البحث
الشبهة الثانية والعشرون : هداية السُّنَّة "ظرفية" لا دائمة؟!
مكر جديد يمكره منكرو السُّنَّة المعاصرون، هذا المكر وليد الحاضر، ولم يقل به أحد من منكري السُّنَّة القدامى. وفي عرضهم لهذه الشبهة يفرقون بين دلالة السُّنَّة، ودلالة الأحاديث النبوية. فالسُّنَّة – عندهم – هي حياة النبي، التي انتهت بوفاته، يعني أن السُّنَّة على هذا التعريف "الشيطاني" ماتت يوم مات الرسول، وبموت السُّنَّة توقف دورها في الهداية والتوجيه؟!
أما الأحاديث النبوية، التي بين أيدي المسلمين فيتخلصون منها، كما تخلصوا من السُّنَّة، فيقولون: أنها ليست كلام النبي صلى الله عليه وسلم، بل هي مفتراه عليه؟!
ويعودون لبيان السُّنَّة فيقولون أنها فهم "شخصي" خاص بالنبي لما في القرآن. العمل به مقصور على فترة زمنية محددة هي حياة النبي من يوم بعثه الله رسولاً إلى يوم أن توفاه الله فدور السُّنَّة كان مرتبطاً بزمن معين، وهذا هو معنى "ظرفية السُّنَّة" عندهم.
باختصار شديد: يريدون محو كل أثر قولي، أو فعلي، أو تقريري لصاحب الرسالة صلى الله عليه وسلم.
ويزعمون أن فهم النبي – صلى الله عليه وسلم – للقرآن ملزم لغيره ممن جاء من أجيال الإسلام، بل لكل جيل أن يفهم القرآن فهماً جديداً خاضعاً للظروف والأحوال، فما كان من السُّنَّة في القرن السابع الميلادي في شبه جزيرة العرب لا يصلح للقرن العشرين، ولا لمكان آخر غير شبه الجزيرة. فالزمان والمكان عاملان في نتاج أفكار جديدة متطورة. أما الاحتكام إلى ما فهمه النبي وأصحابه من القرآن في زمانهم ومكانهم فهذا "تحنيط للإسلام"؟!
ويدعون أن النبي وأصحابه لم يدونوا السُّنَّة والحديث لأنهم يعلمون أن السُّنَّة والحديث مرتبطان بزمانهم ومكانهم فقط، ولا يصلحان لزمان آخر ولا لمكان آخر، لذلك تركوا تدوين السُّنَّة حتى لا يتسببوا في إرباك من يجيء بعدهم من المسلمين؟!
هذه السواقط، وغيرها، كان أول من تولى كبرها في العصر الحديث مهندس سوري شيوعي (محمد شحرور) من الذين درسوا في جامعات روسيا، أيام كان الاتحاد السوفيتي يضع في كل غرفة في المدن الجامعية فتى وفتاة يعيشان في الغرفة معاً، وكأنهما زوجان؟! (ينظر الكتاب والقرآن 541 وما بعدها).
وردت هذه "السواقط" في كتاب ضخم له دعاه: (الكتاب والقرآن. قراءة معاصرة) يقارب ألف صفحة من القطع الكبير، ثم صار هذا الكتاب مرجعاً الذين نواجه شبهاتهم في هذه الدراسة.
تفنيد هذه الشبهة ونقضها:
قليل من النظر الواعي حول ما بيبناه من هذه الشبهة، يريك أن هؤلاء المرجفين يركزون على أمرين:
الأول: أن السُّنَّة هي الفهم الشخصي للنبي صلى الله عليه وسلم لما أنزل الله عليه في القرآن، يعني نوعاً من تفسير القرآن صدر عن النبي مع حصر السُّنَّة في أنها (حركة حياة الرسول)؟!
الثاني: أن السُّنَّة – بهذا المعنى – لا بد أن تكون ظرفية مقصورة على مرحلة تاريخية من مراحل التاريخ الإسلامي، وهي من بدء الرسالة إلى وفاة الرسول.
هذان الأمران كانا تمهيداً أو وسيلة لهدف آخر ضخم: هو أن معاني القرآن قابلة للتطور – دائماً – ولو من النقيض إلى النقيض، وأن لكل جيل حق فهم القرآن حسبما يرى وما تمليه عليه الظروف غير ملزم بفهم من سبقه للقرآن، حتى لو كان النبي وصحبه؟! وهذا – منهم – زيادة توكيد وتأصيل لقاعدة مدمرة وضعوها وأخضعوا لها القرآن كله. وهي:
"القرآن ثابت الأصل، متغير المحتوي" يعني أسلوب القرآن لا يغير ولا يبدل، ولكن معانيه تتغير وتتبدل من عصر إلى عصر ومن مكان إلى مكان، بل ومن شخص وآخر.
فمكر منكري السُّنَّة هنا، ليس مقصوراً على السُّنَّة بل هو شامل للقرآن كذلك.
وهذا كله غثاء في غثاء فلا السُّنَّة مرحلة مخصوصة من مراحل التاريخ الإسلامي، بدأت وانتهت، ولم تعد صالحة للحياة، ولا هي غير الحديث النبوي:
فالسُّنَّة حديث، والحديث سنة، وما يقوله منكرو السُّنَّة في هذا المجال وهم من أوهى الأوهام.
ولا القرآن متغير المحتوى، من النقيض إلى النقيض. هذه الدعوى لو أدركها المجنون لأنكرها.
