق الفاضل والكمال الوافر، واجتهدوا في العبادة، فكانوا أعظم ربانيين التفوا حول أعظم نبي وأكرم رسول، اجتمعت فيهم خصال الربانيين الذين كانوا أنصار الأنبياء، وزادوا عليهم أضعاف ما كانوا عليه من جد في العمل وإخلاص في النية، وامتازوا عنهم بما خصهم الله به من فضل ورحمة وأثنى عليهم بما هو أهله في خير كتاب أنزله، وعلى لسان أجل نبي أرسله.
قال جل شأنه في إطرافهم والثناء عليهم: { كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ } (آل عمران: 110).
وقد كان كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يقيمون الليل ويصومون النهار ويتصدقون بما فضل عن حاجتهم، ويبالغون في الزهد والتقشف وترك زينة الدنيا، يريدون بذلك وجه الله تبارك وتعالى، ويبتغون مرضاته، فردهم النبي صلى الله عليه وسلم إلى التوسط في الأمور والقصد في العبادة، ومراعاة حظوظ النفس عند الحاجة، والتمتع بطيبات الحياة من غير إسراف ولا إجحاف – فقال: " اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا"، أي أطيعوا الله ما استطعتم، واعبدوه قدر طاقتكم، ولن تحصوا أي ولن تبلغوا الغاية مهما بذلتم من جهد في الطاعة والعبادة، ولن توفوا الله حقه عليكم، ولن تقدروه قدره، ولن تستطيعوا أن تبلغوا كل ما لديه من أجر وفضل.
وهذا كقوله صلى الله عليه وسلم: "خُذُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَنْ يَمَلَّ حَتَّى تَمَلُّوا وإن أَحَبُّ الْعَمَلِ إِلَى اللَّهِ مَا دَاوَمَ، وَإِنْ قَلَّ".
أي لا تكلفوا أنفسكم ما لا طاقة لكم به فإن الله قد نهاكم عن ذلك، وهو سبحانه لا يزال يعطيكم أجوركم على أعمالكم ما دامت موصولة لا يقطعها عنكم حتى تنقطعوا عن العمل وتملوه. والله عز وجل لا يحب أن ينقطع عبده عن عبادته، ولا شك أن الغلو فيها يسبب الملل ويجلب الكسل والانقطاع عنها وربما أدى الملل إلى عدم العودة إليها وفي ذلك نكث للعهد وانقلاب على الأعقاب وانحراف عن الصراط المستقيم.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إِنَّ هَذَا الدِّينَ مَتِينٌ فَأَوْغِلُوا فِيهِ بِرِفْقٍ", وقال: " إِنَّ الدِّينَ يُسْرٌ وَلَنْ يُشَادَّ الدِّينَ أَحَدٌ إِلَّا غَلَبَهُ فَسَدِّدُوا وَقَارِبُوا وَأَبْشِرُوا".
أي لا تشددوا على أنفسكم؛ فالدين يسر في أوامره ونواهيه، ليس فيه عسر ولا غلو، فمن حاول أن يشدد على نفسه أبى عليه ورده إلى الوسطية التي تميز بها.
وسيأتي لهذا الحديث مزيد بيان لأنه من أمهات المبادئ الخلقية والاجتماعية.
ولقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يتتبع المغالين في الدين ويتفقد أحوالهم، فيعظهم ويذكرهم ويحذرهم من هذا تحذيراً شديداً.
فقد روى البخاري في صحيحه عن أنس رضي الله عنه قال: جَاءَ ثَلَاثَةُ رَهْطٍ إِلَى بُيُوتِ أَزْوَاجِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَسْأَلُونَ عَنْ عِبَادَةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَلَمَّا أُخْبِرُوا كَأَنَّهُمْ تَقَالُّوهَا فَقَالُوا وَأَيْنَ نَحْنُ مِنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَدْ غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ وَمَا تَأَخَّرَ قَالَ أَحَدُهُمْ أَمَّا أَنَا فَإِنِّي أُصَلِّي اللَّيْلَ أَبَدًا وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَصُومُ الدَّهْرَ وَلَا أُفْطِرُ وَقَالَ آخَرُ أَنَا أَعْتَزِلُ النِّسَاءَ فَلَا أَتَزَوَّجُ أَبَدًا فَجَاءَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ فَقَالَ أَنْتُمْ الَّذِينَ قُلْتُمْ كَذَا وَكَذَا أَمَا وَاللَّهِ إِنِّي لَأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ وَأَتْقَاكُمْ لَهُ لَكِنِّي أَصُومُ وَأُفْطِرُ وَأُصَلِّي وَأَرْقُدُ وَأَتَزَوَّجُ النِّسَاءَ فَمَنْ رَغِبَ عَنْ سُنَّتِي فَلَيْسَ مِنِّي".
