1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ

مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ

الكاتب : الدكتور محمد بكر إسماعيل
2068 2019/10/10 2024/03/19

 

 
عَنْ عَائِشَةَ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – عن النَّبِيِّ – اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ، وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيه فَلَا يَعْصِهِ".
النذر في عرف الفقهاء هو: "إيجاب ما لم يجب من القربات".
 
وهو عبادة قديمة نبأنا القرآن بها حكاية عن امرأة عمران – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا –.
 
فقال جل شأنه: { إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ } (آل عمران: 35).
 
وأمر الله – عز وجل – مريم به على لسان جبريل – عليه السلام –، أو على لسان ولدها عيسى وهو في مهده.
 
قال – جل شأنه: { فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا } (مريم: 26).
 
الصوم: هو مطلق الإمساك عن الكلام وغيره، وكان الإمساك عن الكلام – فيما يبدو والله أعلم – نوعاً من العبادة، لما فيه من صيانة اللسان عن لهو الكلام ولغوه.
 
والنذر من الأمور المباحة على الجملة، بشرط أن يكون فيه قربة إلى الله تعالى.
 
يدل على إباحته قوله تعالى: { وَمَا أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَمَا لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصَارٍ } (البقرة: 270).
 
وقوله جل شأنه: { ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَلْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَلْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ } (سورة الحج: 29).
 
والتفث: هو الحج.
وقال – عز من قائل – في وصف الأبرار: { يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا } (سورة الإنسان: 7).
 
وقال – تبارك وتعالى – في وصف المجاهدين: { مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا } (سورة الأحزاب: 23).
 
والنحب في الآية: النذر، كما قال أكثر المفسرين.
 
وأحياناً يكون النذر مندوباً، كأن يكون تعبيراً عن شكر العبد لله تعالى على نعمة من نعمه.
 
وأحيانا يكون مكروهاً، إذا علقه على شيء يبتغيه من ربه – عز وجل –، كأن يقول: إن شفاني الله لأذبحن كبشاً، أو لأصلين مائة ركعة، أو لأصومن يومين في الأسبوع؛ فإن في ذلك إساءة أدب مع الله، فلا ينبغي أن ينذر المسلم لله نذراً ليدرك شيئاً لم يقدره الله له، أو يدفع شيئاً قد قدره الله عليه.
 
والوفاء بالنذر واجب؛ لا ينعقد نذره، ولا يجب الوفاء به، كما هو مقتضى هذا الحديث الذي نحن بصدد بيان معانيه ومراميه.


فقوله – – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – : "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ".
 
معناه: أنه من تطوع بنذر يتقرب به إلى الله – تبارك وتعالى -، وكأن نذره من الطاعات المندوبة شرعاً فليوف به ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، فإنه دين في ذمته لا يسقط عنه إلا في حالة العجز عن تأديته.
 
هذا، ولا نذر في واجب؛ لأن ذلك من باب تحصيل الحاصل؛ فإن النذر يقتضي الوجوب، فكيف يندر المسلم شيئاً هو واجب عليه.
لكن إذا نذر أن يؤدي الواجب على النحو الأكمل مع ما في ذلك من المشقة جاز ووجب الوفاء به. كأن يقول: لله علي نذر أن أصلي الصلوات كلها في أول وقتها مع الجماعة، أو يقول: لله على نذر أن أحج في هذا العام، فلا أرفث ولا أفسق ولا أجادل في الحج – وكان مستطيعاً؛ فإن الحج واجب عليه لكن ليس على الفور، فكونه قد نذره في عامه هذا يعتبر مبالغة في التقرب إلى الله – تعالى – لتأدية الواجب فوراً على النحو الأكمل.
 
ومن هذا البيان نفهم أن قوله– صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "مَنْ نَذَرَ أَنْ يُطِيعَ اللَّهَ فَلْيُطِعْهُ" مراد به تأدية الأمور المستحبة، أو تأدية الواجبات بأوصاف يعينها من وجبت عليه؛ زيادة في التقرب إلى الله تعالى، وتأديباً لنفسه الأمارة بالسوء، وكبحاً لجماح هواه.

