1. المقالات
  2. من وصايا الرسول صلى الله عليه وسلم
  3. أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ

أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ

الكاتب : الدكتور محمد بكر إسماعيل
4673 2019/10/17 2024/11/15

 
عَنْ عَائِشَةَ قَالَتْ – رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا – أَنَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قال: "أَعْلِنُوا هَذَا النِّكَاحَ وَاجْعَلُوهُ فِي الْمَسَاجِدِ وَاضْرِبُوا عَلَيْهِ بِالدُّفُوفِ".
النكاح عقد مقدس وميثاق غليظ، يأخذه كل من الزوجين على الآخر، بمقتضاه يباح لهما أن يستمتع كل منهما بصاحبه في الحدود التي حدها الله عز وجل.
 
وهو سنة من سنن الفطرة وضرورة من ضرورات الحياة، به تتوثق الصلات بين الأسر والمجتمعات وبه يحفظ النسل، وبه تعمر الأرض.
 
والشأن في هذا العقد أن يكون معلناً مشتهراً بين الأهل والجيران ومن في حكمهم ممن له صلة بالمتعاقدين، حفظاً للأسباب والحرمات من القيل والقال.
 
لهذا أوصى النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – أهل الزوجين أن يعلنوا عنه بالوسائل المعروفة في عصرهم وفي الأماكن التي يرتادونها في عبادتهم.
 
وهي وصية تساير الفطرة ولا تنحرف عنها، وتوافق الطباع السليمة ولا تتناقض معها، وتتجاوب مع الغرائز البشرية المعتدلة ولا تكبتها، وتتعاطف مع الأعراف المستقيمة ولا تنفر منها، والإسلام – كما نعلم – هو دين الفطرة ومنهج الحياة.

وهذا الحديث يشتمل على ثلاث وصايا متلازمة.
 
الوصية الأولى: إعلان النكاح بالطرق المشروعة وهي كثيرة ومعروفة، وللناس عادات موروثة في إشهار النكاح، أقر الإسلام ما كان منها حسناً وأنكر ما كان منها قبيحاً.
 
والإنسان إذا بقى على فطرته، فإنه يقر الحسن وينكر القبيح بعقله وقلبه، فالبر "مَا سَكَنَتْ إِلَيْهِ النَّفْسُ وَاطْمَأَنَّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ، وَالْإِثْمُ مَا حَاكَ فِي الصَّدْرِ وَكَرِهْتَ أَنْ يَطَّلِعَ النَّاسُ عَلَيْهِ وَإِنْ أَفْتَاكَ النَّاسُ وَأَفْتَوْكَ" كما قال الرسول صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
 
والنفوس السوية والقلوب المطمئنة هي التي تميز الخبيث من الطيب، وتدرك حسن ما هو حسن وقبح ما هو قبيح.
 
أما النفوس المنحرفة والقلوب المريضة، فإنها لا تُحكم في شيء؛ لخروجها عن الفطرة التي فطر الله الناس عليها.
 
والوصية الثانية: بيان للمكان الذي يُعلن فيه النكاح، وهو المساجد التي يجتمع فيها الصالحون في كل صلاة، وهي أفضل بقاع الأرض وأشرفها، وعقد النكاح كذلك من أفضل العقود وأشرفها، فلا عجب أن يأمر النبي – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – بجعله فيها.
 
وفي ذلك من الفوائد ما فيه.
 
ومنها: أن الله – عز وجل – يبارك هذا العقد، ويمن على المتعاقدين بحسن الصحبة ودوام العشرة، ويزيدهما مودة ورحمة.
 
وهناك فائدة أخرى لا يكاد الناس ينظرون إليها، وهي أن الزوجين يتعاهدان في بيت الله على الصدق والإخلاص وحسن العشرة أمام الله عز وجل في أحب البقاع إليه، فيخرجان من المسجد تغمرهما السكينة والوقار، ويجدان في أنفسهما قبولاً حسناً لا يجدانه لو عقد النكاح في غيره، ويظل كما منهما على ذكر من هذا المكان المهيب، الذي تم العقد فيه، فيتجدد بينهما الود ويتعمق الحب.
 
وإذا غضب أحدهما من الآخر، عاودته الذكرى، فخففت من غضبه وحدت من ثورته، وقال كل منهما للآخر بلسان الحال أو المقال: ألسنا قد تعاقدنا وتعاهدنا في بيت من بيوت الله على الصدق والإخلاص والتفاهم فيما بيننا.
 
ألسنا قد أشهدنا أولئك الأخيار، الذين كانوا معنا في المسجد، ومنهم فلان وفلان.
 
إننا لم نعقد هذا العقد في مكان ماجن تحل فيه الشياطين، ولكننا تعاقدنا في مكان هو من أطهر الأماكن على وجه الأرض، وقد بارك الله هذا العقد وأيده من فوق سبع سماوات، فلنكن على العهد، ولنحافظ على هذه الصلة الوثيقة ما استطعنا؛ رعاية لحق الزوجية وحق الله، الذي عقدنا العقد في بيت من بيوته أولاً.
 
