1. المقالات
  2. النصر المؤزر للنبى الموقر
  3. الحق العاشر: محبة النبي ﷺ أكثر من محبة النفس والمال والوالدَين والولد والناس أجمعين الجزء الثانى

الحق العاشر: محبة النبي ﷺ أكثر من محبة النفس والمال والوالدَين والولد والناس أجمعين الجزء الثانى

الكاتب : ماجد بن سليمان الرسى
696 2020/07/27 2020/07/27

وهذا الاقتران يدل على مدى الصلة الوثيقة بين محبة الله ومحبة رسوله ﷺ، وإن كانت محبة الرسول داخلة ضمن محبة الله تعالى أصلاً ، لكن إفرادها بالذكر مع أنها ضمن محبة الله فيه إشارة إلى عظم قدرها وإشعار بأهميتها ومكانتها.
فتأمل هذا التلازم بين محبة الله تعالى ومحبة نبيه ﷺ.
قال ابن القيم: وكل محبة وتعظيم للبشر فإنما تجوز تبعاً لمحبة الله وتعظيمه ، كمحبة رسول الله ﷺ وتعظيمه ، فإنها من تمام محبة مرسِـلِهِ وتعظيمه ، فإن أمته يحبونه لمحبة الله له ، ويعظمونه ويجلونه لإجلال الله له ، فهي محبة لله من موجبات محبة الله ، وكذلك محبة أهل العلم والإيمان ومحبة الصحابة رضي الله عنهم وإجلالهم تابع لمحبة الله ورسوله ﷺ لهم.
والمقصود أن النبي ﷺ ألقى الله سبحانه وتعالى عليه من المهابة والمحبة ، ولكل مؤمن مخلص حظ من ذلك[1].
فصل
والحب الصادق للنبي ﷺ له دلائل عدة ؛ أهمها وأولها موافقة النبي ﷺ في حب ما يحبه وكره ما يكرهه ، قال ابن رجب رحمه الله: فمن أحب الله ورسوله محبة صادقة من قلبه أوجب له ذلك أن يحب بقلبه ما يحبه الله ورسوله ، ويكره ما يكرهه الله ورسوله ، ويرضى بما يُرضي الله ورسوله ، ويَسخط ما يُسخَطُه الله ورسوله ، وأن يعمل بجوارحه بمقتضى هذا الحب والبغض ، فإن عمِل بجوارحه شيئا يخالف ذلك بأن ارتكب بعض ما يكرهه الله ورسوله ، أو ترك بعض ما يحبه الله ورسوله مع وجوبه والقدرة عليه ؛ دل ذلك على نقص محبته الواجبة ، فعليه أن يتوب من ذلك ويرجع إلى تكميل المحبة الواجبة ، قال أبو يعقوب النهرُجوري: كل من ادعي محبة الله عز وجل ولم يوافق الله في أمره فدعواه باطلة ، وكل مُحب ليس يخاف الله فهو مغرور[2].
وقال يحيى بن معاذ: ليس بصادق من ادعي محبة الله عز وجل ولم يحفظ حدوده.
ولبعض المتقدمين:
تعصي الإلـٰه وأنت تزعم حبه هذا لعمري في القياس شنيع 

لو كان حبك صادقا لأطعته إن المحب لمن يحب مطيع[3].[4]

فصل
وجميع المعاصي تنشأ من تقديم هوى النفوس على محبة الله ورسوله ، وقد وصف الله المشركين باتباع الهوى في مواضع من كتابه ،

فقال تعالى

[فإن لم يستجيبوا لك فاعلم أنما يتبعون أهواءهم ومن أضل ممن اتبع هواه بغير هدى من الله]

[5].


وكذلك البدع إنما تنشأ من تقديم الهوى على الشرع ، ولهذا يسمى أهلها أهل الأهواء ، وكذلك المعاصي إنما تقع من تقديم الهوى على محبة الله ومحبة ما يحبه[6].
ومن علامات محبة النبي ﷺ حب من أحبه الله ورسوله ﷺ ، قال ابن رجب رحمه الله: وكذلك حب الأشخاص ؛ الواجب فيه أن يكون تبعا لما جاء به الرسول ﷺ ، فيجب على المؤمن محبة الله ومحبة من يحبه الله من الملائكة والرسل والأنبياء والصديقين والشهداء والصالـحين عموما ، ولهذا كان من علامات وجوده حلاوة الإيمان أن يحب المرء لا يحبه إلا لله ، ويحرم موالاة أعداء الله ومن يكرهه الله عموما ، وبهذا يكون الدين كله لله ، ومن أحب لله وأبغض لله وأعطى لله ومنع لله فقد استكمل الإيمان ، ومن كان حبه وبغضه وعطاؤه ومنعه لهوى نفسه كان ذلك نقصا في إيمانه الواجب ، فيجب عليه التوبة من ذلك والرجوع إلى اتباع ما جاء به الرسول ﷺ من تقديم محبة الله ورسوله وما فيه رضا الله ورسوله على هوى النفس ومراداتها كلها[7].
فصل

