البحث
الفصل الخامس : نواقض الإيمان بالنبي ﷺ الجزء الثالث
المبحث السادس: اتباع الصحابة لنبيهم في اجتناب الغلو في الأنبياء والصالحين
وقد سار الصحابة رضوان الله عليهم على هدي نبيهم في التحرز من الغلو في الأنبياء والصالحين ، ومن ذلك تعميتهم لقبـر «دانيال» وهو نبـي من أنبـياء بني إسرائيل وجد الصحابة قبـره في «تُستَـر» [1] لما فتحوها ، فما كان منهم إلا أن أخفوا قبـره حتى لا يفتــتـن به الناس إذا وجدوه فيغلون في تعظيمه ، وقصته رواها محمد بن إسحاق في «مغازيه»[2] عن خالد بن دينار قال: حدثنا أبو العالية قال:
لما فتحنا «تُستر» وجدنا في بـيت مال الهرمزان[3] سريرا عليه رجل ميت عند رأسه مصحف ، فأخذنا المصحف فحملناه إلى عمر بن الخطاب ، فدعا له كعبا فنسخه بالعربـية [4]، فأنا أول رجل من العرب قرأه قراءةً مثل ما أقرأ القرآن هذا ، فقلت لأبـي العالية: ما كان فيه؟
قال: سيِـرُكم وأموركم ولحون كلامكم[5] وما هو كائن بعد.
قلت: فما صنعتم بالرجل؟ قال: حفرنا بالنهار ثلاثة عشر قبـرا متفرقة ، فلما كان بالليل دفناه وسوينا القبور كلها لنعميه على الناس فلا ينبشونه.
قلت: وما يرجون منه؟
قال: كانت السماء إذا حبست عنهم برزوا بسريره فيمطرون.
قلت: من كنتم تظنون الرجل؟
قال: رجل يقال له دانيال.
قلت: منذ كم وجدتموه قد مات؟
قال: منذ ثلاثمائة سنة ما تغير منه شيء؟
قال: لا ، إلا شعرات من قفاه ، إن لحوم الأنبياء لا تبليه الأرض ولا تأكله السباع.
قال ابن كثير: هذا إسناد صحيح إلى أبي العالية ، ولكن إن كان تاريخ وفاته محفوظاً منذ ثلثمائة سنة فليس بنبي ، بل هو رجل صالح ، لأن عيسى ابن مريم ليس بينه وبين رسول الله ﷺ نبي بنص الحديث الذي في «البخاري» ، والفترة التي كانت بينهما كانت أربعمائة سنة وقيل ستمائة سنة ، وقيل ستمائة وعشرون سنة ، وقد يكون تاريخ وفاته من ثمانمائة سنة وهو قريب من وقت دانيال ، إن كان كونه دانيال هو المطابق لما في نفس الأمر ، فإنه قد يكون رجلاً آخر إما من الأنبياء أو الصالحين ، ولكن قربت الظنون أنه دانيال ، لأن دانيال كان قد أخذه ملك الفرس فأقام عنده مسجونا كما تقدم.
وقد روي بإسناد صحيح إلى أبي العالية أن طول أنفه شبر.
وعن أنس بن مالك بإسناد جيد أن طول أنفه ذراع.
فيحتمل على هذا أن يكون رجلا من الأنبياء الأقدمين قبل هذه المدد ، والله أعلم[6].
فالشاهد من القصة هو ما فعله الصحابة رضوان الله عليهم من تعمية قبـر ذاك النبـي لئلا يفتــتـن به الناس إذا علموا أنه قبـر نبـي فيغلون في تعظيم قبـره ، الأمر الذي قد يؤدي إلى عبادته من دون الله أو مع الله ، فسَدَّ الصحابة ذلك الباب بأن عمَّوا قبـره تماما.
وهذا علي بن أبي طالب رضي الله عنه أحرق الزنادقة الذين قالوا أنه هو الله ، كما روى ابن حجر في «الجزء الثالث» من حديث أبي طاهر المخلص من طريق عبد الله بن شريك العامري عن أبيه قال: قيل لعلي: إن هنا قوما على باب المسجد يدّعون أنك ربهم!
فدعاهم فقال لهم: ويلكم ، ما تقولون؟
قالوا: أنت ربنا وخالقنا ورازقنا!
فقال: ويلكم ، إنما أنا عبد مثلكم ، آكل الطعام كما تأكلون ، وأشرب كما تشربون ، إن أطعت الله أثابني إن شاء ، وإن عصيته خشيت أن يعذبني ، فاتقوا الله وارجعوا.
