البحث
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي [1]
الشيخ الدكتور صالح بن فوزان الفوزان
عضو هيئة كبار العلماء بالسعودية
الحمد لله رب العالمين ، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين ، وبعد:
فلا يـخفى ما ورد في الكتاب والسنة من الأمر باتباع ما شرعه الله ورسوله ، والنهي عن الابتداع في الديــــــن ،
قال تعالى
﴿قل إن كنــــتم تحبون الله فاتبعوني يحببكم الله ويغفر لكم ذنوبكم﴾
[2]،
وقال تعالى
﴿اتبعوا ما أنـزل إليكم من ربكم ولا تتبعوا من دونه أولياء قليلاً ما تذكرون﴾
[3]
،
وقال تعالى
﴿وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتفرق بكم عن سبيله﴾
[4]
،
وقال ﷺ :
(إن أصدق الحديث كتاب الله ، وخير الهدي هدي محمد ، وشر الأمور محدثاتها)
،
وقال ﷺ :
(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
، وفي رواية لمسلم:
(من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد).
وإن من جـملة ما أحدثه الناس من البدع المنكرة ؛ الاحتفال بذكرى المولد النبوي في شهر ربيع الأول ، وهم في هذا الاحتفال على أنواع:
فمنهم من يجعله مجرد اجتماع تُقرأ فيه قصة المولد ، أو تُقدم فيه خطب وقصائد في هذه المناسبة.
ومنهم من يصنع الطعام والحلوى وغير ذلك ، ويقدمه لمن حضر.
ومنهم من يقيمه في المساجد ، ومنهم من يقيمه في البيوت.
ومنهم من لا يقتصر على ما ذكر ، فيجعل هذا الاجتماع مشتملاً على محرمات ومنكرات من اختلاط الرجال بالنساء ، والرقص والغناء ، أو أعمال شركية ، كالاستغاثة بالرسول ﷺ وندائه والاستنصار به على الأعداء وغير ذلك.
وهو[5] بجميع أنواعه واختلاف أشكاله واختلاف مقاصد فاعليه لا شك ولا ريب أنه بدعة محرمة محدثة أحدثها الشيعة الفاطميون بعد القرون الثلاثة المفضلة لإفساد دين المسلمين ، وأول من أظهره بعدهم الملك المظفر أبو سعيد كوكبوري ملك إربل في آخر القرن السادس أو أول القرن السابع الهجري ، كما ذكره المؤرخون ، كابن كثير وابن خلكان وغيرهما.
وقال أبو شامة: وكان أول من فعل ذلك بالموصل الشيخ عمر بن محمد الملا ، أحد الصالحين المشهورين ، وبه اقتدى في ذلك صاحب إربل وغيره.
قال الحافظ ابن كثير في «البداية» في ترجمة سعيد كوكبوري:
وكان يعمل المولد الشريف في ربيع الأول ويحتفل به احتفالاً هائلاً ...
إلى أن قال: قال السبط:
حكى بعض من حضر سِماط [6]المظفر في بعض الموالد أنه كان يمد في ذلك السماط خمسة آلاف رأس مشوي ، وعشرة آلاف دجاجة ، ومائة ألف زبدية [7]، وثلاثين ألف صحن حلوى ...
إلى أن قال: ويعمل للصوفية سماعاً من الظهر إلى الفجر ، ويرقص بنفسه معهم[8].
وقال ابن خلكان في «وفيات الأعيان»: (فإذا كان أول صَفر زينوا تلك القِباب بأنواع الزينة الفاخرة المتجملة ، وقعد في كل قبة جَوق[9] من الأغاني ، وجوق من أرباب الخيال ومن أصحاب الملاهي ، ولم يتركوا طبقة من تلك الطبقات (طبقة القباب) حتى رتبوا فيها جوقاً ، وتبطل معايش الناس في تلك المدة ، وما يبقى لهم شغل إلا التفرج والدوران عليهم ..
إلى أن قال: فإذا كان قبل يوم المولد بيومين أَخرج من الإبل والبقر والغنم شيئاً كثيراً زائداً عن الوصف ، وزَفّها[10] بجميع ما عنده من الطبول والأغاني والملاهي ، حتى يأتي بها إلى الميدان ..
