البحث
الشبهة الثالثة والثلاثون : السُّنَّة ليست حُجَّة في الدين
هذا هو المراد لمنكري السُّنَّة من كل محاولاتهم اليائسة وشبهاتهم الفارغة، التي أثاروها ضد السُّنَّة المطهرة وكما يرى القاريء أن هذه الشبهة موضوعة لكي يتعاملوا بها مع السُّنَّة وهي حقيقة لم ينالوا منها، أعني أنها شبهة وضعت متضمنة الاعتراف منهم ببقائها رغم محاولات التشكيك والمحو الكلي للسُّنَّة، فقد قدروا في أنفسهم أنه من المستحيل أن يصيبوا السُّنَّة في مقتل، أو ينجحوا في عزلها عن الأمة، أو عزل الأمة عنها. وما دام الأمر كذلك فليحولوا كيدهم إياها وجهة أخرى، وليقولوا للمسلمين:
إن هذه السُّنَّة التي ثبتت لديكم ثبوت ضوء الشمس لقرص الشمس ليست مصدراً للتشريع مع القرآن فالقرآن وحده يكفي، وضم السُّنَّة إليه بدعة وضلالة، هي التي كانت السبب في نكبة المسلمين، من عهد الشافعي إلى هذا اليوم؟!
وإنكار حجية السُّنَّة أمر بدأه الزنادقة قديماً في حياة الإمام الشافعي. وقد رد عليهم هذا الإمام الجليل في المناظرة القيمة، التي جرت بينه وبين أحد الزنادقة. وسجلها الإمام رضي الله عنه في كتابه "جماع العلم" فليرجع إليه من شاء فإنه – والحمد لله – مطبوع ومتداول بين أهل العلم كما أنه مطبوع ضمن كتاب "الأم، الجزء السابع.
وممن أنكر حجية السُّنَّة قديماً الغلاة من الروافض وغيرهم وليس لهم سند واحد مقبول، سوى المغالطات والأوهام.
أما حديثاً فقد استندوا في إنكارهم لحجية السُّنَّة بشبهات أو هي من بيت العنكبوت.
منها استدلالهم بقوله تعالى: { مَّا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِن شَيْءٍ } سورة الأنعام: 38).
فقد جزموا أن المراد من الكتاب في الآية الكريمة هو القرآن، ومعنى هذا عندهم أن القرآن مشتمل على جميع الأحكام المتعلقة بأعمال المكلفين ولو كان عند هؤلاء ذرة من عقل لبان لهم خطأ قولهم؛ إذ لا دليل على أن الكتاب في الآية هو "القرآن" فقد ذهب كثير من أهل العلم إلى أن المراد به اللوح المحفوظ، الذي حوى ما كان وما هو كائن وما سيكون حتى يرث الله الأرض ومن وما عليها.
وهذا التفسير لا يترتب عليه أي حرج عند من يقول به.
أما من قال إنه القرآن فإنه يضع نفسه في مأزق خانق للأنفاس.
فماذا يقولون لمن يسألهم عن أعداد الركعات في كل فريضة من الصلوات الخمس.
وماذا يقولون لمن يسألهم أين نجد في القرآن أنواع الأموال التي تجب فيها الزكاة؟
وماذا يقولون لمن يسألهم أين نجد في القرآن الأموال الربوية وغير الربوية؟
وماذا يقولون لمن يسألهم أين نجد في القرآن صيغة الأذان الذي يردد خمس مرات كل يوم وليلة؟!
إن هذه الأسئلة لا نهاية لها ولن يجدوا لها جواباً في القرآن الكريم مهما تكلفوا أو تماحكوا.
وحتى من قال من غير منكري مصدرية السُّنَّة في التشريع إن المراد من الآية يحتمل أن يكون القرآن قالوا.
إن القرآن احتوى على كليات التشريع لا تفصيلاته وإنما تركت التفصيلات للسُّنَّة فوقت بها حق الوفاء وكانت السُّنَّة – بهذا الاعتبار – مصدراً للتشريع عند هؤلاء المعتدلين المؤمنين بالله ورسوله، أما منكرو مصدرية السُّنَّة في التشريع فقد قضوا على أنفسهم بالجهل والسفه، أو بالجهالة والعناد.
كما استدلوا بقوله تعالى: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (سورة الحجر: 9).
ووجه الاستدلال بهذه الآية عندهم: أن الله تعهد بحفظ الذكر، وهو القرآن، ولم يتعهد بحفظ السُّنَّة فلو كانت السُّنَّة مصدراً تشريعياً مع القرآن لتعهد الله بحفظها كما تعهد بحفظ القرآن؟!
وهذا القول ينم عن جهل فاضح لا محالة، لأن السُّنَّة النبوية بيان أو تبيين للذكر، وفي ذلك يقول الحق عز وجل: { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } (سورة النحل: 44).
