البحث
الفصل الخامس : نواقض الإيمان بالنبي ﷺ الجزء الثانى
الناقض الرابع[1]: الوقوع في شيء من نواقض الإسلام ، ورؤوس تلك النواقض عشرة ، قال الشيخ سليمان بن سحمان[2] رحمه الله:
ذكر أهل العلم نواقض الإسلام ، وذكر بعضهم أنها قريب من أربعمائة ناقض ، ولكن الذي أجمع عليه العلماء هو ما ذكره شيخ الإسلام ، وعَلم الهداة الأعلام ، الشيخ محمـد بن عبد الوهاب من نواقض الإسلام ، وأنها عشرة ، فقال رحمه الله:
اعلم أن نواقض الإسلام عشرة نواقض:
الأول: الشرك في عبادة الله وحده لا شريك له ،
قال الله تعالى
[إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء]
[3]
، [إنه من يشرك بالله فقد حرم الله عليه الجنة ومأواه النار وما للظالمين من أنصار]
[4]
، ومنه الـذبح لغير الله ، كمن يذبح للجن أو للقبر.
الثاني: من جعل بينه وبين الله وسائط يدعوهم ، ويسألهم الشفاعة ، ويتوكل عليهم ، كفر إجماعا.
الثالث: من لم يكفر المشركين ، أو شك في كفـرهم ، أو صحح مذهبهم ، كفر.
الرابع: من اعتقد أن غير هدي النبي ﷺ أكمل من هديه ، أو أن حُكم غيره أحسن من حكمه ، كالذين يفضلون حكم الطواغيت على حـكمه ، فهو كافر.
الخامس: من أبغض شيئاً مما جاء الرسول ﷺ - ولو عمل به - كفر.
السادس: من استهزأ بشيء من دين الله أو ثوابه أو عقابه كفر ، والدليل
قوله تعالى
[قل أبالله وآياته ورسوله كنتم تستهزئون * لا تعتذروا قد كفرتم بعد إيمانكم]
[5].
السابع: السحر ، ومنه الصرف والعطف ، فمن فعله أو رضي به كفر ، والدليل
قوله تعالى
[وما يعلمان من أحد حتى يقولا إنما نحن فتنة فلا تكفر]
[6].
الثامن: مظاهرة المشركين ومعاونتهم على المسلمين ، والدليل
قوله تعالى
[ومن يتولهم منكم فإنه منهم إن الله لا يهدى القوم الظالمين]
[7].
التاسع: من اعتقد أن بعض الناس يسعه الخروج عن شريعة محمد ﷺ كما وَسِع الخضر الخروج عن شريعة موسى عليه السلام فهو كافر.
العاشر: الإعراض عن دين الله ، لا يتعلمه ولا يعمل به ، والدليل
قوله تعالى
[ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه ثم أعرض عنها إنا من المجرمين منتقمون]
[8].
ولا فرق في جميع هذه النواقض بين الهازل والجاد والخائف إلا المكره ، وكلها من أعظم ما يكون خطرًا وأكثر ما يكون وقوعًا ، فينبغي للمسلم أن يحذرها ، ويخاف منها على نفسه ، نعوذ بالله من موجبات غضبه وأليم عقابه. انتهى[9].
قال مقيده عفا الله عنه: ومن نواقض الإسلام أيضا إنكار شيء معلوم من الدين بالضرورة ، كإنكار وجوب الصـلاة أو الزكاة أو الحج ، أو إنكار تحريم الخمر والسرقة ، أو إنكار شيء من أركان الإيمان ، ونحو ذلك.
ولعل الشيخ لم يذكر هذا الناقض لأنها لم تكن واقعة في عهده بشكل صريح ، والذي يظهر من كلام الشيخ أنه اكتفى بذكر ما هو أكثر وقوعا ، كما قال في آخر كلامه.