إلى أن قال: فإذا كانت ليلة المولد عمل السماعات بعد أن يصلي المغرب في القلعة).
فهذا مبدأ حدوث الاحتفال وإحيائه بمناسبة ذكرى المولد ، حدث متأخراً ومقترناً باللهو والسرف وإضاعة الأموال والأوقات وراء بدعة ما أنـزل الله بها من سلطان.
والذي يليـق بالمسلم إنما هو إحياء السنن وإماتة البدع ، وألا يُقدم على عمل حتى يعلم حكم الله فيه.
حكم الاحتفال بذكرى المولد النبوي
الاحتفال بمناسبة مولد الرسول ﷺ ممنوع ومردود من عدة وجوه:
أولاً: أنه لـم يكن من سنة الرسول ﷺ ولا من سنة خلفائه ، وما كان كذلك فهو من البدع المــمنوعة ، لقوله ﷺ : عليكم بســنتي وســنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، تمسكوا بها ، وعضوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل محدثة بدعة ، وكل بدعة ضلالة.
والاحتفال بالمولد محدث ، أحدثه الشيعة الفاطميون بعد القرون المفضلة لإفساد المسلمين ، ومن فعل شيئاً يتقرب به إلى الله تعالى ، لم يفعله الرسول ﷺ ، ولم يأمر به ، ولم يفعله خلفاؤه من بعده ؛ فقد تضمن فِعله إتهام الرسول بأنه لم يبين للناس دينهم ، وتكذيب
قوله تعالى
﴿اليوم أكملت لكم دينكم﴾
[11]
، لأنه جاء بزيادة يزعم أنها من الدين ولم يأت بها الرســول ﷺ .
ثانياً: في الاحتفال بذكرى المولد تشبه بالنصارى ، لأنهم يحتفلون بذكرى مولد المسيح عليه السلام ، والتشبه بهم محرم أشد التحريم ، ففي الحديث النهي عن التشبه بالكفار ، والأمر بمخالفتـهم ،
فقد قال ﷺ :
(من تشبه بقوم فهو منهم)
،
وقال:
(خالفوا المشركين)
، ولاسيما فيما هو من شعائر دينهم.
ثالثاً: أن الاحتفال بذكرى مولد الرسول مع كونه بدعة وتشبهاً بالنصارى - وكل منهما محرم - فهو كذلك وسيلة إلى الغلو والمبالغة في تعظيمه حتى يفضي إلى دعائه والاستغاثة به من دون الله ، كما هو الواقع الآن من كثير ممن يحيون بدعة المولد ، من دعاء الرسول من دون الله ، وطلب المدد منه ، وإنشاء القصائد الشركية في مدحه ، كقصيدة البردة وغيرها ،
وقد نهى ﷺ عن الغلو في مدحه فقال:
لا تطروني كما أطرت النصارى ابن مريم ، فإنما أنا عبدهُ ، فقولوا عبد الله ورسوله.
أي تغلو في مدحي وتعظيمي كما غلت النصارى في مدح الـمسيح وتعظيمه حتى عبدوه من دون الله ،
وقد نهاهم الله عن ذلك بقوله:
﴿يا أهل الكتاب لا تغلوا في دينكم ولا تقولوا على الله إلا الحق إنما المسيح عيسى ابن مريم رسول الله وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه﴾
[12].
ونهانا نبينا ﷺ عن الغلو خشية أن يصيبنا ما أصابهم ، فقال: إياكم والغلو ، فإنما هلك من كان قبلكم الغلو.
رابعًا: إن إحياء بدعة المولد يفتح الباب للبدع الأخرى والاشتغال بها عن السنن ، ولهذا تجد المبتدعة ينشطون في إحياء البدع ويكسلون عن السنن ، ويبغضونها ويعادون أهلها ، حتى صار دينهم كله ذكريات بدعية وموالد ، وانقسموا إلى فرق ، كل فرقة تحيي ذكرى موالد أئمتها ، كمولد البدوي وابن عربي والدسوقي والشاذلي ، وهكذا لا يفرغون من مولد إلا وينشغلون بآخر ، ونتج عن ذلك الغلو بهؤلاء الموتى وبغيرهم دعاؤهم من دون الله ، واعتقاد أنهم ينفعون ويضرون ، حتى انسلخوا من دين الإسلام وعادوا إلى دين أهل الجاهلية الذين
قال الله فيهم:
﴿ويعبدون من دون الله ما لا يضرهم ولا ينفعهم ويقولون هؤلاء شفعاؤنا عند الله﴾
[13]
، وقال تعالى
﴿والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى﴾
[14].