ومن علامات محبة النبي ﷺ بغض من أبغضه الله ورسوله ﷺ ،

قال تعالى

[لا تجد قوماً يؤمنون بالله واليوم الآخر يوادّون من حاد الله ورسوله ولو كانوا آباءهم أو أبناءهم أو إخوانهم أو عشيرتهم أولئك كتب في قلوبهم الإيمان وأيدهم بروح منه ويدخلهم جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها رضي الله عنهم ورضوا عنه أولئك حزب الله ألا إن حزب الله هم المفلحون]

، وقال

]يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا عدوي وعدوكم أولياء تلقون إليهم بالمودة[ إلى قوله ]قد كانت لكم أسوة حسنة في إبراهيم والذين معه إذ قالوا لقومهم إنا برآء منكم ومما تعبدون من دون الله كفرنا بكم وبدا بيننا وبينكم العداوة والبغضاء أبدا حتى تؤمنوا بالله وحده[.

قال شيخ الإسلام ابن تيمية:
والمؤمن عليه أن يعادي في الله ، ويوالي في الله ، فإن كان هناك مؤمن فعليه أن يواليه وإن ظلمه ، فإن الظلم لا يقطع الموالاة الإيمانية ، قال تعالى }وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله فإن فاءت فأصـلحوا بينهما بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين * إنما المؤمنون إخوة{ ، فجعلهم إخوة مع وجود القتال والبغي والأمر بالإصلاح بينهم ...
وليعلم أن المؤمن تجب موالاته وإن ظلمك واعتدى عليك ، والكافر تجب معاداته وإن أعطاك وأحسن إليك.
فإن الله سبحانه بعث الرسل وأنـزل الكتاب ليكون الدين كله لله ، فيكون الحب لأوليائه ، والبغض لأعدائه ، والإكرام لأولياءه والإهانة لأعدائه ، والثواب لأوليائه والعقاب لأعدائه.
وإذا اجتمع في الرجل الواحد خير وشر وفجور ، وطاعة ومعصية ، وسنة وبدعة ؛ استحق من الموالاة والثواب بقدر ما فيه من الخير ، واستحق من المعاداة والعقاب بحسب ما فيه من الشر ، فيجتمع في الشخص الواحد موجبات الإكرام والإهانة ، فيجتمع له من هذا وهذا ، كاللص الفقير تقطع يده لسرقته ، ويعطى من بيت المال ما يكفيه لحاجته ، هذا هو الأصل الذي اتفق عليه أهل السنة والجماعة[8].
فصل 

والناس باعتبار الحب والبغض والولاء والبراء ينقسمون إلى ثلاثة أصناف: 
الصنف الأول: من يُحَب جـملة ، وهو من آمن بالله ورسوله ، وقام بوظائف الإسلام ومبانيه العظام ، علماً وعملاً واعتقادا ، وأخلص أعماله وأفعاله وأقواله لله ، وانقاد لأوامره ، وانتهى عما نهى الله عنه ورسوله ، وأحب في الله ، ووالى في الله ، وأبغض في الله ، وعادى في الله ، وقدم قول رسول الله ﷺ على قول كل أحد كائناً من كان.
الصنف الثاني: من يحب من وجه ويبغض من وجه ، وهو المسلم الذي خلط عملاً صالحاً وآخر سيئاً ، فيُـحَب ويوالى على قدر ما معه من الخير ، ولا يُبغض أكثر مما يصلح ، وإذا أردت الدليل على ذلك ؛ فهو في قصة ذلك الرجل من الصحابة والذي كان يشرب الخمر ، فأُتي به إلى رسول الله ﷺ ، فلعنه رجل وقال: ما أكثر ما يؤتى به ، فقال النبي ﷺ : لا تلعنه فإنه يحب الله ورسوله.
الصنف الثالث: من يُبغَض جملة ، وهو من كفر بالله وملائكته وكتبه ورسله واليوم الآخر ، ولم يؤمن بالقدر خيره وشره ، وأنه كُلُّه بقضاء الله وقدره ، وأنكر البعث بعد الموت ، أو أنكر أحد أركان الإسلام الخمسة ، أو أشرك بالله في عبادته أحداً من الأنبياء والأولياء والصالحين ، وصرف لهم نوعاً من أنواع العبادة ، كالحب والدعاء والخوف والرجاء والتعظيم والتوكل والاستعانة والاستعاذة والاستغاثة والذبح والنذر والإنابة والذل والخضوع والخشية والرغبة والرهبة والتعلق ، أو ألـحَد في أسـمائه وصفاته واتبع غير سبيل المؤمنين ، وانتحل ما كان عليه أهل البدع والأهواء الَمُضِلَّة ، وكذلك من قامت به نواقض الإسلام العشرة أو أحدهما)[9].
ومن دلائل الصدق في محبة النبي ﷺ تمني رؤية النبي ﷺ في الآخرة وصحبته ،

