البحث
الشبهة الثانية والثلاثون : مَنْعُ العمل بأحاديث الآحاد
هذه الشبهة كالتي قبلها، موضوعة للتعامل مع السُّنَّة في حالتي الفشل في التشكيك فيها، وفي محوها من الوجود كلية. وكان لسان حالهم – بعد لسان مقالهم – يقول: سلمنا أن السُّنَّة صحيحة وبريئة، من كل المآخذ، ومع هذا فليس لها دور في التشريع، لأنها أحاديث رواها أفراد (آحاد) وأحاديث الآحاد لا يجوز العمل بها، لأنها لا تفيد اليقين. أما غير الآحاد من الأحاديث فهو نادر الوجود في السنة. فماذا بقي لنا – بعد ذلك – من الأحاديث النبوية تتخذه مصدراً تشريعياً ثانياً بعد القرآن؟ لا شيء يبقى منها!
إذن فالسُّنَّة سواء سلمت من الطعون، او لم تسلم لا غناء فيها للمسلمين. فينبغي أبعادها عن حياتهم فوراً؟! وهم – الآن – أعني منكري السُّنَّة – يعولون كثيراً على هذه الشبهة، لأن خلافاً قديماً وقع بين العلماء حول حديث الآحاد.
هل يُعْمَلُ به أو لا يُعْمَلُ؟ وإذا كان يُعْمَلُ به فما هو مجال العمل به؟ عام يشمل العقائد والحدود، أو خاص في غير العقائد والحدود؟
هذا الخلاف مشهور، وقد أولاء علماء أصول الفقه والفقه عناية فائقة ووصلت إلينا هذه القضية محسومة بأدلتها، وواقعيتها. في حياة المسلمين، بما لا يدع مجالاً للغط أو تشويه جانب الحق فيها، ولكن منكري السُّنَّة قوم يشغبون.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
تقدم في شبهة "ندرة المتواتر" أن الحديث النبوي ينقسم قسمين باعتبار كثرة رواة الحديث الواحد وقلتم. فما كان عدد رواته قليلاً، واحداً فما فوقه، سمي الحديث "حديث آحاد" وما كان رواته كثرة مستفيضة سمي "الحديث متواتر" وهذان اصطلاحان فنيان لعلماء الحديث، أرادوا بهما ضبط بعض المسائل المتعلقة بشأن الحديث النبوي، وهما مصطلحان طرآ بعد عصر صدر الإسلام، ما في ذلك من ريب على أن هؤلاء العلماء حين قسموا الحديث هذا التقسيم الثاني لم يحددوا بالضبط نهاية العدد الذي يعتبر به الحديث آحادياً، ولا بداية العدد الذي يعتبر به الحديث متواتراً. فبقى قدر مشترك بعد الحديثين الآحادي والمتواتر.
وقد فهمت من كلام بعض منكري الحديث النبوي المعاصرين أنهم يفهمون أن حديث الآحاد هو ما رواه واحد عن واحد من بداية السند إلى نهايته، وهذا غير صحيح فقد يُروى حديث الآحاد هو ما رواه واحد عن واحد من بداية السند إلى نهايته، وهذا غير صحيح فقد يُروى حديث الآحاد عن عشرة في سلسلة السند ومع ذلك يظل حديث آحاد، ما داموا لم يحددوا بداية العدد الذي يكون به الحديث متواتراً.
وقد تقدم أن حديث "من بدل دينه فاقتلوه" له ثلاثة طرق سمعته من رسول الله صلى الله عليه وسلم:
طريق عن عائشة أم المؤمنين رضي الله عنها، وطريق عن ابن عباس رضي الله عنه، وطريق عن معاوية بن حيدة رضي الله عنه.
وهذا جهل فاضح، إن لم يكن تجاهلاً قادحاً في سلامة النية، ونبل القصد.
أقول: إن تقسيم الحديث النبوي إلى آحاد ومتواتر اصطلاح حادث بعد عصر صدر الإسلام، أما في صدر الإسلام الأول فإن الخلفاء الراشدين الأربعة كانوا يعملون بالحديث النبوي الصحيح، دون التفرقة بين ما كثر سامعوه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وما قل سامعوه. إن الشرط الوحيد في قبول الحديث والعمل به هو "الصحة" وما كانوا رضي الله عنهم يطلبون أمراً زائداً على الصحة ولا يقدح في ذلك أنهم كانوا – أحياناً – يطلبون مع رواي الحديث راوياً آخر قد سمعه من النبي صلى الله عليه وسلم، كما سمعه الراوي الأول.