مناقشة شُبه مقيمي الموالد
يتعلق من يرى إحياء هذه البدعة بشُبهٍ أوهى من بيت العنكبوت ، ويمكن حصر تلك الشبُه فيما يلي:-
1- دعواهم أن في ذلك تعظيماً للنبي ﷺ .
والجـواب عن ذلك أن نقول: إنما تعظيمه ﷺ بطاعته وامتثال أمره واجتناب نهيه ومحبته ﷺ ، وليس تعظيمه بالبدع والخرافات والمعاصي ، والاحتفال بذكرى المولد من هذا القبيل المذموم لأنه معصية ، وأشد الناس تعظيماً للنبي ﷺ هم الصحابة رضي الله عنهم ، كما قال عروة بن مسعود لقريش: أيْ قوم ، والله لقد وفدت على الملوك ، ووفدت على قيصر وكسرى والنجاشي ، والله إن رأيت ملكاً قط يعظمه أصحابه ما يعظم أصحـاب محمداً ﷺ ، والله إن تَنخـم نخامة إلا وقعت في كفِّ رجل منهم ، فدلك بها وجهه وجلده ، وإذا أمرهم ابتدروا أمره ، وإذا توضأ كادوا يقتتلون على وضوئه ، وإذا تكلم خفضوا أصواتهم عنده ، وما يُحِدُّون النظر إليه تعظيماً له.
ومع هذا التعظيم ما جعلوا يوم مولده عيداً واحتفالاً ، ولو كان ذلك مشروعاً ما تركوه.
2- الاحتجاج بأن هذا عمل كثير من الناس في كثير من البلدان.
والجواب عن ذلك أن نقول: الحجة بما ثبت عن الرسول ﷺ ، والثابت عن الرسول ﷺ النهي عن البدع عموماً ، وهذا منها ، وعمل الناس إذا خالف الدليل فليس بحـجة وإن كثروا ،
﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلوك عن سبيل الله﴾
[15]،
مع أنه لا يزال – بحمد الله – في كل عصر من ينكر هذه البدعة ويبين بطلانها ، فلا حجة بعمل من استمر على إحيائها بعد ما تبين له الحق.
فمِمَّن أنكر الاحتفال بهذه المناسبة شيخ الإسلام ابن تيمية في «اقتضاء الصراط المستقيم» ، والإمام الشاطبي في «الإعتصام» ، وابن الحاج في «المدخل» ، والشيخ تاج الدين علي بن عمر اللخمي ألف في إنكاره كتاباً مستقلاً ، والشيخ محمد بشير السهسواني الهندي في كتابه «صيانة الإنسان» ، والسيد محمد رشيد رضا ألف فيه رسالة مستقلة ، والشيخ محمد ابن إبراهيم آل الشيخ
ألف فيه رسالة مستقلة ، وسماحة الشيخ عبد العزيز بن باز ، وغير هؤلاء ممن لا يزالون يكتبون في إنكار هذه البدعة كل سنة في صفحات الجرائد والمجلات في الوقت الذي تقام فيه هذه البدعة.
3- يقولون: إن في إقامة المولد إحياءً لذكر النبي ﷺ .
والجواب عن ذلك أن نقول: إن ذكرى الرسول ﷺ تتجدد مع المسلم ، ويرتبط بها المسلم كلما ذُكر اســـمه ﷺ في الآذان والإقامة والخــطب ، وكلما ردد المسـلم الشـهادتين بعد الوضـوء ، وفي الصلوات ، وكلما صلى على النبي ﷺ في صلواته وعند ذِكره ، وكلما عمل عملاً صالحاً واجباً أو مستحباً مما شرعه الرسول ﷺ فإنه بذلك يتذكره ، ويصل إليه من الأجر مثل أجر العامل ، وهكذا المسلم دائماً يحيي ذكرى الرسول ويرتبط به في الليل والنهار طوال عمره بما شرعه الله ، لا في يوم مولده فقط وبما هو بدعة ومخالفة لسنته ، فإن ذلك يُبعد عن الرسول ﷺ ويتبرأ منه ، والرسول ﷺ غني عن هذا الاحتفال البدعي بما شرعه الله له من تعظيمه وتوقيره كما في
قــــوله تعالى
﴿ورفعنا لك ذكرك﴾
[16]
، فلا يذكر الله عز وجل في أذان ولا إقامة ولا خطبة إلا ويذكر بعده الرسول ﷺ ، وكفى بذلك تعظيماً ومحبة وتجديداً لذكراه ، وحثاً على اتباعه.