فعن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ﷺ قال:

مِن أشد أمتي لي حباً ؛ ناسٌ يكونون بعدي ، يود أحدهم لو رآني بأهله وماله

[10].


ومن دلائل الصدق في محبة النبي ﷺ الاجتهاد في الأعمال التي تقرب لرؤية النبي ﷺ في الآخرة وصحبته ، مثل التحلي بالأخلاق الفاضلة ،

فعن جابر بن عبد الله أن رسول الله ﷺ قال:

إن من أحبكم إلي وأقربكم مني مجلسا يوم القيامة أحاسنكم أخلاقا ، وإن أبغضكم إلي وأبعدكم مني مجلسا يوم القيامة الثرثارون والمتشدقون والمتفيهِقون. قالوا: يا رسول الله ، قد عـلِمنا الثرثارون والمتشدقون ، فما الـمُتفيهقون؟  قال: المتكبرون.


قال الترمذي: والثرثار هو الكثير الكلام ، والمتشدق الذي يتطاول على الناس في الكلام ويبذو[11] عليهم[12].
ومن أسباب صحبة النبي ﷺ في الآخرة كفالة اليتيم ، بأن يضمه إلى عِـياله ،

فعن سهل بن سعد قال: قال رسول الله ﷺ :

أنا وكافل اليـتـيـم فـي الجنة هكذا ، وأشار بالسبابة والوسطى ، وفرج بينهما شيئا

[13].


فصل
وقد ضرب السلف أروع الأمثلة في تشوقهم للقاء النبي ﷺ ، فقد روى أبو يعلى في مسنده عن الحسن البصري

عن أنس بن مالك قال:

كان رسول الله ﷺ يخطب يوم الجمعة إلى جنبِ خشبةٍ يُسند ظهره إليها ، فلما كثر الناس قال: (ابنوا لي منبرا) ، فبنوا له منبرا له عَـتَبتان ، فلما قام على المنبر يخطب حنَّت الخشبة إلى رسول الله ﷺ ، قال أنس: وإني في المسجد ، فسمعت الخشبة حين حنَّت حنين الوالِـه [14]، فما زالت تَحِنُّ حتى نـزل إليها رسول الله ﷺ فاحتضنها فسكنت

، قال: فكان الحسن إذا حدث بهذا الحديث بكى ثم قال: يا عباد الله ، الخشبـة تحن إلى رسول الله ﷺ شوقا إليه لمكانه من الله ، فأنتم أحق أن تشتاقوا إلى لقائه[15].
فصل

والذنوب تُنقِص من محبة الله تعالى ورسوله بقدرها ، فكلما كثرت الذنوب وعظمت دل هذا على نقص في محبة النبي ﷺ، ولكنها لا تزيل المحبة لله والرسول زوالا كليا إلا إذا كانت عن كفر ونفاق أكبر ،

كما في صحيح البخاري عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه في حديث حِمار الذي كان يشرب الخمر

، وكان النبي ﷺيقيم عليه الحد ، فأُتي به يوما ، فأمر به فجُلد ، فقال رجل من القوم: (اللهم العنه ، ما أكثر ما يؤتى به) ، فقال النبي ﷺ: (لا تلعنه ، فوالله ما علمت أنه يحب الله ورسوله)

[16]

، أي الذي علمت أنه يحب الله ورسوله ، لأن «ما» هنا موصولة بمعنى «الذي».
فهذا الحديث يفيد أن المعصية لا تزيل المحبة زوالا كليا إلا إذا بلغت درجة الكفر ، وفي الحديث دلالة على أنا منهيون عن لعنة أحد بعينه وإن كان مذنباً ، إذا كان يحب الله ورسوله[17].
فصل
وفضائل محبة النبي ﷺ كثيرة ، منها أن من أحب النبي ﷺ كان معه في الآخرة ،

فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رجلا سأل النبي ﷺ عن الساعة فقال:

متى الساعة؟  قال: وماذا أعددت لها؟ قال: لا شيء ، إلا أني أحب الله ورسوله ﷺ .  قال: أنت مع من أحببت. قال أنس: فما فرحنا بشيء فرحنا بقول النبي ﷺ : أنت مع من أحببت.  قال أنس: فأنا أحب النبي ﷺ وأبا بكر وعمر ، وأرجو أن أكون معهم بِـحُـبِّـي إياهم وإن لم أعمل بمثل أعمالهم

[18].