الناقض الخامس: الغلو فيه ﷺ ، وفيه ثمانية مباحث:
الأول: تعريف الغلو لغة وشرعا
الثاني: تأصيل في حقوق الأنبياء الشرعية
الثالث: مقدمة في الغلو
الرابع: أقسام الناس في تعظيم النبي ﷺ
الخامس: تحذير النبي ﷺ من الغلو فيه
السادس: اتباع الصحابة لنبيهم في اجتناب الغلو في الأنبياء والصالحين
السابع: بيان أهم مظاهر الغلو في الأنبياء والصالحين مما هو من الشرك بالله ، ورؤوسها ستة
الثامن: فصل في بيان مظاهر محرمة في الغلو بالنبي ﷺ مما هو دون الشرك بالله ، ورؤوسها ثلاثة عشرة
تفصيل
المبحث الأول: تعريف الغلو لغة وشرعا
الغلو في اللغة هو مجاوزة الحد ، وفي الشرع مجاوزة الحد الشرعي في باب الاعتقاد أو العبادة ، والذي يعنينا في هذا السياق هو مجاوزة الحد في تعظيم النبي ﷺ وتوقيره فوق المنزلة التي أعطاه الله إياها ، والعلة في النهي عن الغلو ألا يصل الأمر إلى حد اتخاذه شريكا مع الله ، بصرف شيء من خصائص الله له ، سواء من الصفات كصفة علم الغيب ، أو من العبادات كالدعاء أو الذبح أو النذر له ، فهذا كله محرم ومخرج من ملة الإسلام ، فإن حق الله الذي لا يشاركه فيه مشارِك هو الاعتراف له بالكمال المطلق ، والغنى الـمطلق ، والتصرف الـمطلق من جميع الوجوه ، وأنه لا يستحق العبادة والتأله أحد سواه ، فمن غلا بأحد من المخلوقين حتى جعل له نصيبًا من هذه الأشياء ؛ فقد ساوى به رب العالمين ، ووقع في الشرك الأكبر الذي لا يغفره الله إلا بالتوبة قبل الممات[10].
المبحث الثاني: خطر الغلو
الغلو في الصالحين – عموما - هو الذي أدى بكثير من الأمم إلى الوقوع في الشرك ، بدءا من قوم نوح إلى أمة محمد ﷺ ، فقد كان منشأُ الشرك في عهد نوح عليه الصلاة والسلام من تعظيم الصالحين ، ففي صحيح البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما في تفسير
قول الله تعالى
[وقالوا لا تذرن آلهتكم ولا تذرن ودًّا ولا سواعا ولا يغوث ويعوق ونسرا]
قال: أسماء رجال صالحين من قوم نوح ، فلما هلكوا [11]أوحى الشيطان إلى قومهم أن انصبوا إلى مجالِـسهم التي كانوا يجلسون أنصابا [12]، وسموها بأسمائهم ، ففعلوا ، فلم تُعبد ، حتى إذا هلك أولئك وتـنسَّخ العلم [13]عُبدت[14].
وروى ابن جرير بإسناده إلى الثوري عن موسى عن محمد بن قيس أنه قال عن يغوث ويعوق ونسرا: كانوا قومًا صالحين من بني آدم ، وكان لهم أتباع يقتدون بهم ، فلما ماتوا قال أصحابهم الذين كانوا يقتدون بهم: لو صورناهم كان أشوق لنا إلى العبادة إذا ذكرناهم ، فصوّروهم ، فلما ماتوا وجاء آخرون دبَّ إليهم إبليس ، فقال: إنما كانوا يعبدونهم وبهم يسقون المطر ، فعبدوهم[15].
وقال ابن القيم: قال غير واحد من السلف: كان هؤلاء قومًا صالحين في قوم نوح عليه السلام ، فلما ماتوا عكفوا على قبورهم ، ثم صوروا تماثيلهم ، ثم طال عليهم الأمد فعبدوهم[16].
وبعد نشوء الشرك وعبادة الأصنام في قوم نوح تــتابع الناس على ذلك وانتشر بينهم كما قال ابن عباس رضي الله عنه: صارت الأوثان التي كانت في قوم نوح في العرب بعدُ ، أما وُد فكانت لكلب بدومة الجندل [17]، وأما سواع فكانت لهذيل ، وأما يغوث فكانت لمراد ثم لبني غطيف بالجرف عند سبأ ، وأما يعوق فكانت لهمدان ، وأما نسر فكانت لحِمير لآل ذي الكلاع[18].
وقال قتادة: كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح ، ثم اتخذها العرب بعد ذلك[19].