وأي زواج بدأ بالطاعة والتقرب إلى الله، فإنه عروة لا تنقصم إن شاء الله، فليستبشر كل عروسين بالعقد وبالمكان الذي تم فيه، فالسرور كل السرور في طاعة الله والاتجاه إليه في أمره كله.
 
ولا شك أن شهادة من في المسجد ليست كشهادة من في النادي أو في الفندق أو في المنازل، فإن العقد يتم دائماً عقب صلاة من الصلوات، ويكون أكثر الناس على وضوء، وقد أكثروا من ذكر الله والدعاء.
 
ولا شك أن الدعاء في المسجد للعروسين يكون أفضل من الدعاء في غيره من الأماكن. فللدعاء أوقات وأماكن يكون فيها أقرب إلى الإجابة. ومنها المساجد وعقب الصلوات.
 
قد عرفنا إذا لماذا أمر النَّبِيِّ – صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يجعل عقد النكاح في المساجد، ولكن يجدر بنا أن نشير إلى الآداب التي ينبغي أن تراعي عند إجراء العقد فيها فنقول:
 
ينبغي فصل النساء عن الرجال، بحيث يكون كل منهما في مكان؛ درءاً للفتنة، ودفعاً للشبهة.
 
وينبغي ألا ترتفع الأصوات فيه جداً بالأحاديث الدنيوية ولا بالضحك السخيف.
 
وينبغي أن تنزه المساجد عن كل ما يلوثها من أطعمة وأشربة وغيرها، فإن كانت هذه الأطعمة والأشربة محفوظة في معلبات لا يتساقط منها شيء على بسط المسجد، فلا تمنع، بل تكون تعبيراً عن حفاوة أهل العروسين بالحضور، وتتعبيراً عن سرورهما بهذا العقد المبارك، ولا يخفى ما فيه من معاني الهدية والهبة والصدقة والوليمة ونحو ذلك من القرابين وأنواع التحية.
 
ولا بأس باستخدام آلات التصوير؛ لكي يحتفظ العروسان بهذه الذكرى فيعاودان النظر إلى ما استخرجوه من صور في هذه المناسبة، فيتجدد سرورهما وينتشى كل منهما بالآخر وتنبعث المشاعر من كوامنها ويكون النظر إلى هذه الصور بمثابة تأكيد للعهد وتجديد لبيعة المرأة للرجل بالقوامة، وهي تتمثل في التبعة والمسئولية.
 
ولا يقولن قائل: إن التصوير حرام، فهذا ليس على إطلاقه، وإنما الحرام هو التصوير المجسم من ذوات الأرواح، كالتماثيل ونحوها مما له ظل، أما الصور الفوتوغرافية فلا أشك في حلها.
 
وكونها في المسجد لا يتناقض مع حرمته أبداً، فهو لا يعدو أن يكون شرارة كهربائية تلتقط معها الصورة في لمح البصر.
 
وسيأتي تفصيل واسع بالأدلة عن حكم التصوير في موضع آخر إن شاء الله تعالى.
 
وإذا عبرت المرأة عن مشاعرها بالزغاريد، فلا ينبغي أن نكبت مشاعرها في هذا الموقف الذي دفعها إلى ذلك، ولكن نُعَلمها فيما بعد ألا تعود لمثل ذلك، فإن منعها في هذا الحال يبغض الناس رجالاً ونساء في أي يعقدوا الزواج في المساجد، ويتهمون من ينهي عن ذلك بالتزمت والتشدد والتنطع، بل ربما اتهموا الإسلام نفسه بذلك.
 
وقد تكون المرأة حديثة عهد بدخول المساجد، فيصدها هذا الذي كبت مشاعرها – في وقت لا ينبغي فيه كبت المشاعر – عن ارتياده والحضور إليه في مثل هذه المناسبة ولا غيرها.
 
والعقلاء من الدعاة والمرشدين يتغاضون عن مثل هذه الأمور إلى حين، ويشغلون أنفسهم بما هو أهم وأخطر.
 
ولو حاولنا أن ندعو الناس إلى التمسك بكل صغيرة وكبيرة ما استطعنا ذلك، فلنوجه عنايتنا أولاً إلى ما يحمي العقيدة الإسلامية من الشبهات والأهواء، ويحفظ الأخلاق السوية من التخبط والانحراف، والتقليد الأعمى للغربيين والشرفيين.
 
والوصية الثالثة: هي الأمر بضرب الدفوف، ويكون في غير المساجد قطعاً.
 
والأمر فيه الاستحباب لا للوجوب، ولكن الأمر بجعل العقد في المساجد سنة، والسنة آكد من المستحب.
 
والأمر بضرب الدفوف خاص بالنساء على المشهور من أقوال العلماء.
 
وقيل هو عام، والأصح الأول والله أعلم.
 
والدفوف جمع دف، وهو آلة من جلد مستدير على خشب خفيف يشبه الغربال من غير جلاجل ويسميه بعض العرب: بالغربال، كما ورد في بعض ورايات هذا الحديث.
 
ويسمى عندنا في مصر بالطار
 
ويقاس على الدفوف الطبول كما قال بعض العلماء.
 