وروي عن الشعبي قال:

جاء رجل من الأنصار إلى رسول الله ﷺ ، فقال: لأنت أحب إلي من نفسي وولدي وأهلي ومالي ، ولولا أني آتيك فأراك لظننت أني سأموت ، وبكى الأنصاري.  فقال له النبي ﷺ : ما أبكاك؟  قال: ذكرت أنك ستموت ونموت ، فترفع مع النبيين ، ونحن إن دخلنا الجنة كنا دونك. فلم يخبره النبي ﷺ بشيء ، فأنـزل الله عز وجل على رسوله ﷺ }ومن يطع الله والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء[ إلى قوله ]عليما{. فقال: أبشر

[19].


فصل
والأسباب المعينة على حب النبي ﷺ متعددة ، وأهمها أربعة:
الأول: تذكر تضحياته لأمته وشفقته عليهم ، فقد لقي النبي ﷺ في سبيل نشر الإسلام أذىً عظيما ،

ومن ذلك ما روته عائشة رضي الله عنها وعن أبيها أنها قالت لرسول الله ﷺ :

يا رسول الله ، هل أتى عليك يوم كان أشد من يوم أحد؟  فقال: لقد لقيت من قومك ، وكان أشد ما لقيت منهم يوم العقبة ، إذ عَرضت نفسي على ابن عبدِ ياليل بن عبد كِلال ، فلم يُجبني إلى ما أردت ، فانطلقت وأنا مهموم على وجهي ، فلم أستفِق إلا بـ (قرن الثعالب) ، فرفعت رأسي فإذا أنا بسحابة قد أظلتني ، فنظرت فإذا فيها جبــــريل ، فناداني ، فقال: (إن الله قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك ، وقد بَعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم) ، قال: فناداني ملـك الجـبال ، فـسـلم علي ثم قال: يا محمد ، إن الله قد سمع قول قومك لك ، وأنا ملك الجبال ، وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك ، فما شئت؟ إن شئت أطبقت عليهم الأخشبين[20]. فقال له رسول الله ﷺ : بل أرجو أن يخرج الله من أصلابهم من يعبد الله وحده ، لا يشرك به شيئاً

[21].

وقال ربيعة بن عِباد:

رأيت رسول الله ﷺ وهو يدعو الناس إلى الإسلام بذي المجاز[22] ، وخلفه رجل أحول يقول: لا يغلبنكم هذا عن دينكم ودين آبائكم. قلت لأبي وأنا غلام: من هذا الأحول الذي يمشي خلفه؟ قال: هذا عمه أبو لهب

[23].

وعن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال:

لما كان يوم حنين ؛ آثر النبي ﷺ ناسا ، أعطى الأقرع مائة من الإبل ، وأعطى عيينة مثل ذلك ، وأعطى ناسا ، فقال رجل: ما أريد بهذه القسمة وجه الله! فقلت: لأخبرن النبي ﷺ . قال: رحم الله موسى ، قد أوذي بأكثر من هذا فصبر.

[24]


الثاني: ومما يقوي محبة النبي ﷺ تذكر شفقته العظيمة على أمته من الهلاك الأخروي ، كما قال تعالى ﴿لقد جاءكم رسول من أنفسكم عزيز عليه ما عنتم حريص عليكم بالمؤمنين رءوف رحيم﴾[25].
وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه سمع رسول الله ﷺ يقول: إنما مثلي ومثل الناس كمثل رجل استوقد نارا ، فلما أضـاءت ما حـوله جـعل الـفراش وهـذه الدواب التي تقع في النار يقعن فيها ، فجعل الرجل يزَعهن[26] ويغلِبنه فيقتحمن فيها ، فأنا آخذ بـِحُجزكم [27]عن النار وأنتم تَقَحَّمون [28]فيها[29].
الثالث: ومـما يقوي محبة النبي ﷺ معرفة صفاته الحميدة وأخلاقه الطيبة ، والكلام في هذا يطول جدا ، ولكن يكفي القول بأنه ليس ثمة صفة حميدة إلا وقد تحلى بها النبي ﷺ ، وما من خلق سيء إلا والنبي ﷺ منـزه عنه ، ويكفي في هذا الباب قوله تعالى ﴿وإنك لعلى خلق عظيم﴾[30].