وبناء على ما تقدم من الحقائق التاريخية ، فقد قرر ابن القيم في «زاد المعاد» أن غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور[20].
فصل
ولما كان الغلو من أعظم أسباب الانحراف ، سواء كان في حق من كانوا أنبياء أو من ليسوا بأنبياء ؛ نهى الله أهل الكتاب عن ذلك
، قال تعالى
[قل يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تــتبعوا أهواء قوم قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وضلوا عن سواء السبـيل]
[21].
قال ابن كثير رحمه الله في تفسير هذه الآية: أي لا تُجاوزوا الحد في اتباع الحق ، ولا تُطروا [22]من أُمرتم بتعظيمه ، فتبالغوا فيه حتى تخرجوه عن حيز النبوة إلى مقام الإلـٰهية ، كما صنعتم في المسيح ، وهو نبـي من الأنبياء ، فجعلتمـوه إلـٰها من دون الله ، وما ذلك إلا لاقتدائكم بشيوخكم ، شيـوخ الضلال ، الذين هم سلفكم ممن ضل قديماً. انتهى.
وقال في تفسير آية النساء )يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق(:
ينهى تعالى أهل الكتاب عن الغلو والإطراء ، وهذا كثير في النصارى ، فإنهم تجاوزوا الحد في عيسى حتى رفعوه فوق المنـزلة التي أعطاه الله إياها ، فنقلوه من حيز النبوة إلى أن اتخذوه إلـٰهاً من دون الله ، يعبدونه كما يعبدونه ، بل قد غلوا في أتباعه وأشياعه مـمن زعم أنه على دينه ، فادعوا فيهم العصمة ، واتبعوهم في كل ما قالوه سواء كان حقاً أو باطلاً ، أو ضلالاً أو رشاداً ، أو صحيحاً أو كذباً ، ولهذا
قال الله تعالى
[اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباباً من دون الله].
ثم ساق حديث عمر رضي الله عنه ، أن رسول الله ﷺ قال:
لا تطروني كما أطرت النصارى عيسى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا: عبد الله ورسوله.انتهى.
[23]
وسيأتي في المبحث الخامس سرد مزيد أحاديث نبوية في نهي النبي ﷺ عن الغلو.
وقال قتادة: كانت هذه الآلهة يعبدها قوم نوح ، ثم اتخذها العرب بعد ذلك.
وبناء على ما تقدم من الحقائق التاريخية ، فقد قرر ابن القيم في «زاد المعاد» أن غالب شرك الأمم كان من جهة الصور والقبور.
المبحث الثالث: تأصيل في حقوق الأنبياء
قال الشيخ عبد الرحمـٰن بن محمد بن قاسم [24]رحمه الله في معرض كلام له عن حقوق الأنبياء صلى الله عليهم وسلم:
فإن فضلهم وحياتهم وكرامتهم ونبوتهم ورسالتهم لا تقتضي صرف حق الله لهم ، وتنـزيلهم منـزلة الملك الخلاق في القصد والدعاء والخوف والرجاء والرغبة والرهبة ، ولا يوجب ذلك صرف الوجوه عن علام الغيوب إليهم في شيء من المطالب والمقاصد الإلـٰهية التي بيده تعالى وتقدس ، بل ذلك لله وحده لا شريك له ، لا يشرَكه فيه نبي مرسل ، ولا ملَك مقرب ولا غيرهما ، وقد قال تعالى لأكرم خلقه وأفضل رسله }ليس لك من الأمر شيء{[25].
والغلو قد لا يصل إلى الكفر ، بل يكون في دائرة البدع الغير مكفرة ، فلا يعتبر الواقع فيه مرتكب لشيء من نواقض الإيمان بالنبي ﷺ ، بل يكون قادح فيه ، منتقص لأجره ، محتمل لِــوِزرِ الغلو.
وإن مما امتاز به هذا الدين الوسطية في كل شيء ، فلا إفراط ولا تفريط ، ولا غلو ولا إجحاف ،
قال تعالى
[وكذلك جعلناكم أمة وسطاً لتكونوا شهداء على الناس].