- اشتملت الآية على ثلاثة أعمال، هي:
- إنزال الذكر على محمد صلى الله عليه وسلم، وهذا العمل هو عمل الله عز وجل.
- تبيين الذكر للناس، وهو عمل النبي صلى الله عليه وسلم.
- العمل الثالث هو التفكير، وهو عمل الناس المنزل إليهم الكتاب، والصلة بين هذه الأعمال محكمة فالتنزيل ينشأ عنه التبيين، والتبيين ينشأ عنه التفكر وإقامة الحجة لله على الناس.
فدور الرسول – هنا – تبيين ما في التنزيل، وتبيين الرسول هو سنته القولية والعملية, ولولا هذه السنة ما عرف الناس للتفكر طريقاً.
ويترتب على هذا أن التبيين له عند الله ما للمبين، وهو الذكر، أو أن التبيين هو الذكر الثاني بعد القرآن، وحفظ هذا الذكر ضرورة من ضرورات الرسالة والتبليغ لذلك هيأ الله لسُّنَّة رسوله رجالاً أفذاذاً جمعوها ودونوها ونقوها من الدخيل والعليل، والمكذوب الموضوع.
ولولا عناية الله وحفظه لسُّنَّة رسوله، لأنها تبيين لكتابه العزيز لضاعت في ركام التاريخ.
ومن هذا يتضح أن الآية الحكيمة: { إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ } (سورة الحجر: 9). لا دليل فيها لمنكري حجية السنة مهما احتالوا. فالخيبة ملازمة لهم ملازمة ظلالهم لأجسادهم.
أما استدلالهم بأن السُّنَّة ظنية لا قطعية، فمردود عليهم لأن هذه "الظنية" كما توصف بها السُّنَّة يوصف بها كثير من أدلة الأحكام في القرآن:
لأن القرآن وإن كان قطعي الثبوت فدلالاته الاحتمالية أو الظنية لا تكاد تحصى. ولم يجرؤ أحد أبداً على القول بأن القرآن ليس مصدراً للتشريع فيما كانت دلالته احتمالية ظنية وهؤلاء يلزمهم أن يسووا بين ظنيات السُّنَّة، وظنيات القرآن، فإما أن يقروا بهما معاً فيهتدوا وإما أن ينكروهما معاً فيضلوا.
وإذا قالوا إن بين ظنيات القرآن وظنيات السُّنَّة فرقاً هو:
أن ظنيات السُّنَّة تكون في أصل الدليل، وهو الحديث، ثابت أم غير ثابت.
وظنيات القرآن لا تكون في أصل الدليل، وإنما في فهم معنى الدليل.
إذا قالوا هذا، قلنا لهم:
إن المعتبر في القرآن والسُّنَّة معاً هو النظر في الدلالة لا في أصل الدليل وحده، لأن ظنية الدليل يترتب عليها ظنية الدلالة.
فالمعول عليه في القرآن والسُّنَّة هو الدلالة المستفادة من الدليل (الآية – الحديث) فالأمر يؤول في النهاية إلى الدلالة. وظنية الدلالة كما توجد في السُّنَّة توجد في القرآن. فلماذا تفرقون بين المتساويين أيها المرجفون؟
إن الإصرارعلى الباطل، مع دلائل الحق، أمر يدعو إلى الإتهام بسوء النية والقصد، لا بالخطأ في الاستدلال. وهذا ديدن منكري السُّنَّة، منذ أول شبهة تصدينا لها من شبهاتهم إلى هذه الشبهة التي هي آخر مسمار في نعوشهم. ولكنه مسمار غليظ وستكوى به وجوههم وجنوبهم وظهورهم في نار جهنم.
حجية السُّنَّة:
لم تطاوعنا النفس أن نكتب "أدلة حجية السُّنَّة" لأن السُّنَّة ليست في حاجة – ورب السموات والأرض – إلى سوق أدلة على أنها حجة في الدين؛ لذلك اكتفينا بعبارة "حجية السُّنَّة" بدلاً من ذكر كلمة "أدلة" قبلها، لما عرفت من أن السُّنَّة ليست في حاجة إلى أدلة على إثبات حجيتها في الدين، بل في كل صغيرة وكبيرة في حياة المسلمين: أفراداً وجماعات، وشعوباً، وأمة.
ولكننا – من باب إلزام الخصم الجاهل العنيد – نذكر شيئاً من الحقائق الدامغة، التي تبين أن السنة أصل عظيم من أصول الدين، بل هي شطر الإيمان، ولا إيمان لمن يجحد سنة خاتم النبيين.
وهذه الحقائق إما من القرآن نفسه، الذي يدعي هؤلاء الزنادقة أنهم يؤمنون به – وحده – وإما من غير القرآن أما التي من القرآن فهي الحقائق الآتية:
{ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللَّهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً } (سورة النساء: 59).