ومن أعظم صفات النبي ﷺ الصدق والعفو ، فقد شهد له أعداؤه بصفة الصدق ،

فعن ابن عباس رضي الله عنهما قال:

لما نـزلت ]وأنذر عشيرتك الأقربين[ ؛ صعد النبي ﷺ على الصفا فجعل ينادي: يا بني فِهر ، يا بني عدي ، لبطون قريش ، حتى اجتمعوا ، فجعل الرجل إذا لم يستطع أن يَخرج أرسل رسولا لينظر ما هو ، فجاء أبو لهب وقريش فقال: أرأيتكم لو أخبرتكم أن خيلاً بالوادي تريد أن تُـغير عليكم أكنتم مصدقي؟ قالوا: نعم ، ما جربنا عليك إلا صدقا. قال: فإني نذير لكم بين يدي عذاب شديد. فقال أبو لهب: تباً لك سائر اليوم ، ألهذا جمعتنا؟  فنـزلت {تبت يدا أبي لهب وتب * ما أغنى عنه ماله وما كسب}

[31].

وروى الطبري عن السدي في قوله

]قد نعلم إنه ليحزنك الذي يقولون فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون[

الآية[32]:


التقى الأخنس وأبو جهل ، فخلا الأخنس بأبي جهل فقال: يا أبا الحكم ، أخبرني عن محمد ، أصادق هو أم كاذب ، فإنه ليس هاهنا من قريش أحد غيري وغيرك يسمع كلامنا.
فقال أبو جهل: ويحك ، والله إن محمدا لصادق وما كذب محمد قط ، ولكن إذا ذهب بنو قصي باللواء والحجابة والسقاية والنبوة ، فماذا يكون لسائر قريش؟

فذلك قوله

[فإنهم لا يكذبونك ولكن الظالمين بآيات الله يجحدون].

فآيات الله ؛ محمد ﷺ .
ولما أخبر النبي ﷺ خديجـة رضي الله عنها أنه خشي على نفسه لما أتاه جبريل في غار حراء ؛ قالت له: كلا أبـشر ، فـوالله لا يـخزيك الله أبدا ، فوالله إنك لتصل الرحم ، وتصدق الحديث ، وتَـحمِلُ الكَلْ [33]، وتَـكسِب المعدوم [34]، وتَقري الضيف[35] ، وتُعين على نوائب الحق[36].

وسأل هرقل أبا سفيان عن النبي ﷺ ؛ هل كنتم تتهمونه بالكذب قبل أن يقول ما قال ، فقال أبو سفيان: لا ، فقال هرقل: أعرف أنه لم يكن ليذر الكذب على الناس ويكذب على الله[37].
وأما العفو فقد ضرب النبي ﷺ أعظم الأمثلة في ذلك ، وقد أتى ذِكر هذه الخصلة في النبي ﷺ في التوراة والإنجيل قبل أن يُرى هذا عيانا منه ﷺ ، فعن عطاء بن يسار قال: لقيت عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنهما قلت: أخبرني عن صفة رسول الله ﷺ في التوراة.
قال: أجل ، والله إنه لموصوف في التوراة ببعض صفته في القرآن ،

[يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا]

، وحِرزا للأميين[38] ، أنت عبدي ورسولي ، سميتك المتوكل ، ليس بفظ ولا غليظ ، ولا سخَّاب[39] في الأسواق ، ولا يدفع بالسيئة السيئة ، ولكن يعفو ويغفر ، ولن يقبضه الله حتى يقيم به الملة العوجاء ، بأن يقولوا «لا إلـٰه إلا الله» ، ويفتح بها أعينا عميا ، وآذانا صما ، وقلوبا غُلفا[40].
ومن أعظم صفات النبي ﷺ أنه يعفو ويصفح ، وهذه لا يستطيعها إلا ذو خلق عظيم ، وسجايا كريمة ، فقد قال عنه أهل مكة أنه ساحر ، وشاعر ، ومجنون ، وصابئ ، وضرب على عقبه ، وخُـنِق بسلا الجزور[41] ، وكسرت رباعيته ، ودمي وجهه الشريف ، ثم لما أمكنه الله من أهل مكة بعدما فعلوا به ما فعلوا قال لهم: يا أهل مكة ، ما ترون أني فاعل بكم؟
قالوا: خيرا ، أخٌ كريم وابن أخٍ كريم.
ثم قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء.