فأبوا ، فلما كان الغد غدوا عليه ، فجاء قَـنبر[7] فقال: قد والله رجعوا يقولون ذلك الكلام.
فقال: أدخِلهم.
فقالوا كذلك[8].
فلما كان الثالث[9] قال: لئن قلتم ذلك لأقتلنكم بأخبث قِـتلة.
فأبوا إلا ذلك ، فأمر بفَـعَلة[10] مَعهم مَـرُورهم [11]، فخد لهم أخدودا بين باب المسجد والقصر ، وقال: (أحفروا) ، فأبعدوا في الأرض ، وجاء بالحطب فطرحه بالنار في الأخدود وقال: إني طارِحِكم فيها أو ترجعوا.
فأبوا أن يرجعوا ، فقذف بهم فيها ، حتى إذا احترقوا قال:
إني إذا رأيت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قَـنبرا
ثم قال الحافظ: وهذا سند حسن[12].
وعلى هذا سار أئمة الـهدى ، قال علي بن عبد الله الطيالسي: مسحت يدي على أحـمد بن حنبل ، ثم مسحت يدي على بدني وهو يـنظر[13] ، فغضب غضبا شديدا ، وجعل ينفض نفسه ويقول: (عمن أخذتم هذا؟!) ، وأنكره إنكارا شديدا[14].
فالحاصل من هذه الأحاديث والآثار هو تحريم الغلو في النبـي ﷺ ، ومن باب أولى من هم دونه من الصالحين.
المبحث السابع: بيان أهم مظاهر الغلو في النبي ﷺ مما هو من الشرك بالله
ومظاهر الغلو في النبي ﷺ كثيرة ، بعضها يعتبر من نواقض الإسلام ، وفاعله يعتبر في حكم الإسلام مشركا ، وبعضها يدخل في حيز البدع الغير مكفرة ، وصاحبها من أهل الكبائر ، أما المظاهر المكفرة المشتهرة فستة ، وهي كالتالي على سبيل الإجمال:
المظهر الأول: دعاء النبي ﷺ ، كقول: (يا نبي الله أغثني) ونحو ذلك ، فهذا شرك ، لأن الدعاء عبادة ، قال ﷺ: الدعاء هو العبادة ،
وقرأ
[وقال ربكم ادعوني استجب لكم( إلى قوله )داخرين]
[15].
فمن صرف دعاءه لغير الله فهو ضال مشرك ،
[ومن أضل ممن يدعو من دون الله من لا يستجيب له إلى يوم القيامة وهم عن دعائهم غافلون * وإذا حشر الناس كانوا لهم أعداء وكانوا بعبادتهم كافرين].
المظهر الثاني: الذبح له ﷺ ، والذبح لغير الله شرك ، لأن الذبح عبادة ، وجميع العبادات لا يجوز صرفها إلا لله ،
قال تعالى
[فصل لربك وانحر].
المظهر الثالث: الطواف حول قبره ﷺ ، وهذا شرك أيضا ، لأن الطواف عبادة ، لا يجوز صرفه إلا لله ، والطواف حول القبر النبوي متعذر في هذه الأزمنة بسبب الحاجز الذي وضعته الحكومة السعودية ، جزاها الله خيرا.
والطواف الشرعي لا يجوز إلا لله وحده ، ومحله حول الكعبة الشريفة ،
[وليطوفوا بالبيت العتيق]
، فمن طاف لغير الله - أيا كان ذلك الـمُطاف به - فقد أشرك.
المظهر الرابع: النذر له ﷺ ، وهذا شرك ، والنذر لا يجوز إلا لله
، كما قال ﷺ :
لا نذر إلا فيما ابتغي به وجه الله عز وجل
[16].
المظهر الخامس: دعوى الربوبية فيه ﷺ ، كقول أنه يخلق أو يرزق أو يدبر الأمر ، وهذا شرك ظاهر ، وهو من أقبح أنواع الشرك ، والله هو المتفرد بالربوبية على خلقه سبحانه وتعالى.
المظهر السادس: ادعاء علم الغيب له ﷺ ، سواء في حياته أو بعد مماته ، وهذا شرك في توحيد الأسماء والصفات ، وعلم الغيب خاص بالله تعالى ، )فقل إنما الغيب لله( ، فمن وصف غير الله بهذه الصفة فقد رد خبر القرآن ، وجعل لله شريكا فيما هو من خصائص الله.