قال ابن كثير رحمه الله: والوسط هنا المراد به الخيار والأجود ، كما يقال: قريش أوسط العرب نسباً ودارا ، أي خيرها.
ولما جعل الله هذه الأمة وسطاً ؛ خصها بأكمل الشرائع وأقوم المناهج وأوضح المذاهب ،
كما قال تعالى
[هو اجتباكم وما جعل عليكم في الدين من حرج ملة أبيكم إبراهيم هو سماكم المسلمين من قبل وفي هذا ليكون الرسول عليكم شهيدا وتكونوا شهداء على الناس]
[26].
المبحث الرابع: أقسام الناس في تعظيم النبي ﷺ
ينقسم الناس في معاملة النبي ﷺ إلى ثلاثة أقسام:
أهل الجـفاء الذين يهضمونه حقه ، ولا يقومون بحقه الواجب من الحب والموالاة له والتوقير والتبجيل.
وأهل الغلو الذين يرفعونه فوق منـزلته التي أنـزله الله إياها ، بنسبة شيء من خصائص الله له ، والتي تقدم ذكرها في صورة الغلو.
وأهل الحق الذين يحبونه ويوالونه ويقومون بحقوقه الشرعية ، ويبرءون من الغلو فيه.
فصل
وقد سلك بعض أهل البدع مسالك منحرفة في باب تعظيم النبي ﷺ ، فالرافضة الغلاة فضلوا أئمتهم المعصومين – بزعمهم - على النبي ﷺ .
والصوفية الباطنية الذين فضلوا الأولياء والأقطاب على النبي ﷺ .
يقابل هاتين الطائفتين طائفة الغلاة ، الذين غلوا في تعظيم النبي ﷺ حتى عبدوه ، وصرفوا له خالص حق الله تعالى من أفعال العباد ، من دعاء ونذر وذبح وغير ذلك ، أو وصفوه بصفات الله الخاصة به كعلم الغيب ونحو ذلك ، ويغلب هذا في عباد القبور.
ومن ألـوان الغلو ما يفعله بعض أهل البدع من تعظيم للنبي ﷺ بأنواع من التعظيم البدعي ، لم يعرفها صحابة رسول الله ﷺ ، كعمل الموالد ، أو التوسل بجاهه ، وغير ذلك مما سيأتي ذكر بعض أنواعه.
أما أهل السـنة والجماعة – جعلنا الله والقارئين منهم – فعظموا النبي ﷺ التعظيم الشرعي ، واجتنبوا طرق التعظيم البدعي والشركي.
المبحث الخامس: تحذير النبي ﷺ من الغلو فيه
وقد كان النبي ﷺ يزجر الناس ويحذرهم عن الغلو فيه في حياته وحتى سياق الموت ، وسنقتصر هنا على ذكر عشرة أحاديث:
1. عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال:
سمعت النبـي ﷺ يقول: لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا: عبد الله ورسوله
[27].
والإطراء هو مجاوزة الحد في المدح[28].
قال الشيخ أحمد بن يحيى النجمي[29] رحمه الله:
والإطراء هو أن يُرفع فوق منـزلته ، ويُعطى أكثر من حقه.
وقد فرَّق الله بين حقه الخاص به والحق المشترك بينه وبين رسوله ﷺ
فقال تعالى
[ومن يطع الله والرسول ويخشى الله ويتقه فأولئك هم الفائزون].
فجعل الطاعة مشتركة بينه وبين رسوله ، وخص نفسه بالخشية والاتقاء ، لأن هاتين الخصلتين من خصائصه سبحانه وتعالى[30].
2. وعن قيس بن سعد رضي الله عنه قال:
أتيت الحِيرة ، فرأيتهم يسجدون لمرزُبان لهم فأتيت النبـي ﷺ فقلت: إني أتيت الحيرة[31] فرأيتهم يسجدون لمرزبان [32]لهم ، فأنت يا رسول الله أحق أن نسجد لك ، قال: أرأيت لو مررت بقبـري أكنت تسجد له؟ قلت: لا. قال: فلا تفعلوا ، لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت النساء أن يسجدن لأزواجهن لما جعل الله عليهن من الحق
[33].