فأعتقهم رسول الله ، وقد كان الله أمكنه من رقابهم عنوة ، وكانوا له فيئا ، فبذلك يُسمَّى أهل مكة «الطلقاء»[42].

ولما تُـوُفي رأس المنافقين عبد الله بن أبي بن سلول ، أتى النبي ﷺ قبره بعدما دفن ، فأخرجه فنفث فيه من ريقه ، وكفنه في قميصه ، وصلى عليه صلاة الجنازة ، وكان هذا قبل نـزول النهي عن الصلاة على الكفار ،

قال ابن عمر:

لما توفي عبد الله بن أبي ابن سلول جاء ابنه عبد الله بن عبد الله إلى رسول الله ﷺ ، فسأله أن يعطيه قميصه ، أن يكفن فيه أباه ، فأعطاه ، ثم سأله أن يصلي عليه ، فقام رسول الله ﷺ ليصلي عليه ، فقام عمر فأخذ بثوب رسول الله ﷺ فقال: يا رسول الله ، أَتُصلي عليه وقد نهاك الله أن تصلي عليه؟  فقال رسول الله ﷺ : إنما خيَّرني الله فقال }استغفر لهم أو لا تستغفر لهم إن تستغفر لهم سبعين مرة{ وسأزيد على سبعين.  قال: إنه منافق ، فصلى عليه رسول الله ﷺ ، وأنـزل الله عز وجل[ولا تصل على أحد منهم مات أبدا ولا تقم على قبره]

[43].

فإن قيل: فلماذا صلى عليه النبي ﷺ ونفَث عليه من ريقِه وكفَّنه بقميصه؟
فالجواب أن عبد الله بن عبد الله بن أبي - الصحابي الجليل - طلب من النبي ﷺ ذلك ، فإنه كان صحابيا صالحا ، فلم يردُّه تطييبا لقلبه ، ولم يكن ﷺ يرد سائلا. 
وقيل: إنما أعطاه قميصه مكافأة له لأنه كان ألبس العباس حين أُسر يوم بدر قميصا.
قال النووي رحمه الله: إن النبي ﷺ أعطاه قميصه ليكفن فيه ، وفي هذا الحديث بيان عظيم مكارم أخلاق النبي ﷺ ، فقد علم ما كان من هذا المنافق من الإيذاء ، وقابله بالحسنى ، فألبسه قميصه كفنا ، وصلى عليه ، واستغفر له ،

قال الله تعالى

[وإنك لعلى خلق عظيم].

انتهى[44].
الرابع: ومما يقوي محبة النبي ﷺ الإكثار من قراءة كتب السيرة النبوية والمطالعة فيها ، وتذكر أحوال الرسول ﷺ وأعماله وجهاده وتكوينه للمجتمع الإسلامي.

ومن الكتب التي ينصح بمطالعتها كتاب «السيرة» لابن إسحاق ، وكتاب «الفصول في سيرة الرسول ﷺ » لابن كثير ، و «السيرة النبوية» لابن هشام ، و «الرحيق المختوم» للمباركفوري ، و «مختصر سيرة الرسول ﷺ» للشيخ محمد بن عبد الوهاب رحمه الله ، وكتاب «الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ » للقاضي عياض رحمه الله ، وكتاب «السيرة النبوية الصحيحة» للدكتور أكرم ضياء العمري وهو كتابٌ قمة في التوثيق العلمي ، ونحوها من الكتب.
فصل
وقد ضرب السلف أروع الأمثلة في حب النبي ﷺ وتقديمه على النفس والأهل والمال ،

فعن زيد بن ثابت رضي الله عنه قال:

بعثني رسول الله ﷺ يوم أحد لطلب سعد بن الربيع وقال لي: إن رأيته فأقرئه مني السلام وقل له: يقول لك رسول الله: كيف تجدك؟ قال: فجعلت أطوف بين القتلى فأصبته وهو في آخر رمق وبه سبعون ضربة ، ما بين طعنة برمح ، وضربة بسيف ، ورمية بسهم ، فقلت له: يا سعد ، إن رسول الله ﷺ يقرأ عليك السلام ويقول لك: خبِّـرني كيف تجدك. [46]قال: عـلى رسول الله السلام وعليك السلام ، قل له: يا رســول الله ، أجِــدُني أجــد ريــح الجنة ، وقل لقومي الأنصار: لا عذر لكم عند الله أن يُخلص [45]إلى رسول الله ﷺ وفيكم شُـفرٌ يَطرِف[47]. قال: وفاضت نفسه رحمه الله.