المراجع
- هي مدينة في خوزستان فتحها أبو موسى الأشعري في عهد عمر رضي الله عنه ، والخوز هم أهلها وأهل نواحي الأهواز بين فارس والبصرة وواسط وجبال اللور المجاورة لأصبهان. انظر «معجم البلدان» ، مادة: خوز.
- ص 66 – 67 ، تحقيق سهيل زكار.
- أطلق العرب لقب الهرمزان على الكبير من ملوك العجم. انظر
- [1] أي ترجمه إليها.
- نظر «النهاية».
- «البداية والنهاية» ، (2/40) ، ذكر شيء من خبر دانيال عليه السلام.
- قَـنبر هو مولى لعلي رضي الله عنه.
- أي كقولهم في اليوم الأول.
- أي اليوم الثالث.
- الـفَعلة صفة غالبة على عملة الطين والحفر ونحوهما. انظر «لسان العرب».
- الـمَـرُّ هو المسحاة. انظر «لسان العرب».
- فتح الباري» شرح حديث (6922) ، باختصار يسير.
ورواه ابن عساكر في «تاريخ دمشق» (الناشر: دار الفكر - بيروت) (42/475-476) في (ترجمـة علي بن أبي طالب) ، والأصبهاني في «طبقات المحدثين بأصبهان» (2/342-343) (الناشر: مؤسسة الرسالة - بيروت) عن عثمان بن أبي عثمان قال: جاء أناس إلى علي بن أبي طالب من الشيعة ، فذكره بنحوه. فائدة: قال السمعاني في «الأنساب» (5/396) (الناشر: دار الكتب العلمية - بيروت) في النسبة إلى (النصيري): وهذه النسبة لطائفة من غلاة الشيعة يقال لهم النصيرية ، والنسبة إليها نُصيري ، وهذه الطائفة ينتسبون إلى رجل اسمه نُصير ، وكان في جماعة قريبا من سبعة عشر نفسا كانوا يزعمون أن عليا هو الله ، وهؤلاء شر الشيعة ، وكان ذلك في زمن علي ، فحذّرهم وقال: إن لم ترجعوا عن هذا القول وتجددوا إسلامكم وإلا عاقبتكم عقوبة ما سُـمِع مثلها في الإسلام. ثم أمر بأخدود ، وحُـفِـر في رَحَـبة جامع الكوفة ، فأشعل فيه النار ، وأمرهم بالرجوع فما رجعوا ، فأمر غلامه قنبر حتى ألقاهم في النار ، فهرب واحد من الجماعة اسمه نصير ، واشتهر هذا الكفر منه ، وأن عليا لما ألقاهم في النار التفت واحد وقال: الآن تحققت أنه هو الله ، لأنه بلغنا عن النبي ﷺ أنه قال: لا يعذب بالنار إلا ربُّـها ، وكان علي يرميهم في النار وينشد: إني إذا أبصرت أمرا منكرا أوقدت ناري ودعوت قَـنبرا ولما بلغ ابن عباس ما فعل علي رضي الله عنه قال: لو كنت مكان علي رضي الله عنه كنت أقتلهم وما كنت أحرقهم. وهذه الطائفة بالحديثة ، بلدة على الفرات. سمعت الشـريف عمر بن إبراهيم الحسيني شيخ الزيدية بالكوفة يقول: لما انصرفت من الشام دخلت الحديثة مجتازا ، فسألوا عن اسمي فقلت: عمر ، فأرادوا أن يقتلوني لأن اسمي عمر ، حتى قلت إني علوي وإني كوفي ، فتخلصت منهم ، وإلا كادوا أن يقتلوني. انتهى كلام السمعاني.وروى البخاري بسنده عن عكرمة قال: أُتي علي رضي الله عنه بزنادقة فأحرقهم ، فبلغ ذلك ابن عباس فقال: لو كنت أنا لم أحرقهم لنهي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا تعذبوا بعذاب الله) ، ولقتلتهم ، لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من بدل دينه فاقتلوه). «صحيح البخاري» (6922). - أي بقصد التبرك كما يفعله بعض الناس هداهم الله!
- «طبقات الحنابلة» (1/216) ، ترجمة رقم (316) ، الناشر: دار الكتب العلمية – بيروت.
- رواه أبو داود (1479) ، والترمذي (2969) وغيرهما عن النعمان بن بشير ، وصححه الشيخ الألباني.
- رواه أحمد (2/185) ، وأبو داود (3273) ، عن عمرو بن شعيب ، عن أبيه ، عن جده ، وحسنه الشيخ الألباني وكذا محققو «المسند».