أي فمن حاد عن سنتي هذه في الوسطية والتيسير فليس يحبني ولا هو على منهجي، ولا فعل ما أحبه، ولا كان مصيلاً ولا محقاً فيما فعله بنفسه.
على أن هناك من العلماء ما يحمل النص على ظاهره فيخرج من يفعل هذا من الإسلام، فيفسر معنى قوله صلى الله عليه وسلم: "ليس مني" بأنه ليس على دينه, وهو بعيد والأصح ما ذكرناه، والله أعلم بالصواب.
وإني أفهم من قوله صلى الله عليه وسلم: "وَلَنْ تُحْصُوا" معنى آخر يحتمله النص ولا يأباه وهو أن هذا النص خيري في اللفظ طلبي في المعنى, والمعنى: استقيموا ولا تحصوا أعمالكم على الله، وتقولوا في أنفسكم: فعلنا كذا من الصالحات قلنا كذا وكذا من الأجر، فذاك ليس لكم، ولا علم لكم إن كان الله قد قيل منكم عملكم أم لم يقبله، وما عليكم إلا أن تعبدوه ولا تشركوا به شيئاً دون النظر إلى الأجور فإنما هي هبة من الله تعالى وهو الذي يحصي لكم وعليكم أعمالكم إن خيراً فخير وإن شراً فشر.
وقد جاء في الحديث القدسي الذي رواه مسلم في صحيحه عن أبي ذر رضي الله عنه: "يَا عِبَادِي إِنَّمَا هِيَ أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إِيَّاهَا فَمَنْ وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدْ اللَّهَ وَمَنْ وَجَدَ غَيْرَ ذَلِكَ فَلَا يَلُومَنَّ إِلَّا نَفْسَهُ".
والعباد ثلاثة كما يذكر ابن عطاء الله السكندري عن شيخه أبي العباس المرسي سأنقله هنا بالمعنى مع الشرح والتحليل:
الأول عبد عبادة: وهو الذي ينظر إلى عبادته ويحصيها ويرجو عليها الأجر، وربما يفرح بكثرتها وربما يطمع أن يدخل الجنة بسببها.
الثاني عبد عبودية: وهو الذي يعبد الله رعاية لحق الربوبية، فلا يحصي على الله عبادته، ولا يعتمد عليها في دخول الجنة، ولا يرضى عن نفسه مهما اجتهد فيها، بل دائما يشعر بالتقصير في حق مولاه، ولا يرى لنفسه جهداً يذكره ولا عملاً يعده، ولكنه يقف عند حده بالأدب فيقول: أنا عبد والله رب، وما على العبد إلا أن يعبد سيده سواء أعطاء أم منعه، ولا يرجو من وراء عمله إلا رضاه.
الثالث عبد عبودة: وهو الذي نظر فأبصر فلما أبصر عرف، فلما عرف لزم، فلما لزم عاين الحقيقة فرأي مكانه وعرف قدره وأيقن أنه عبد حقاً وصدقاً، فعبد الله عز وجل عن علم ومعرفة وتحقق من عبوديته لخالفه ومولاه فلم يعد طوره، ولم ير لنفسه خيرة في أي أمر من أمور دينه ودنياه، وهو منتهى المقامات.
ولقد كان من تلبية بعض أصحاب الرسول صلى الله عليه وسلم في الحج: "لَبَّيْكَ حَقًّا حَقًّا تَعَبُّدًا وَرِقًّا".
* * *
وبعد قوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "اسْتَقِيمُوا وَلَنْ تُحْصُوا"، قال: "وَاعْلموا أن خَيْرُ أَعْمَالِكُمْ الصَّلَاةُ".
وفي ذلك توجيه حكيم إلى ما ينبغي على المسلم أن بتخيره من الأعمال التي تقربه إلى الله عز وجل، وتدينه من حضرة قدسه، وتضفى عليه من الجلال والجمال ما يجعله عبداً ربانياً بمعنى الكلمة؛ فالصلاة عماد الدين، وركنه الركين كما جاء في القرآن والسنة، فقد سماها الله – لعظمة شأنها – إيماناً.