[48]


وسأَل أبو سفيان بن حرب - وهو على الشرك حينذاك - زيد بن الدثنة رضي الله عنه حينما أخرجه أهل مكة من الحرم ليقتلوه: أنشدك الله يا زيد ، أتحب محمداً عندنا الآن في مكانك نضرب عنقه وإنك في أهلك؟ 
قال: والله ما أحب أن محمداً الآن في مكانه الذي هو فيه تصيبه شوكة تؤذيه وأني جالس في أهلي.
فقال أبو سفيان: ما رأيت من الناس أحداً يحب أحداً كحب أصحاب محمدٍ محمداً[49].

وقال عمرو بن العاص رضي الله عنه: وما كان أحد أحب إليّ من رسول الله ﷺ ولا أجلّ في عيني منه ، وما كنت أطيق أن أملأ عيني منه إجلالاً له ، ولو سئلت أن أصفه ما أطقت لأني لم أكن أملأ عيني منه[50].
وروى ابن جرير في «تاريخه» عن إسماعيل بن محمد بن سعد بن أبي وقاص قال: مر رسول الله بامرأة من بني دينار وقد أصيب زوجها وأخوها وأبوها مع رسول الله بـ «أحد» ، فلما نُــــعُـــوا لها قالت: فما فعل رسول الله؟
قالوا: خيرا يا أم فلان ، هو بحمد الله كما تحبين.
قالت: أرِنِـــيه حتى أنظر إليه.
فأشير لها إليه ، حتى إذا رأته قالت: كل مصيبة بعدك جَــــلَل[51].
ولقد حكّم الصحابة رضوان الله عليهم رسول الله ﷺ في أنفسهم وأموالهم قُـــــبَــــيل غزوة بدر لما دنا المشركون منهم فقال سعد بن عبادة: والذي نفسي بيده لو أمرتنا أن نُـخيضها البحر لأخضناها [52]، ولو أمرتنا أن نضرب أكبادها إلى «بَـرَك الغماد» لفعلنا[53].
بل كان بعض السلف يبكي إذا ذُكر النبي ﷺ ، فقد سُئل مالك: متى سمعت من أيوب السختياني؟
فقال: حَجَّ حِجتين ، فكنت أرمُقُهُ ولا أسـمع منه ، غير أنه كان إذا ذكر النبي ﷺ بكى حتـى أرحـمُه ، فلما رأيت منه ما رأيت وإجلاله للنبي ﷺ كتبت عنه[54].
فصل

ومن تلبيس الشيطان على بعض الجهلة وأهل الأهواء أن زين لهم فعل أمور ليست من الدين يزعمون أنها من تمام المحبة له ، وهذا جهل عظيم ، لأن المحبة تقتضي التسليم للمحبوب ، وتتبع آثاره ، والوقوف عند أمره ونهيه ، والحرص على عدم النقص أو الزيادة في دينه ، ومن هذا ما يسمى بـ «المولد النبوي» ، وفي خاتمة هذا البحث المبارك جواب عن هذه الظاهرة ، والله المستعان.