والله سبحانه وتعالى لم يُنوه في القرآن بولادة الرسول ﷺ ، وإنما نوه ببعثته ،
فقال
﴿لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم﴾
[17]
، وقال
﴿هو الذي بعث في الأميين رسولاً منهم﴾
[18].
4- قد يقولون: الاحتفال بذكرى المولد النبوي أحدثه ملك عادل عالم ، قصد به التقرب إلى الله!
والجواب عن ذلك أن نقول: البدعة لا تُقبل من أي أحد كان ، وحُسن القصد لا يُسوغ العمل السيئ ، وكونه عالماً وعادلاً لا يقتضي عصمته.
5- قولهم: إن إقامة المولد من قبيل البدعة الحسنة ، لأنه ينبئ عن الشكر لله على وجود النبي الكريم!
ويجاب عن ذلك بأن يقال: ليس في البدع شيء حسن ، فقد قال ﷺ : (من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد) ، وقال ﷺ : (فإن كل بدعة ضلالة) ، فحكم على البدع كلها بأنها ضلالة ، وهذا يقول: ليس كل بدعة ضلالة ، بل هناك بدعة حسنة!
قال الحافظ ابن رجب [19]في «شرح الأربعين»:
فقوله ﷺ :
(كل بدعة ضلالة)
من جوامع الكلم ، لا يخرج عنه شيء [20]، وهو أصل عظيم من أصول الدين ،
وهو شبيه بقوله ﷺ :
(من أحدث في أمرنا هذا ما ليس منه فهو رد)
، فكل من أحدث شيئاً ونسبه إلى الدين ولم يكن له أصل من الدين يرجع إليه فهو ضلالة ، والدين برئ منه ، وسواء في ذلك مسائل الاعتقادات أو الأعمال أو الأقوال الظاهرة والباطنة. انتهى.
وليس لهؤلاء حجة على أن هناك بدعة حسنة إلا قول عمر رضي الله عنه في صلاة التراويح: نعمت البدعة هذه.
وقالوا أيضاً: إنها أحدثت شيئاً لم يستنكرها السلف ، مثل جمع القرآن في كتاب واحد ، وكتابة الحديث وتدوينه.
والجواب عن ذلك: أن هذه الأمور لها أصل في الشرع ، فليست محدثة.
وقول عمر: (نعمت البدعة) ؛ يريد البدعة اللغوية لا الشرعية ، فما كان له أصل في الشرع يرجع إليه إذا قيل إنه بدعة ؛ فهو بدعة لغة لا شرعاً ، لأن البدعة شرعاً ما ليس له أصل في الشرع يُرجع إليه.
وجمع القرآن في كتاب واحد له أصل في الشرع ، لأن النبي ﷺ كان يأمر بكتابة القرآن ، لكن كان مكتوباً متفرقاً ، فجمعه الصحابة في كتاب واحد حفظاً له.
والتراويح قد صـلاها النبي ﷺ بأصحابه ليالي وتخلف عنهم في الأخير خشية أن تفرض عليهم ، واستمر الصحابة رضي الله عنهم يصلونها أوزاعاً متفرقين في حياة النبي ﷺ وبعد وفاته ، إلى أن جمعهم عمر بن الخطاب رضي الله عنه خلف إمام واحد كما كانوا خلف النبي ﷺ ، وليس هذا بدعة في الدين.