أثبتت هذه الآية طاعة خاصة للرسول بعد طاعة الله وأوجبت عند النزاع في شيء الرد إلى الرسول بعد الرد إلى الله وقد أجمع علماء الأمة أن الرد إلى الله هو الاحتكام إلى كتابه العزيز وأن الرد إلى الرسول هو الاحتكام إلى سنته القولية والعملية ولو لم يكن في القرآن عن السُّنَّة إلا هذه الآية لما طلبنا مزيداً يثبت لنا حجية السنة.
{ وَمَا أَرْسَلْنَا مِن رَّسُولٍ إِلاَّ لِيُطَاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ } (سورة النساء: 64).
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة الرسل جميعاً سواء في ذلك طاعتهم فيما أنزل إليهم، وما قالوه هم، لأنهم معصومون من الخطأ في التبليغ، وإن كره الكافرون.
{ فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيمًا } (سورة النساء: 65).
وهذه الآية نص قطعي الثبوتوالدلالة علىوجوب طاعة رسولنا الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الإيمان لا يتحقق قط إلا بالإيمان به بعد الإيمان بالله، وتحكيم الرسول صلى الله عليه وسلم هو تحكيمه شخصياً في حياته، والاحتكام إلى سنته بعد وفاته حتى تقوم الساعة.
{ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالا مُّبِينًا } (سورة الأحزاب: 36).
وهذه الآية نص قطعي الثبوت والدلالة على وجوب طاعة الرسول مثل وجوب طاعة الله عز وجل. وطاعة الرسول الخاصة تكون باتباع سنته، ومن يحد عنها ضل ضلالاً ظاهراً.
{ وَمَآ ءَاتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ } (سورة الحشر: 7).
وهذه الآية نص إلهي محكم قطعي الثبوت والدلالة، يأمر الله فيها الأمة بطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم في ما أمر به وفيما نهى عنه.
أي الإيمان بسنته القولية والعملية، والاحتكام إليها إذا لم نجد الحكم في كتاب الله.
ولكن هؤلاء المرجفين، أو منكري السُّنَّة قد يملى عليهم الشيطان ليقولوا: إن المراد هو القرآن يبلغه النبي، وليس المراد سُّنَّة النبي؟ إذا قالوا هذا كان الرد المفحم عندنا جاهزاً، وهو قوله تعالى في شأن خصوم الدعوة:
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَى مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا } (سورة النساء: 61).
فقد أفرد الله رسوله بالمجيء إليه وإلى سنته، بعد أن أفرد المجيء إلى ما أنزله عليه وهو القرآن.
فهل بعد هذا يطلب مؤمن عنده ذرة من عقل دليلاً على حجية السنة من القرآن؟
الحقائق من غير القرآن:
ونعني – هنا – بغير القرآن أمرين:
الأول: موقف أهل الذكر من علماء الأمة.
الثاني: واقع الأمة في حياتها.
أما الأول فقد أجمع علماء الأمة على أن أدلة الأحكام المتفق عليها بينهم أربعة، هي:
الكتاب – السنة – الإجماع – القياس. فجعلوا السنة كما علموا من كتاب ربهم، هي مصدر التشريع الثاني بعد القرآن ولم يشذ منهم واحد عن هذا الإجماع، وهو المشار إليه في قوله تعالى: { وَمَن يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا } (سورة النساء: 115).
ثم أجمعوا – مرة أخرى – على علاقة السنة بالقرآن فحصروها في ثلاث:
- سنة مؤكدة لما في القرآن كتحريم الزنا، والربا.
- سنة شارحة لما في القرآن، كعدد ركعات الصلوات.
- سنة شارعة، بإذن الله، كتحريم الجمع بين البنت وعمتها أو خالتها في عصمة رجل واحد في وقت واحد، والشارع الحق هو الله. أما السنة فهي أمارة ذلك الشرع عن الله. رغم أنوف آباء ذر؟!
هذا هو إجماع الأمة، ولا يشذ عنه إلا هالك له سوء المصير.
وأما الأمر الثاني، وهو واقع حياة الأمة، فإن كل طاعة تقع منها لله فيها توجيه من كتابه وتوجيه من سنة رسوله الكريم، بل إن التوجيهات النبوية في أمور التكليف أكثر من التوجيهات القرآنية، ولولا السنة ما اهتدت الأمة إلى كيف تُصلي، وكيف تصوم، وكيف تُزكي، وكيف تحج, وكيف تبيع، وكيف تشتري، إن السنة هي روح الكتاب، والإسلام هو القرآن والسُّنَّة، ليس القرآن فحسب، وليس السنة فحسب ولن يُقبل الله إيمان من آمن بالقرآن وجحد السُّنَّة، ولا إيمان من آمن بالسنة وجحد القرآن. ولا عداء ولا منافرة بين كتاب الله وسنة رسوله.