3. ولما قدم معاذ رضي الله عنه من الشام سجد للنبـي ﷺ فقال:
ما هذا يا معاذ؟ فقال: أتيت الشام ، فوجدتهم يسجدون لأساقفتهم [34]وبطارقتهم[35] ، فأردت أن أفعل ذلك بك. قال: فلا تفعـل ، فإني لو أمرت شيئا أن يسجد لشيء لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها
[36].
4. وعن ابن بريدة عن أبـيه قال:
جاء أعرابـي إلى النبـي ﷺ فقال: يا رسول الله ، إيذن لي فلأسجد لك. قال: لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة تسجد لزوجها
[37].
وقد تكرر هذا الفعل عدة مرات أمام النبي ﷺ ، وكان النبي ﷺ ينكره في كل مرة أشد الإنكار[38].
5. وعن ابن عباس رضي الله عنه أن رجلا قال للنبي ﷺ :
ما شاء الله وشئت. فقال له النبي ﷺ : أجعلتني والله عدلاً؟ بل ما شاء الله وحده[39]. وفي لفظ: جعلت لله ندا؟ ما شاء الله وحده
[40].
6. وعنه قال: قال رسول الله ﷺ :
إذا حلف أحدكم فلا يقل: ما شاء الله وشئت ، ولكن ليقل: ما شاء الله ثم شئت
[41].
7. وعن طُفيل بن سَخبرة رضي الله عنها أخي عائشة لأمها
، أنه رأى فيما يرى النائم كأنه مر برهط من اليهود فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن اليهود. قال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تزعمون أن عزيرا ابن الله. فقالت اليهود: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. ثم مر برهط من النصارى فقال: من أنتم؟ قالوا: نحن النصارى. فقال: إنكم أنتم القوم لولا أنكم تقولون: المسيح ابن الله. قالوا: وأنتم القوم لولا أنكم تقولون: ما شاء الله وشاء محمد. فلما أصبح أخبر بها من أخبر ، ثم أتى النبي ﷺ فأخبره فقال: هل أخبرت بها أحدا؟ قال عفان[42]: قال: نعم ، فلما صـلوا خطبهم ، فحمد الله وأثنى عليه ، ثم قال: إن طفيلا رأى رؤيا ، فأخبر بها من أخبر منكم ، وإنكم كنتم تقولون كلمة كان يمنعني الحياء منكم أن أنهاكم عنها ، قال: لا تقولوا ما شاء الله وشاء محمد[43].
8. وعن خالد بن ذكوان قال: قالت الرُّبـيِّع بنت مُعوِّذ:
جاء النبيُّ ﷺ يدخل حـين بُنِيَ عليَّ [44]، فجلسَ على فِراشي كمجلِسكَ منّي ، فجعلتْ جُوَيْرِياتٌ[45] لنا يَضربنَ بالدُفِّ ويَندُبنَ [46]مَن قُتلَ من آبائي يومَ بدرٍ ، إذ قالت إحداهنَّ: وفينا نبيٌّ يَعلمُ ما في غَدِ. فقال: دَعي هذِهِ وقولي بالذيِ كنتِ تقولين[47]. وفي لفظ قال: أَمَّا هٰذَا فَلاَ تَقُولُوهُ ، مَا يَعْلَمُ مَا فِي غَدٍ إِلاَّ اللَّه[48]. وأخرج الطبراني في «الأوسط» من حديث عائشة أن النبي ﷺ مر بنساء من الأنصار في عرس لهنَّ يُـغَــــنِّين: وأهدى لها كبشاً تنحنح في الـمِربد[49] وزَوجُكُمُ في النادي [50]ويعلمُ ما في غدِ فقال رسولَ الله ﷺ : لا يعلم ما في غدٍ إلا الله
[51].
9. ولم يقف النبـي ﷺ عند هذا ، فقد نهى عن مدحه بما فيه من الخصال سدًّا لباب الغلو فيه ، فكيف بمن مدحه بما ليس فيه ، كمن نسب له شيئا من خصائص الربوبـية أو الألوهية؟!
فعن عبد الله بن الشخير رضي الله عنه قال:
انطلقت في وفد بني عامر إلى رسول الله ﷺ فقلنا: أنت سيدنا. فقال: السيد الله تبارك وتعالى. قلنا: وأفضلنا فضلا ، وأعظمُنا طَولا[52]. فقال: قولوا بقولكم أو بعض قولكم ، ولا يستجرينكم الشيطان
[53].