المراجع

  1. «جلاء الأفهام في فضل الصلاة والسلام على محمد سيد الأنام» ، الباب الثاني ، ص 297 – 298 .
  2. «جامع العلوم والحكم» ، شرح الحديث الحادي والأربعين.
  3. هذا البيت وإن كان مُتَعلقه حب الله عز وجل فإن مطرد في حق النبيﷺ، لأن كلا المحبتين مستلزمة للأخرى.
  4. «جامع العلوم والحكم» ، شرح الحديث الحادي والأربعين ، باختصار يسير. 
  5. سورة القصص: 50 .
  6. «جامع العلوم والحكم» ، شرح الحديث الحادي والأربعين.
  7. المرجع السابق ، باختصار.
  8. «مجموع الفتاوى» (28/208 – 209) ، باختصار يسير.
  9. «إرشاد الطالب» للشيخ سليمان بن سحمان ، ص 19 ، بتصرف يسير جدا.
  10. رواه مسلم (2832).
  11. أي يتلفظ بالكلام البذيء.
  12. رواه الترمذي (2018) ، وصححه الألباني.
  13. رواه البخاري (5303) ، وأحمد (5/333).
  14. الوَلَه ذهاب العقل ، والتحير من شدة الوجد. انظر «النهاية».
  15. رواه أبو يعلى (5/142) (2756) ، والترمذي مختصرا (3627) ، ورواه ابن ماجه (1414) عن أبي بن كعب ، واللفظ لأبي يعلى.
  16. رواه البخاري (6780).
  17. «قاعدة في المحبة» ، ص 259 ، وتقع في «جامع الرسائل» لابن تيمية ، المجموعة الثانية ، تحقيق د. محمد رشاد سالم.
  18. رواه البخاري (3688) ومسلم (2639).
  19. أخرجه سعيد بن منصور في «سننه» (4/1307).
  20. الأخشب هو الجبل الغليظ ، والمقصود بالأخشبان هنا هما جبلان عظيمان بمكة ، وهما أبو قبيس والأحمر. انظر «النهاية».
  21. رواه البخاري (3231) ومسلم (1795) ، واللفظ لمسلم.
  22. ذي المجاز سوق مشهور من أسواق الحجاز ، كان يقام في الجاهلية.
  23. رواه عبد الله أحمد في زوائده على مسند أبيه (3/492) ، وقال محققو المسند: حديث صحيح.
  24. رواه البخاري (4336) ومسلم (1062).
  25. سورة التوبة: 128 .
  26. أي يدفعها ويطردها.
  27. حُـجَزِكم جمع حُـجزة وهي موضع شد الإزار. انظر «النهاية».
  28. تقحَّمون أي ترمون بأنفسكم فيها من غير روية ولا تثبت. انظر «النهاية».
  29. رواه البخاري (6483) ، ومسلم (2284).
  30. سورة القلم: 5 .
  31. رواه البخاري (4770) ، ومسلم (208).
  32. سورة الأنعام: 33 .
  33. تحمل الكل أي تحمل عن الناس ما يُـثقلهم من أعباء الدنيا. انظر «النهاية».
  34. تَكسِب المعدوم أي تعطيه ، والمعدوم هو الذي لا مال عنده. انظر «النهاية».
  35. تَقري الضيف أي تكرمه.
  36. رواه البخاري (4953) ، ومسلم (160).
  37. رواه البخاري (7) ومسلم (1773)
  38. أي حافظا لدينهم. انظر «تفسير غريب ما في الصحيحين» للحميدي.
    والأميون هم العرب بالإجماع ، قاله الشنقيطي في تفسير قوله تعالى من سورة البقرة ]ربنا وابعث فيهم رسولا منهم يتلو عليم آياتك ويزكيهم[ الآية
  39. سخاب ويصح صخاب ، والسخب هو الصياح والضوضاء والجلبة ، أي ليس ممن ينافس في الدنيا وجمعها ، فيحضر الأسواق لذلك ، ويصخب معهم في ذلك. انظر «تفسير غريب ما في الصحيحين».
  40. رواه البخاري (2125).
  41. الجزور هو البعير ، ذكرا كان أم أنثى ، وسلاه هي الجلدة الرقيقة التي يكون فيها الولد من الـمواشي ، قاله العيني في «عمدة القاري» ، كتاب الجهاد والسير ، باب الدعاء على المشركين بالهزيمة والزلزلة.
  42. رواه الطبري في «تأريخه» ، ذكر الخبر عن فتح مكة ، وانظر «أخبار مكة» (2/121) للأزرقي.
  43.  رواه البخاري (1269) ، ومسلم (2400) واللفظ له.
  44. «شرح صحيح مسلم».
  45.  أي يصل إليه من أراده ، والمقصود هنا من أراده بسوء. انظر «النهاية».
  46. الشفر بالضم وقد يفتح هو حرف جفن العين الذي ينبت عليه الشعر. انظر «النهاية».
  47.  الطرف هو تحريك الجفون. انظر «لسان العرب».
  48. رواه الحاكم في «المستدرك على الصحيحين» (3/201) ، وابن إسحاق في «السيرة» (3/314) (517) ، في ذكر أخبار غزوة أحد.
  49. انظر «السيرة النبوية» لابن هشام ذكر يوم الرجيع ، سنة ثلاث ، وعزاه لسيرة ابن إسحاق.
  50. رواه مسلم (121).
  51. كلمة «جلل» من الأضداد ، تقال للأمر الهين وتقال للأمر العظيم ، والمقصود هنا الهين. انظر «النهاية» .
  52. يعني خيولهم.
  53. رواه مسلم (1779) عن أنس رضي الله عنه.
    قال ياقوت الحموي في «معجم البلدان»: وبِـرَكِ الغِماد - بكسر الغين - موضع وراء مكة بخمس ليال مما يلي البحر ، وقيل بلد باليمن.

  54. ذكره ابن عبد البر في «التمهيد» ، كتاب الصلاة ، باب ما يفعل من سلم من ركعتين ساهيا ، وذكره أبو الوليد الباجي في «التعديل والتجريح لمن خرج له البخاري في الجامع الصحيح» ، باب أيوب.
المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day