فقال في آيات القبلة من سورة البقرة: { وَمَا جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْهَا إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلَى عَقِبَيْهِ وَإِنْ كَانَتْ لَكَبِيرَةً إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمَانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ } (سورة البقرة: 143).
وقد سميت الصلاة إيماناً لأنها برهان على صحته، فمن أقامها فقد أقام الدين، ومن ضيعها فقد هدم الدين.
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رَأْسُ الْأَمْرِ الْإِسْلَامُ وَعَمُودُهُ الصَّلَاةُ وَذِرْوَةُ سَنَامِهِ الْجِهَادُ".
والمعنى أن الإسلام: هو رأس الأمر الذي يهم كل إنسان في دنياه، وآخرته، فهو أول ما يجب عليه الاعتناء به والإلمام بأحكامه.
وأن الأساس المتين الذي يقوم عليه هذا الدين هو الصلاة.
وأن أسمى عمل فيه هو: الجهاد؛ لأن به تصان الحرمات، وبه يظهر الإسلام، ويعلو على سائر الأديان.
وقد شبه الرسول صلى الله عليه وسلم الإسلام في حديث آخر ببيت، له خمس قواعد إليها تشد جدرانه، وفوقها يستوي سقفه وبنيانه، إذا سقطت قاعدة منها، تداعت سائر القواعد للسقوط، وانهار بناء البيت، وخر السقف على من تحته.
فقال عليه الصلاة والسلام: "بُنِيَ الْإِسْلَامُ عَلَى خَمْسٍ: شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَنَّ مُحَمَّدًا رَسُولُ اللَّهِ، وَإِقَامِ الصَّلَاةِ، وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ، وَحَجِّ البيت، وَصَوْمِ رَمَضَانَ".
ولا ريب أن الشهادتين هي الركن الأساسي في الإسلام، ولكنها لا تصح إلا من عبد قام بحقها وعمل بمقتضاها، فأقام الصلاة، وآتى الزكاة، وحج البيت إن استطاع إليه سبيلاً، وصام شهر رمضان إن قدر على صيامه ولم يكن مريضاً أو مسافراً أو شيخاً كبيراً، على ما هو مذكور في أحكام الصوم.
والصلاة بالذات من أقوى البراهين وأعظمها على صحة الإسلام، فمن ترك الصلاة منكراً لوجوبها فهو كافر بلا خلاف، ومن تركها كسلاً فهو فاسق يستتاب ثلاثة أيام فإن لم يصل قتل، وقيل هو كافر كالذي أنكر وجوبها والأصح أنه فاسق وليس بكافر.
والصلاة عبادة من أعظم العبادات، وقربة من أعظم القربات، فهي صلة وثيقة بين العبد وربه، يعبر فيها عن خضوعه لعظمته، وكمال عبوديته وافتقاره إليه في سره وعلانيته.
وهي الملاذ عندما يجد العبد نفسه في مأزق حرج أو في ضيق شديد فيقبل عليها، ويضرع إلى الله فيها، ولا سيما في السجود، رغبة منه في الإجابة عملاً بقوله عليه الصلاة والسلام: " أَقْرَبُ مَا يَكُون أحدكم مِنْ رَبِّهِ وَهُوَ سَاجِدٌ فَأَكْثِرُوا فيه من الدُّعَاءَ".
وقوله: "أَلَا وَإِنِّي نُهِيتُ أَنْ الْقُرْآنَ رَاكِعًا، أَو سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ فَعَظِّمُوا فيه الرب، َأَما السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِي الدُّعَاءِ فَقَمِنٌ – أي جدير - أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ".
وكان النبي صلى الله عليه وسلم: إذا حزبه أمر هرع إلى الصلاة.
والعبد الصالح الذي يحب الصلاة, ويجد فيها روحه, وريحانه لا يزال يتقرب إلى ربه بها حتى يحبه، ولا شيء أعظم من حب الله تبارك وتعالى.
روى البخاري في صحيحه عن أبي هريرة رضي الله عنه، عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن ربه عز وجل، قال: "مَنْ عَادَى لِي وَلِيًّا فَقَدْ آذَنْتُهُ بِالْحَرْبِ وَمَا تَقَرَّبَ إِلَيَّ عَبْدِي بِشَيْءٍ أَحَبَّ إِلَيَّ مِمَّا افْتَرَضْتُه عَلَيْهِ وَلَا يَزَالُ عَبْدِي يَتَقَرَّبُ إِلَيَّ بِالنَّوَافِلِ حَتَّى أُحِبَّهُ فَإِذَا أَحْبَبْتُهُ كُنْتُ سَمْعَهُ الَّذِي يَسْمَعُ بِهِ وَبَصَرَهُ الَّذِي يُبْصِرُ بِهِ وَيَدَهُ الَّتِي يَبْطِشُ بِهَا، وَرِجْلَهُ الَّتِي يَمْشِي بِهَا وَلئن سَأَلَنِي لَأُعْطِيَنَّهُ وَلَئِنْ اسْتَعَاذَنِي لَأُعِيذَنَّهُ".