10. وعن أنس رضي الله عنه أن أناسا قالوا:
يا رسول الله ، يا خيرنا وابن خيرنا ، وسيدنا وابن سيدنا ، فقال: يا أيها الناس ، عليكم بتقواكم [54]، لا يستهوينكم الشيطان ، أنا محمد بن عبد الله ، عبد الله ورسوله ، والله ما أحب أن ترفعوني فوق منـزلتي التي أنـزلني.
[56]
ففي هذين الحديثين وغيرهما نرى كيف سد النبـي ﷺ طرق الغلو بأن نهى عن مجرد الزيادة في مدحه وإن كان المدح منصبا على ما فيه من الخصال ، فهو سيد ولد آدم وخير الناس وأفضـلهم ،
ولكن لما كان ذلك المدح يفضي إلى الغلو فيه وربما عبادته ، نهاهم عنه ، وقال لهم: لا يَستجرينَّـــكم الشيطان ، أي لا يتدرج بكم ويستزلكم إلى الغلو فيَّ.
قال الشيخ صالح آل الشيخ في «كفاية المستزيد بشرح كتاب التوحيد»:
فإن في سنة النبي عليه الصلاة والسلام من الدلائل على قاعدة سد الذرائع ما يبلغ مائة دليل أو أكثر ، وأعظم الذرائع التي يجب أن تسد ذرائع الشرك التي توصل إليه ، ومن تلك الذرائع قول القائل: أنت سيدنا وابن سيدنا ، وخيرنا وابن خيرنا ونحو ذلك[57].
11. وعن جابر رضي الله عنه قال:
اشتكى رسول الله ﷺ فصلينا وراءه وهو قاعد ، وأبو بكر يُسمِع الناس تكبيره ، فالتفت إلينا فرآنا قياما فأشار إلينا فقعدنا ، فصلينا بصلاته قعودا[58] ، فلما سلّم قال: إن كدتم آنفا لتفعلون فعل فارس والروم ؛ يقومون على ملوكهم وهم قعود ، فلا تفعـلوا ، ائتموا بأئمتكم ، إن صلى قائما فصلوا قياما ، وإن صلى قاعدا فصلُّوا قعودا.
[59]قال ابن تيمية رحمه الله: فإذا كان قد نهاهم مع قعوده – وإن كانوا قاموا في الصلاة – حتى لا يتشبهوا بمن يقومون بعظمائهم ، وبيّن أن من سَرَّه القيام له كان من أهل النار ، فكيف بما فيه من السجود له ، ومن وضع الرأس [60]وتقبيل الأيادي[61]؟
المراجع
- هنا رجوع للموضوع الأصلي ، وهو الكلام على نواقض الإيمان بالنبي ﷺ .
- هو الشيخ سليمان بن سحمان بن مصلح من آل عامر من قبيلة خثعم ، ولد في قرية السُّقا من بلدان أبها ، درس على الشيخ عبد الرحمـٰن بن حسن بن محمد بن عبد الوهاب ، ودرس كذلك على ابنه عبد اللطيف بن عبد الرحمـٰن بن حسن ، ولازمهما عشر سنوات ، ودرس كذلك على الشيخ حمد بن عتيق سبعة عشر سنة ، كما درس على الشيخ حمد بن فارس ، ألف كتبا كثيرة تقرب من الأربعين كتابا ، وله أشعار كثيرة ، فقد كان أديبا بارعا ، وشاعرا خرِّيتا ، سخر لسانه للدفاع عن عقيدة أهل السنة ، له دواوين في الدفاع عن الإسلام ، رد على قريب من خمسين ضالا بشعره ، فكان بحق «حسّان السنة» في زمانه.
توفي رحمه الله سنة 1349 هجرية، وله من العمر ثمانون عاما. ذُكِر أنه لما خرجت روحه شموا من جسده رائحة مسك طيبة لم يعهدوا مثلها. انظر ترجمته في «تذكرة أولي النهى والعرفان بأيام الله الواحد الديان» ، حوادث سنة 1349 هجري ، للشيخ إبراهيم بن عبيد آل عبد المحسـن رحمه الله ، وكذا كتاب «ابن سحمان ، تاريخ حياته ، وعلمه ، وتحقيق شعره» ، لمحمد بن حمد العقيل ، الناشر: مكتبة الرشد – الرياض. - سورة النساء: 48 .