 
فالرسول – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يُعين من أراد أن يبالغ في الطاعة على نفسه وشيطانه وهواه، وكأنه يقول له: احرص على الوفاء ينذرك، ولا يصدنك الشيطان عما عزمت عليه، وأكدته بالنذر الذي هو كاليمين في وجوب الوفاء.

 
وليكن الناذر عند وعده، فلا ينبغي أن يتكاسل أو يتباطأ، أو يتخاذل عن الوفاء؛ فإنه لو قصر في الوفاء بنذره لا يكون من الأبرار الذين وعدهم الله وعداً حسناً، وأجزل لهم العطاء في قوله – جل وعلا - : { إِنَّ الْأَبْرَارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كَانَ مِزَاجُهَا كَافُورًا ...} إلى قوله: { إِنَّ هَذَا كَانَ لَكُمْ جَزَاءً وَكَانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُورًا } (سورة الإنسان: 5-22).
وقوله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ –: "وَمَنْ نَذَرَ أَنْ يَعْصِيه فَلَا يَعْصِهِ".
 
نهي صريح عن الوفاء به؛ لأن الوفاء به يتنافى مع الوفاء بحق الله – تعالى –، فلا يكون قربة، بل يكون ذنباً.
 
وهو يتضمن – أيضاً – النهي عن نذر المعصية أصلاً لكن بطريق ضمني، بمعنى أنه عبث يجب أن يتنزه المسلم عنه، وسوء أدب مع الله – عز وجل – وجرأة عليه.

 
فمن غرته نفسه فنذر أن يقطع رحمه فلا يفعل؛ لأن قطيعة الأرحام من أكبر المعاصي، وكذلك من نذر أن يقسو على نفسه بلا داع يقتضيه، كأن يقول: لله علي نذر أن أحج ماشياً، أو أصلي في مسجد البلد الفلاني، وهو بعيد عنه مسافة القصر، إلى آخر ما هنالك من الأمور التي هي إلى المعاصي أقرب منها إلى الطاعات، فإن الله – عز وجل – يقول: { يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ} (سورة البقرة: 185).

 
فلا ينبغي أن يشق على نفسه بفعل شيء لا طاقة له به، أو كان فعله مما يحرجه، ويجلب عليه العسر في أمر معاشه، أو يجر عليه من الأمراض والعلل ما يثقل عليه تحمل، فالنذر – كما عرفنا – قربة من القربات، ولا قربة في معصية ولا في أمر خارج عن نطاق الأمور المستحبة شرعاً.

 
روى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عن عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده أن النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قال: "لَا نَذْرَ إِلَّا فِيمَا ابْتُغِيَ بِهِ وَجْهُ اللَّهِ".
 
وروى البخاري وابن ماجه وأبو داود عن ابن عباس – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا – قال: بَيْنَمَا النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْطُبُ إِذَا هُوَ بِرَجُلٍ قَائِمٍ، فَسَأَلَ عَنْهُ قَالُوا: أَبُو إِسْرَائِيلَ نَذَرَ أَنْ يَقُومَ فِي الشَّمْسِ وَلَا يَقْعُدَ وَلَا يَسْتَظِلَّ، وَلَا يَتَكَلَّمَ، وَأَنْ يَصُومَ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ "مُرُوهُ فَلْيَتَكَلَّمْ وَلْيَسْتَظِلَّ وَلْيَقْعُدْ وَلْيُتِمَّ صَوْمَهُ".
 
وروى البخاري ومسلم عن عقبة بن عامر – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ – قال: "نَذَرَتْ أُخْتِي أَنْ تَمْشِيَ إِلَى بَيْتِ اللَّهِ فَأَمَرَتْنِي أَنْ أَسْتَفْتِيَ لَهَا النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَاسْتَفْتَيْتُهُ فَقَالَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِتَمْشِ وَلْتَرْكَبْ".
 