والفرائض: كل ما أوجب الله على عباده، والصلاة من أعظمها، كما تقدم.
والنوافل: ما زاد على الفرائض، والصلاة في بابها، من أعظمها أيضاً
والصلاة نور يتلألأ في قلب المؤمن، وينعكس على وجهه، وسائر جوارحه، ويظهرفي أقواله وأفعاله.
يقول الله عز وجب في وصف النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه: { سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ } (سورة الفتح: 29).
والسيما: العلامة الظاهرة، وهي النور الذي يسطع في وجوههم – كما قال كثير من المفسرين يُعرفون به إينما حلوا وحيثما ساروا، ويهتدون به إلى ما يحبه ربهم ويرضاه.
قال عليه الصلاة والسلام في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه: "الطهور شطر الإيمان، والحمد لله تملأ الميزان، وسبحان الله والحمد لله تملآن أو تملأ – ما بين السموات والأرض، والصلاة نور...".
وروى ابن حبان بإسناد حسن، عن أبي الدرداء رضي الله عنه، وأن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مشى في ظلمة الليل إِلَى الْمَسَاجِدِ آتاه الله نورا يَوْمَ الْقِيَامَةِ".
وروى الطبراني عن أبي الدرداء – أيضاً – أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "من مشى في ظلمة الليل إلى المسجد لقى الله عز وجل بنور يوم القيامة".
ومن عظيم فضل الصلاة أنها تكفر الذنوب، وتمحو الخطايا، وترفع الدرجات، إذا أقبل العبد إليها بقلب خالص وأداها كما ينبغي، وحافظ عليها في أوقاتها.
قال تعالى: { وَأَقِمِ الصَّلَاةَ طَرَفَيِ النَّهَارِ وَزُلَفًا مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ ذَلِكَ ذِكْرَى لِلذَّاكِرِينَ } (سورة هود: 114).
والمراد بالحسنات – هنا – الصلوات الخمس.
والمراد بالسيئات: الصغائر، كما قال أكثر المفسرين.
وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "الصلوات الخمس، والجمعة إلى الجمعة، كفارة لما بينهما ما لم تفش الكبائر"
ويشبه النبي صلى الله عليه وسلم الصلوات الخمس في محوها للذنوب، بنهر جار يغتسل منه المسلم في اليوم والليلة خمس مرات، فيقول عليه الصلاة والسلام: "أَرأيتم لَوْ أَنَّ نَهَرًا بِبَابِ أَحَدِكُمْ يَغْتَسِلُ مِنْهُ كُلَّ يَوْمٍ خَمْسَ مَرَّاتٍ هَلْ يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ؟ قَالُوا لَا يَبْقَى مِنْ دَرَنِهِ شَيْءٌ قَالَ فَكَذَلِكَ مَثَلُ الصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ يَمْحُو اللَّهُ بِهِنَّ الْخَطَايَا".
وقد روى مسلم – في صحيحه – عن عثمان بن عفان رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: "مَا مِنَ امْرِئٍ مُسْلِمٍ تَحْضُرُهُ صَلَاةٌ مَكْتُوبَةٌ فَيُحْسِنُ وُضُوءَهَا وَخُشُوعَهَا وَرُكُوعَهَا إِلَّا كَانَتْ كَفَّارَةً لِمَا قَبْلَهَا مِنَ الذُّنُوبِ مَا لَمْ يُؤْتِ كَبِيرَةً وَذَلِكَ الدَّهْرُ كُلُّهُ ".
ومن ثمرات الصلاة أنها تقوي إرادة المسلم، وتشد من عزمه، وتمده بالقوة التي تحمله على طاعة مولاه وكبح جماح شهوته وهواه.
يقول الله عز وجل: { اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } (سورة العنكبوت: 45).
والصلاة التي تنهي صاحبها عن الفحشاء والمنكر هي التي يؤديها المسلم بقلبه وجوارحه، ولا يغفل عن أدب من آدابها، ولا يشغل نفسه فيها بشيء ليس منها.