- سورة المائدة: 72 .
- سورة التوبة: 65 - 66 .
- سورة البقرة: 102 .
- سورة المائدة: 51 .
- سورة السجدة: 22 .
- «الدرر السنية من الأجوبة النجدية» (2/350 - 362).
- انظر ما قاله ابن تيمية في تعريف الغلو في «اقتضاء الصراط المستقيم» ، ص 106 تحقيق محمد حامد الفقي رحمه الله.
- أي ماتوا.
- أي اصنعوا أنصابا ، وهي تماثيل تصنع على هيئتهم ثم تـنصب في المجالس ليراها الناس فيقتدوا بهم في أفعالهم! وهكذا دخل عليهم الشيطان.
- أي تحول من حال إلى حال. انظر «النهاية».
قال مقيده: وسبب التحول والتحريف هو عدم الحفظ. - رواه البخاري (4920).
- تفسير سورة نوح: 24 .
- «إغاثة اللهفان» ، (1/184) ، تحقيق محمد حامد الفقي.
- موضع في شمال جزيرة العرب.
- رواه البخاري (4920).
- «تفسير ابن جرير» ، تفسير سورة نوح: 24 ، (12/254).
- «زاد المعاد» (3/458).
- سورة المائدة: 77 .
- الإطراء هو مجاوزة الحد في المدح.
- 5) ، والدارمي (2787).
- الشيخ عبد الرحمـٰن من علماء نجد المعروفين ، ولد سنة 1319 هجري ، ودرس على يد جملة من علماء نجد ، تميز الشيخ بخدمة التراث العلمي من مصادره ثم تحقيقه وطباعته ، أبرزها فتاوى ابن تيمية ، جمعها في خمسة وثلاثين مجلدا عدا الفهارس ، وطبعت على نفقة الملك سعود بن عبد العزيز رحمه الله عام 1381 هجري ، وكذا جمع فتاوى علماء نجد بدءا من الشيخ محمد بن عبد الوهاب في القرن الثاني عشر إلى العلماء المعاصرين في زمنه ، وهي المعروفة بـ «الدرر السنية في الفتاوى النجدية» ، وتقع في ستة عشر مجلدا ، وطبعت على نفقة الملك عبد العزيز بن عبد الرحمـٰن آل سعود سنة 1356 هجري ، وجمع الشيخ أيضا فتاوى مفتي الديار السعودية الشيخ محمد بن إبراهيم آل الشيخ رحمه الله في ثلاثة عشر جزءا ، وطبعت بأمر من الملك فيصل بن عبد العزيز رحمه الله في عام 1390 هجري.
وللشيخ مؤلفات وشروحات في العقيدة وأصول التفسير والفقه والحديث والنحو ، قد نفع الله بها كثيرا واستفاد منها المسلمون ، رحمه الله وأجزل ثوابه. توفي الشيخ عبد الرحمـٰن سنة 1392 هجري رحمه الله رحمة واسعة. - «السيف المسلول على عابد الرسول» ، ص 156 – 157 .
- «تفسير القرآن العظيم» ، سورة البقرة: 129 ، باختصار يسير.
- قدم تخريجه.
- انظر «النهاية في غريب الحديث».
- أحمد بن يحيى بن محمد بن شبير النجمي ، من أهالي قرية النجامية في جنوب المملكة العربية السعودية ، مولده في 1346 هـ ، من مشايخه: عبد الله القرعاوي ، و
كان فقيها محدثا ، له عدة مؤلفات منها: «تنزية الشريعة عن إباحة الأغاني الخليعة) ، «رسالة في حكم الجهر بالبسملة» ، «المورد العدب الزلال فيما انتقد على بعض المناهج الدعوية من العقائد والأعمال». ، توفي عام سنة 1429 هـ رحمه الله رحمة واسعة. - «أوضح الإشارة في الرد على من أجاز الممنوع من الزيارة» ، ص 295 – 300 ، باختصار وتصرف يسير.