أي: لتمش بقدر طاقتها مسافة لا يشق عليها المشي فيها، ولتركب إذا تعبت، فكأنه – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يخيرها في ذلك، ويحب لها أن تأخذ باليسر فتركب؛ فإن المشي ليس قربة إلى الله – تبارك وتعالى – وإنما الحج هو القربة؛ فليكن بما تيسر.
 
وروى أحمد في مسنده وأبو داود في سننه عَنْ كُرَيْبٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا  قَالَ:" جَاءَتْ امْرَأَةٌ إِلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَتْ يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ أُخْتِي نَذَرَتْ أَنْ تَحُجَّ مَاشِيَةً فَقَالَ" إِنَّ اللَّهَ لَا يَصْنَعُ بِشَقَاءِ أُخْتِكِ شَيْئًا لِتَخْرُجْ رَاكِبَةً وَلْتُكَفِّرْ عَنْ يَمِينِهَا".
 
فقد اعتبر النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – النذر في هذه الحالة يميناً يجب أن تكفر عنه إن حنثت فيه، بإطعام عشرة مساكين أو كسوتهم، أو تصوم ثلاثة أيام، إن لم تجد ما تطعم به وتكسو.
 
والله – عز وجل – رءوف رحيم يعفو ويصفح عن كثير.
يقول – جل شأنه: { مَا يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذَابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَآمَنْتُمْ وَكَانَ اللَّهُ شَاكِرًا عَلِيمًا } (سورة النساء: 147).
ويؤخذ من هذا الحديث فوق ما تقدم: أن نذر المعصية لا يجوز ابتداء، ولو وقع لا ينعقد، ولا يجب الوفاء به، وفاعله يُعد عاصياً على كل حال؛ لما فيه من الجرأة، وسوء الأدب مع الله – تعالى–.
 
وكأني برسول الله – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يكره النذر في الطاعة لما فيه من كلفة بإيجال ما لم يجب، ولكنه مباح على الجملة كما ذكرنا، فمن نذر فليوف بنذره.
 
والحديث منصب أساساً على النهي عن نذر المعصية، لكن قد مهد له بنذر الطاعة؛ ليكون الكلام مقنعاً والنهي مؤكداً بفعل ضده، وهو الوفاء بنذر الطاعة.
 
والشيطان قد يغري الإنسان بالنذر، فإذا ما نذر قربة حاول جهده أن يصده عنها، فيحزنه بذلك، ويحرجه، ويضعف من همته، ويشغله عن المضي في طاعة ربه، ويجعله نادماً على نذره هذا.
 
لذلك أوصى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أن يحمل المرء نفسه على الأخذ باليسر في أمره كله، فقال: "اكْلَفُوا مِنْ الْأَعْمَالِ مَا تُطِيقُونَ فَإِنَّ اللَّهَ لَا يَمَلُّ حَتَّى تَمَلُّوا".
 
وقد تقدم شرح هذا الحديث.
لكن من نذر شيئاً وهو قادر على الوفاء به فليبادر بالوفاء؛ فإنه لا يدري متى يموت، والنذر دين في ذمة صاحبه – كما أشرنا من قبل – ودين الله أحق بالقضاء.
 
والقضاء على الفور أولى من التراخي فيه، ولا شك أنه من تخفف من أعمال الواجبات أولاً بأول انشرح صدره أكثر وأكثر للمزيد من العمل الصالح, وخلا قلبه من الشبهات والوساوس الشيطانية، واطمأن بذكر الله، وازداد شكراً له على نعمة التوفيق.
 
والإنسان فقيه نفسه، فمن الحكمة ألا يتكلف ما يشق عليه، ولكن يأخذ نفسه باليسر والسداد في القول والعمل بقدر وسعه.
والله هو الهادي إلى سواء السبيل.

 

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day