وكتابة الحديث أيضاً لها أصل في الشرع ، فقد أمر النبي ﷺ بكتابة بعض الأحاديث لبعض أصحابه لما طُلب منه ذلك ، وكان المحذور من كتابته بصفة عامة في عهده ﷺ خشية أن يختلط بالقرآن ما ليس منه ، فلما توفي ﷺ انتفى هذا المحذور ، لأن القرآن قد تكامل وضُبط قبل وفاته ﷺ ، فدون المسلمون السنة بعد ذلك حفظاً لها من الضياع ، فجزاهم الله عن الإسلام والمسلمين خيراً ، حيث حفظوا كتاب الله وسنة نبيهم ﷺ من الضياع وعبث العابثين.
ويقال أيضاً: لما تأخر القيام بهذا الشكر – على زعمكم - ، فلم يقم به أفضل القرون من الصحابة والتابعين وأتباع التابعين ، وهم أشد مـحبة للنبي ﷺ وأحرص على فعل الخير والقيام بالشكر ، فهل كان من أحدث بدعة المولد أهدى منهم وأعظم شكراً لله عز وجل؟ حاشا وكلا.
6- قد يقـولون: إن الاحتفال بذكرى مولده ﷺ ينبئ عن محبته ، فهو مظهر من مظاهرها ، وإظهار محبته ﷺ مشروع.
والجواب أن نقول: لا شك أن محبته ﷺ واجبة على كل مسلم أعظم من محبة النفس والولد والوالد والناس أجمعين- بأبي هو وأمي صلوات الله وسلامه عليه - ، ولكن ليس معنى ذلك أن نبتدع في ذلك شيئاً لم يشرعه لنا ، بل محبته تقتضي طاعته واتباعه ، فإن ذلك من أعظم مظاهر محبته ، كما قيل:
لو كان حبك صادقاً لأطعته إن المحبَّ لمن يحب مطيع
فمحبته ﷺ تقتضي إحياء سنته ، والعض عليها بالنواجذ ، ومجانبة ما خالفها من الأقوال والأفعال ، ولا شك أن كل ما خالف سنته فهو بدعة مذمومة ومعصية ظاهرة ، ومن ذلك الاحتفال بذكرى مولده وغيره من البدع ، وحسن النية لا يبيح الإبتداع في الدين ، فإن الـدين مبني على أصلين: الإخـلاص والمتابعة ،
قال تعالى
﴿بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون﴾
[21]
، فإسلام الوجه هو الإخلاص لله ، والإحسان هو المتابعة للرسول وإصابة السنة.
7- ومن شبههم أنهم يقولون: إن في إحياء ذكرى المولد وقراءة سيرة الرسول ﷺ في هذه المناسبة حثاً على الإقتداء والتأسي به!
فنقول لهم: إن قراءة سيرة الرسول ﷺ والتأسي به مطلوبان من المسلم دائماً طوال السنة وطِـوال الحياة ، أما تخصيص يوم معين لذلك بدون دليل على التخصيص فإنه يكون بدعة ، وكل بدعة ضلالة ، والبدعة لا تثمر إلا شراً وبعداً عن النبي ﷺ .
وخلاصة القول أن الاحتفال بذكرى المولد النبوي بأنواعه واختلاف أشكاله بدعة منكرة يجب على المسلمين منعها ومنع غيرها من البدع ، والاشتغال بإحياء السنن والتمسك بها ، ولا يُغتر بمن يروج هذه البدعة ويدافع عنها ، فإن هذا الصنف يكون اهتمامهم بإحياء البدع أكثر من اهتمامهم بإحياء السنن ، بل ربما لا يهتمون بالسنن أصلاً ، ومن كان هذا شأنه فلا يـجوز تقليده والاقتداء به ، وإن كان هذا الصنف هم أكثر الناس ، وإنما يُقتدى بمن سار على نهج السنة من السلف الصالح وأتباعهم وإن كانوا قليلاً ، فالحق لا يٌعرف بالرجال ، وإنما يُعرف الرجال بالحق ،
قال ﷺ :
فإنه من يعش منكم فسيرى اختلافا كثيراً ، فعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديين من بعدي ، عضّوا عليها بالنواجذ ، وإياكم ومحدثات الأمور ، فإن كل بدعة ضلالة.
فبين لنا ﷺ في هذا الحديث الشريف بمن نقتدي عند الاختلاف ، كما بين أن كل ما خالف السنة من الأقوال والأفعال فهو بدعة ، وكل بدعة ضلالة.