أقول: ليس هذا قادحاً في قبول الصحابة الحديث مطلقاً دون النظر في كثرة الرواة وقلتهم، لأمرين:
الأول: أن طلب الراوي الثاني لم يكن غالباً، بل ورد في بعض الحالات النادرة، ولم يحدث من أبي بكر إلا مرة واحدة ومن عمر رضي الله عنهما مرات قليلة.
وكذلك عثمان وعلي رضي الله عنهما.
الثاني: أن طلب الخلفاء راوياً ثانياً يعاضد سماع الراوي الأول، لا يخرج الحديث من "الآحاد" إلى "التواتر" وهذا لا نزاع فيه.
ويستنتج من هذا أن الخلفاء الراشدين، والصحابة، جميعاً كانوا يعملون بالسُّنَّة الصحيحة، ولا يتجاوزون شرط الصحة من الحديث إلى أمر آخر زائد عن الصحة.
فشرط العمل بالحديث هو رواية "الثقة" عن مثله. ومتى استوفى الحديث شرط الصحة وجب قبوله والعمل به، وعلى هذا جرى العمل عند رجال القرن الأول، وهو خير القرون مع تالييه الثاني والثالث.
وقد يرد حديث الآحاد ولا يعمل به، لكن لا لأنه حديث آحاد. بل لأمر آخر يتعلق بسنده أو متنه مثل أن يكون له معارض أقوى منه.
أو تكون في الحديث علة قادحة من علل المتن أو السند أو يكون مخالفاً لعمل أهل المدينة عند الإمام مالك رضي الله عنه.
أو دل دليل على نسخه، أو تخصيصه بواقعة معينة. فإذا لم يكن في المسألة إلا حديث واحد مما أطلق عليه علماء الحديث أنه "حديث آحاد" وجب العمل به في المسألة المعروضة للفتوى أو الحكم، إذا كان رواية ثقة عن مثله، ولا يجوز رده. وهكذا كان يفعل الخلفاء الراشدون فإذا رددناه فلا يخلو الحال من أحد أمرين:
الأول: أن نعمل بالرأي وهذا لا يجوز، لأن الرأي مقطوع بأنه ليس حكماً لله ولا لرسوله، وحديث الآحاد الذي يرويه الثقة فهو فتوى أو حكم منسوب إلى النبي صلى الله عليه وسلم، سواء في ذلك أن يكون مفيداً للعلم، أو الظن القوي. فيكون العدول إلى الرأي مع وجود النص الشرعي حكماً بغير ما أنزل الله على رسوله، ويغير ما قضى به رسوله.
الثاني: ألا نقضي في المسألة المعروضة ، للفتوى أو الحكم بشيء. وحينئذ يكون فيما انتهينا إليه تعطيل لشرع الله عز وجل وتعريض مشاكل الناس للاستفحال.
وبعض الفقهاء يقدمون الحديث الضعيف على العمل بالرأي، وهذه حيطة محمودة، فما بالك بالحديث الصحيح، الذي رواه العدل الضابط عن مثله؟!
إن أكثر الأحكام الفقهية قائمة على الظن القوي وما في ذلك من حرج وحديث الأحاد الذي رواه الثقة يفيد الظن القوي إن لم يفد العلم، فيجب العمل به.
هذا، وقد حكي الإمام الرازي إجماع أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم على العمل بحديث رسول الله آحاد أو غير آحاد ولأهل العلم المحققين أدلة من عمل الرسول نفسه تؤكد وجوب العمل بأحاديث الآحاد.
- منها: رسله وكتبه التي كان يبعث بها إلى رؤساء الشعوب والعشائر يدعوهم فيها إلى الإسلام، كالفرس والروم وأهل مصر وعشائر شبه الجزيرة العربية، مع جلال المهمة التي كانوا يضطلعون بها وهي أصل الدعوة إلى الإسلام.
- ومنها كتبه وعماله إلى البلاد التي دخل أهلها الإسلام ولم يكونوا آلات صماء كما يقول بعض الناس، بل كانوا ينوبون عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الفتوى والقضاء والفصل في الخصومات.
وعلى نهجه سار الخلفاء الراشدون من بعده.
- ومنها الأذان للصوات الخمس، إن الذي كان يقوم به بلال رضي الله عنه ينفعني، وإذا حدثني أحد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم استحلفته، فإذا حلف لي صدقته"؟!
هذا هو موقف الأمة من صدر الإسلام إلى يوم الناس هذا، يعملون بالحديث النبوي (الصحيح) ولم يفرقوا بين حديث رواه واحد أو اثنان أو ثلاثة وحديث رواه أربعون، فما
أبعد منكري السُّنَّة عن الحق في كل شبهاتهم التي يثيرونها لإبطال سُّنَّة نبي الرحمة صلى الله عليه وسلم قاتلهم الله أنى يؤفكون.
* * *