أما الصلاة التي تخلو من الخشوع, وإظهار التمسكن والتواضع، وينقرها صاحبها نقر الغراب – فهي لا ترفع فوق رأسه شبراً ولا تحدث في صاحبها أثراً يزيد في إيمانه أو يسمو بهمته أو يقوي من إرادته.
والصلاة – كما نعلم – من أفضل الذكر لاشتمالها على كافة أنواعه ولاشتراك القلب مع الجوارح فيها، لهذا كانت تدريباً على التخلص من هموم الدنيا، ونزغات الهوى، ونزوات النفس، ووساوس الشيطان.
وهذه الأمور الأربعة من أعظم البلاء، والتخلص منها من أعظم المنح الربانية، والنفحات الإلهية.
والعاقل من بذل جهده في تصحيح النية، وإصلاح العمل، وإظهار كمال التعبد والافتقار في الصلاة على وجه الخصوص، لأن العظيم فيها يتناسى عظمته ويتلاشى شعوره بها تماماً، ولا يرى لنفسه شيئاً مع الله، ولا سيما عندما يضع أنفه على الأرض، ويغفر وجهه بالتراب تواضعاً وتذللاً وتمسكناً لخالقه ومولاه.
* * *
وقوله صلى الله عليه وسلم في الحديث: "وَلَا يُحَافِظُ عَلَى الْوُضُوءِ إِلَّا مُؤْمِنٌ" توجيه منه صلى الله عليه وسلم إلى تطهير الظاهر والباطن، وترغيب في إسباغ الوضوء وإتمامه، وذلك بمراعاة آدابه العامة بعد استيفاء فروضه وشروط صحته.
والمحافظة على الوضوء معناها ما ذكرناه مع الحرص على بقاء المؤمن متوضئاً ما أمكن؛ لأن الوضوء سلاح المؤمن، بمعنى أن الشيطان لا يوسوس له ولا يثبط عزيمته عن الصلاة وهو متوضئ، إذا كان مؤمناً حقاً.
فالإيمان طهارة قلبية باطنة، والوضوء طهارة ظاهرة، فإذا اجتمعت للعبد طهارة الباطن وطهارة الظاهر استطاع أن يتغلب على الخمول والكسل، والعجز عن الصلاة وغيرها من العبادات.
ونحن نلحظ ذلك في أعمالنا وأحوالنا مع الله عز وجل، فإذا كان الرجل منا على غير وضوء وسمع المؤذن ينادي: "حي على الصلاة حي على الفلاح" يقول في نفسه: أنا غير متوضأ، وليس من السهل على أن أخلع نعلي وجوربي. وبعض ما ينبغي خلعه عند الوضوء. وإذا مر بمسجد لا يكاد يدخله كسلأ أن يتوضأ فتفوته الصلاة مع الجماعة وربما يفوته وقتها فيصليها قضاء، وربما.. وربما...
ولو كان على وضوء ما حدث ذلك في الغالب، وقد كان النبي صلى الله عليه وسلم يحب أن يكون على وضوء في أكثر أحواله، وكان أصحابه يقتدون به في ذلك، فليكن لنا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه أسوة حسنة.
ومن المحافظة على الوضوء أن يحضر المتوضئ قلبه فيذكر عند كل عضو يغسله أن هذا العضو نعمة من الله يجب أن يشكره عليه ما استطاع، وأن هذا العضو قد اقترف من الذنوب ما لا يعلمه إلا الله فيستغفر الله من ذنب كل عضو يغسله. وأن يعلم أن هذا العضو الذي يغسله، عليه حق يؤديه إلى الله، فليذكر ذلك أثناء وضوئه، ولينظر إلى الماء الذي يتوضأ به، وهو من أعظم النعم عليه، ولو شاء لمنعه عنه.
وبالجملة يظل المسلم ذاكراً شاكراً مستغفراً حتى ينتهي من وضوئه.
فإذا فعل ذلك فقد أعد نفسه للخشوع في الصلاة فدخلها وهو على درجة عظيمة من الإيمان، ولهذا كان الطهور شطر الإيمان، أي نصف الصلاة، لأن الصلاة تسمى إيماناً، أو هو نصف الإيمان بمعناه العام الذي يشمل طهارة القلب وطهارة الباطن، وطهارة الظاهر، وطاهرة الجوارح – كما ذكرت في أول كتاب الفقه الواضح. والله هو الهادي إلى سواء السبيل.
* * *