وقد أعطى شحرور نماذج لتغيير المحتوى في مفاهيم الشريعة وقيمها ففي العبادات قال إن أقل قدر منها يرضي الله، ولو اكتفى المسلم بصلاة ركعتين في اليوم بدلاً من سبع عشرة ركعة موزعة على خمس صلوات واجبات.
وفي لباس المرأة قال إن أقل ما هو مطلوب، وأنه يرضي الله من المرأة إذا فعلته هو أن تستر "العورتين المغلظتين" ولها أن تظهر بعد ذلك خارج بيتها عارية لا تغطي شيئاً من بقية الجسد؟!
ونحا نحوه كاتب علماني من منكري السُّنَّة طالب بأن تعتبر الأمة احتساء الخمور والزنا أفعالاً مباحة لا عقاب ولا لوم فيها شرعاً وقانوناً، اقتداء بالمجتمع الأمريكي، وبخاصة في تعامله مع فسق كلينتون – مونيكا، حيث عوتب على كذب الرئيس الأمريكي أما فسقه وزناه فلم يكونا موضع مؤاخذة في ذلك البلد المتحضر؟!
كما فسر قطع يد السارق الوارد في صريح القرآن بأنه حبس اليد وصاحبها في السجن (ينظر روز اليوسف 1/5/1999م).
إن المسألة إِذنً مسألة عبث، أو إزالة للإسلام كله، وليست مسألة "تحنيط" للسُّنَّة النبوية، وهي روح القرآن بلا جدال، ومفاتيح كنوزه التي لا تنفد.
إن سنة النبي – صلى الله عليه وسلم – سواء في ذلك القولية والعملية ليس فيها شيء قابل للتحنيط، أو العزل عن حياة المسلمين؛ لأنها مصابيح هدى في قلوب الأمة كالروح في الجسد.
وصلاحية السُّنَّة لكل عصر ومصر أمر لا ريبة فيه وهي ظاهرة صالحة للعرض والاختبار الآن، وفي كل لحظة، سواء أُخِذَتُ العينة من العقائد، أو العبادات، أو المعاملات، أو الأخلاق.
أي مثال من السُّنَّة، ومن هذه المجالات إذا نظرت فيه بوعي تجده يمزق حدود الظرفية الزمانية، والمكانية، التي يدعي منكرو السُّنَّة تقييدها بها:
خذ إليك – مثلاً – قوله صلى الله عليه وسلم:
""لَا تَكُونُوا إِمَّعَةً تَقُولُونَ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَحْسَنَّا، وَإِنْ ظَلَمُوا ظَلَمْنَا، وَلَكِنْ وَطِّنُوا أَنْفُسَكُمْ: إِنْ أَحْسَنَ النَّاسُ أَنْ تُحْسِنُوا، وَإِنْ أَسَاءُوا فَلَا تَظْلِمُوا". رواه الترمذي في با البر والصلة عن حذيفة.
تأمل المعاني السامية التي تتجلى في هذا التوجيه النبوي الرفيع أنه يدعو إلى ما يسمى الآن بـ"قوة الشخصية" واستقلالها، وأن لا تكون الأمة، ولا فرد منها عبداً للتقليد الأعمى، تعيش فاقدة التمييز والإرادة، لا بصر لها بالأمور. تجري وراء كل ناعق، لا تملك أن تقول (لا) ولا تملك أن تقول (نعم) وإنما تسلس قيادها لغيره، فتلغي وجودها من الحياة.
ومن كان هذا شأنه فهو في عداد الحيوانات العجماوات المدربات على الخسف والإذلال.
ولن تستطيع الأمة أن تحدد لها مواقف خاصة بها، إلا بعد وعي وبصر بحقائق الأمور، لتعرف متى تقول "لا" ومتى تقول "نعم"
والفرد مثل الأمة في هذا الميدان، إما أن يكون كالريشة، تعبث بها الرياح كيف تشاء، أو يكون كالجبل الأصم، لا تنال منه عوامل المحور والقرض والتعرية.
فقل لي بربك: هل هذا التوجيه النبوي السديد، وهل هذه التربية الراشدة لم تكن صالحة إلا في حياة النبي صلى الله عليه وسلم، أم هي صالحة لكل الأزمنة، ولكل الأمكنة مهما تباعدت عن زمن النبوة وموطنها الأول.
إن أُمتنا الآن انتابتها حالة مفزعة من الضياع، حين صارت "إمعة" لا موقف لها ولا رأي، حتى في الأمور التي تراد بها هي نفسها. وقد قوي ضعفها من تبعيتها المهينة لمن لا يرعى فينا عهداً ولا موثقاً.
ومثل آخر، هو قوله صلى الله عليه وسلم:
"أحب الناس إلى الله أنفعهم للناس" رواه ابن أبي الدنيا والأصبهاني هذا الحديث من جوامع الكلم كما ترى، وقد أورده النبي صلى الله عليه وسلم في صدر حديث جواباً عن سؤال وجه إليه، ولم نذكر بقيته اختصاراً.
وهو – كما ترى – تفجير لطاقات الخير الكامنة في أهل المرءوة والفضل من الناس. وحين يتمكن هذا التوجيه في القلوب تصبح الحياة ساحة للتنافس في صنع الخير، ليكون صانع الخير مع الناس أحب عباد الله إلى الله، وفي شيوع الخير في المجتمع محو للشرور والأنانية البغيضة، التي تولد الضغائن بين الناس، حتى يصبح كل إنسان حرباً على الآخر، ويزول كل طعم جميل للحياة. ونسأل منكري السُّنَّة هذا السؤال ونتركه بلا جواب، لأنه معروف.
هل هذا الحديث أصبح الآن "عملة زائفة" أم هو روح فياضة بالتراحم والتآلف؟.
* * *