وإذا عرضنا الاحتفال بالمولد النبوي لم نجد له أصلاً في سنة رسول الله ﷺ ، ولا في سنة خلفائه الراشدين ، إذن فهو من محدثات الأمور ومن البدع المضلة ، وهذا الأصل الذي تضمنه هذا الحديث قد دل عليه
قوله تعالى
﴿فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول إن كنتم تؤمنون بالله واليوم الآخر ذلك خير وأحسن تأويلاً﴾
[22].
والرد إلى الله هو الرجوع إلى كتابه الكريم ، والرد إلى الرسول ﷺ هو الرجوع إلى سنته بعد وفاته ، فالكتاب والسنة هما المرجع عند التنازع ، فأين في الكتاب والسنة ما يدل على مشروعية الاحتفال
بالمولد النبوي؟ فالواجب على من يفعله أو يستحسنه أن يتوب إلى الله تعالى منه ومن غيره من البدع ، فهذا هو شأن المؤمن الذي ينشد الحق ، وأما من عاند وكابر بعد قيام الحجة فإنما حسابه عند ربه.
هذا ، ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا التمسك بكتابه وسنة رسوله إلى يوم نلقاه ، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وآله وصحبه.
انتهى كلام الشيخ صالح بن فوزان الفوزان حفظه الله.
قال مقيده عفا الله عنه: ولما كان الاحتفال بالمولد النبوي وسيلة للإنحراف عن الشريعة ؛ استغل أعداء الإسلام هذه المناسبة ، وشجعوا على إقامتها ، ففي زمن احتلال فرنسا لمصر أمر نابليون بإقامة الاحـتفال بالمولد ، وتبرع له ، وحضر الحفل بنفسه ، لما فيه من الخروج عن الشريعة ، واجتماع النساء ، واتباع الشهوات ، وفعل المحرمات ، ذكر ذلك الجبرتي في «تاريخه»[23].
المراجع
- تقع هذه الفتوى في كتاب «حقوق النبي ﷺ بين الإجلال والإخلال» ، ص 139 وما بعدها ، الناشر: المنتدى الإسلامي – لندن.
- سورة آل عمران: 31 .
- سورة الأعراف: 3 .
- سورة الأنعام: 153 .
- أي الاحتفال بالمولد النبوي.
- السِّماط هو المائدة.
- الزِّبدية وعاء يخثر فيه اللبن. انظر «المعجم الوسيط».
- انتهى كلام الحافظ ابن كثير رحمه الله.
- الجوق هم كل خليط من رعاء الناس أمرهم واحد. انظر «المعجم الوسيط».
- زفها أي ذهب بها. انظر «المعجم الوسيط».
- سورة المائدة: 3 .
- سورة النساء: 171 .
- سورة يونس: 18 .
- سورة الزمر: 3 .
- سورة الأنعام: 116 .
- سورة الشرح: 4 .
- سورة آل عمران: 164 .
- سورة الجمعة: 2 .
- هو زين الدين أبو الفرج ، عبد الرحمـٰن بن أحمد البغدادي ثم الدمشقي المعروف بابن رجب الحنبلي ، من علماء الشام الأفذاذ ، عاش في القرن الثامن الهجري ، بلغ عدة شيوخه أربعين شيخا ، منهم ابن القيم وابن عبد الهادي رحمهما الله ، برَّز في الحديث والفقه فصار من أعلام المذهب الحنبلي ، له مؤلفات عديدة أبرزها «فتح الباري شرح صحيح البخاري» ، و «القواعد الفقهية» و «شرح علل الترمذي» و«جامع العلوم والحكم» ، و «ذيل طبقات الحنابلة». جمع بعض الباحثين رسائله المتفرقة في مجموع يقع في خمسة مجلدات ، ونشرتها دار الفاروق الحديثة بمصر. ترجم له ابن حجر رحمه الله في كتابه «إنباء الغمر» وابن العماد في «شذرات الذهب». توفي ابن رجب رحمه الله في دمشق سنة 795 هـ .
- أي لا يُستثنى شيء من البدع من هذا الأصل ، فكل بدعة ضلالة.
- سورة البقرة: 112 .
- سورة النساء: 59 .
- (2/306).