والحد الذي يوقف عنده أن يكون التعبير عن السرور بما لا يتعارض مع النصوص الشرعية بأي حال من الأحوال.
 
وفي الحديث الذي بعده مزيد بيان لهذه المسألة.
وقد سألني طالب من طلاب العلم عن اسم الإشارة في هذا الحديث، ما فائدته وما السر في ذكره مع أن المعنى يتأدى بدونه، فيقال: "أَعْلِنُوا النِّكَاحَ"؟.
 
فأجبته بأن علماء البلاغة يقررون أن اسم الإشارة إنما يؤتي به لما هو مشاهد بالحس على الحقيقة، وأحياناً ينزل غير المشاهد منزلة المشاهد على سبيل المجاز؛ مبالعة في جلب الانتباه إليه والحث على طلبه والعناية به ونحو ذلك من المقاصد التي يعنيها المتكلم من كلامه، كقوله تعالى: { إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ } (سورة الإسراء: 9). فالإشارة فيه للتفخيم وحث الناس على تدبره والعمل بما فيه.
ويسألني آخر عن نكاح السر. هل هو جائز شرعاً، ومتى يخرج النكاح عن السرية إلى حيز الظهور والاشتهار، وما الفرق بينه وبين اتخاذ الأخدان الوارد في قوله تعالى: { وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ }، وما الفرق بينه وبين الزواج العرفي؟
 
والجواب: أن نكاح السر لا يجوز شرعاً؛ لأنه يشبه الزنا، بل يكون هو الزنا نفسه إذا خلا من الشاهدين وإذن الولي.
 
فإذا شهد على العقد شاهدا عدلٍ وأذن الولي فيه، لم يعد سراً، ولكن الإشهار أولى وأفضل.
 
والمالكية يعتبرون أن الإشهار في النكاح شرط كمال، وليس من الضروري أن يعلمه الكثير من الناس، بل يكفي أن يعلمه الأهل والأقارب والجيران أو أكثرهم.
 
وتوثيق العقد في المحاكم الشرعية يقوم مقام الإشهار في هذا العصر، ولكن للإشهار فائدة وهي قطع الألسنة عن القيل والقال كما سبق بيانه.
 
وأما نكاح الأخدان فهو زنا قطعاً، حرمه الله بقوله في سورة النساء: { فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَنَاتٍ غَيْرَ مُسَافِحَاتٍ وَلَا مُتَّخِذَاتِ أَخْدَانٍ } (آية: 25).
 
وقوله تعالى في سورة المائدة: { وَلَا مُتَّخِذِي أَخْدَانٍ } (آية: 5).
والخدن: هو صديق السر، يصحب المرأة ويزني بها سراً.
 
قال القرطبي في تفسيره: كانت العرب تعيب بالزنا ولا تعيب اتخاذ الأخدان، ثم رفع الإسلام جميع ذلك، وفي ذلك نزل قوله تعالى: { وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ } (سورة الأنعام: 151) روى ذلك عن ابن عباس وعيره. أ.هـ.
 
أما الزواج العرفي فهو الذي ينعقد بين رجل وامرأة سراً بإذن الولي أو بغير إذنه بشاهدي عدل أو بغيرهما.
 
وتسميته زواجاً عرفياً غير دقيق، إلا أنهم أطلقوا عليه ذلك في مقابل الزواج الموثق في المحاكم الشرعية.
 
وهذا الزواج إن كان قد تم بإذن الولي وبشاهدي عدل، فهو صحيح وإن لم يشتهر، وإلا فهو زنا.
 
وهذا الزواج له مخاطره الكثيرة.
 
فقد يترك الزوج زوجته معلقة لا هي متزوجة ولا هي مطلقة، وتطلب الطلاق منه بكل حيلة فلا يستجيب لها، فلا تستطيع أن ترفع أمرها للقاضي؛ لعدم وجود الوثيقة الرسمية، وهو أمر بالغ الضرر، وقد يساومها على الطلاق بكل ما لديها من مال.
 
وقد تنجب منه أولاداً لا ينفق عليهم، وتقاضيه في المحاكم الشرعية فيروغ منهما كما يروغ الثعلب.
 
ومن ناحية أخرى قد تتزوج رجلاً غيره زواجاً عرفياً.
 
وربما تتزوج برجلين أو ثلاثة أو أربعة، فما الذي يمنعها من ذلك مادامت على غير خلق ودين!!.
ومشكلات الزواج العرفي لا تنتهي إلى حسم، ولا تقف مخاطره عند حد، وليس هناك من سبيل إلا الزواج المعلن الموثق في الأوراق الرسمية.
 
ومن المؤسف أنني رأيت بعض الجماعات يعقدون الزواج في المساجد ويشهرونه فعلاً بالوسائل المباحة، ولكن لا يوثقونه في الأوراق الرسمية.
 
فإن سألتهم عن ذلك قالوا: الحكومة كافرة، وتوثيق الزواج في سجلاتها يعتبر موافقة لها على الكفر، إلى غير ذلك من الهوس الفكري.
 
وبعد، فهذا ما وسعني ذكره في هذه الوصية، والله هو الهادي والموفق إلى سواء السبيل.

المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day