- الحيرة بلد معروف بالعراق آنذاك.
- ، وهو مقدم عندهم.
- 435) ، والحاكم (2/187) ، وصححه الألباني.
- الأساقفة جمع أُسـقف – بضم الهمزة - ، وهو رئيس النصارى في الدين. انظر «لسان العرب».
- بطارقة جمع بِطريق ، بكسر الباء ، ويقال بطريك ، وهو من المقدمين عند النصارى. انظر «لسان العرب» و «المعجم الوسيط»
- رواه ابن ماجه (1853) وابن حبان (4171) ، وحسنه الشيخ الألباني كما في «الإرواء» (7/55) ، وكذا الشيخ شعيب كما في حاشيته على «صحيح ابن حبان».
- رواه الدارمي في كتاب الصلاة ، باب النهي أن يسجد لأحد ، (1436).
- انظر ما رواه الدارمي في كتاب الصلاة ، باب النهي أن يسجد لأحد عن قيس بن سعد ، والحديث الآخر عن ابن بريدة عن أبـيه.
وانظر أيضا ما رواه ابن ماجه (1852) وابن أبي شيبة كلاهما في كتاب النكاح عن عائشة رضي الله عنها. وانظر أيضا ما رواه الترمذي (1159) عن أبي هريرة رضي الله عنه. - رواه النسائي في «عمل اليوم والليلة» (988) ، وأحمد (1/214) ، واللفظ له ، وصححه لغيره محققو، وخرجه الألباني في «الصحيحة» (139) ، ولفظ النسائي: أجعلتني لله عدلاً
- رواه البخاري في «الأدب المفرد» (784).
- رواه ابن ماجه (2117) ، وحسنه الألباني في «السلسلة الصحيحة» ، (1093).
- وهو الذي روى عنه أحمد ، وهو عفان بن مسلم الصفار.
- رواه أحمد (5/72) ، وصححه الألباني في «الصحيحة» (138) ، وكذا محققو «المسند».
- أي دخل عليها زوجُها ليلة زفافها.
- لم يأتِ في الحديث بيان من هو المخاطَب ، والظاهر أنه خالد بن ذكوان ، راوي الحديث عن عائشة ، رضي الله عنها.
- الجُويرية تصغير جارية ، والمقصود بنيات صغيرات.
- النّدب هو عَدُّ خصال الميت.
- قال ابن حجر رحمه الله: فيه إشارة إلى جواز سماع المدح والمرثية مما ليس فيه مبالغة تفضي إلى الغلو.
- رواه البخاري (5147) ، واللفظ الآخر لابن ماجه (1897) وصححه
- المربد: هو الموضع الذي تحبس فيه الغنم والإبل. انظر «النهاية».
- النادي: هو مجتمع القوم وأهل المجلس. انظر «النهاية».
- رقم (3401) ، وحسَّن إسناده ابن حجر في «الفتح» ، شرح حديث رقم (5147).
أي أعظمُنا عطاءً وعلُواً على الأعداء ، انظر شرح الحديث في «عون المعبود».
- رواه أبو داود (4806) ، والنسائي في «الكبـرى» (10076) ، وأحـمد (4/24 – 25) ، والبخاري في «الأدب الـمفرد» (211) ، وصححه الألباني.
-
أي عليكم بمراعاة تقوى الله في أقوالكم.
واللفظ الآخر لأحمد وهو لفظ ابن حبان: (قولوا بقولكم) ، أي تكلموا بما يحضركم من القول ، ولا تتكلفوا ، كأنكم وكلاء الشيطان ورسله ، تنطقون عن لسانه. نقلا من حاشية «المسند» (21/167). رواه أحمد (3/153 ، 241) ، واللفظ له ، والنسائي في «عمل اليوم والليلة» (248) (249) ، وابن حبان (6240) ، وصححه محققو «المسند» وقالوا: على شرط مسلم. (20/23).
- شرح «باب حماية النبي
- ﷺ حمى التوحيد وسده طرق الشرك».
- رواه مسلم (413).
- أي في القيام للمعَـظَّمين.
- أي خفضِه وطأطأته.
- «مجموع الفتاوى» (27/93).