البحث
الهجرة إلى الحبشة
وثبتت القاعدة الصلبة وتجاوزت الصدمة الأولى بنجاح كبير. .
وكان الذين يعلنون إسلامهم بعد ذلك يعلمون مسبقاً ما ينتظرهم، ولذا فقد كانت نفوسهم مهيأة لذلك. ولم يحصل بعد المرة الأولى أن فتن مسلم وافتتن لهذا السبب الذي ذكرناه.
ولا يعني هذا أن قريشاً قد تحسن موقفها أو أنها هادنت الدعوة. فقد كان على كل مسلم يعلم إسلامه أن ينال الضرب والشتم. وهذا ما أصاب عمر بن الخطاب يوم إسلامه. فقد ثاروا إليه فما برح يقاتلهم ويقاتلونه حتى قامت الشمس على رؤوسهم، فقعد وقاموا على رأسه وهو يقول: افعلوا ما بدا لكم. . وفي رواية البخاري أنهم أحاطوا ببيته ولم يدفعهم عنه إلا العاص بن وائل السهمي.
واستمر البلاء كذلك. . يتجدد كلما كانت هناك مناسبة. . فهذا ابن مسعود يضرب ضرباً شديداً يوم قرأ القرآن في الحرم. وهذا أبو بكر يضرب كذلك يوم خطب في الحرم. وهذا أبو ذر يضرب يوم أعلن إسلامه.
على أن هذا لم يمنع استمرار الدعوة ودخول الناس في الإسلام، وإن كان عاملاً من عوامل التريث لدى بعض من كان لهم رغبة في الدخول في هذا الدين.
وقد تفننت قريش بألوان المضايقات. فكان أبو جهل إذا جهل إذا سمع بالرجل قد أسلم، له شرف ومنعة أنبه وأخزاه، وقال: تركت دين أبيك وهو خير منك، لنسفهن حلمك ولنضعن شرفك، وإن كان تاجراً قال: والله لنكسدن تجارتك ولنهلكن مالك، وإن كان شعيفاً ضربه وأغرى به (1).
ودعا رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه إلى الهجرة إلى الحبشة فقال: "لو خرجتم إلى أرض الحبشة فإن بها ملكاً لا يظلم عنده أحد. وهي أرض صدق، حتى يجعل الله، لكم فرجاً مما أنتم فيه" (1).
وكانت الهجرة الأولى إلى الحبشة. .
وكانت الهجرة الثانية إلى الحبشة. .
ويعلل بعضهم رجوع مهاجري الهجرة الأولى بقصة الغرانيق الباطلة (2)، وبعضهم يعلل ذلك بوصول خبر كاذب إليهم بأن قريشاً أسلمت. . والذي نراه أن شدة ارتباط العربي بقومه وأرضه كانت عاملاً نفسياً مهماً في هذه العودة. . (3).
ثم كانت الهجرة الثانية. وكان عدد أفرادها يزيد على الثمانين رجلاً. . ولا شك بأن هذه الهجرة أدت أغراضها فقد عاش المسلمون فترة من الزمن هناك كانت لهم الحرية في ممارسة شعائرهم. .
وكان لها أهداف تربوية أخرى. ذلك أن هؤلاء المسلمين الأول كانوا قد تحملوا البلاء في نفوسهم سخرية واستهزاء، وفي أجسادهم ضرباً وتعذيباً. وفي أموالهم وتجارتهم كساداً. تحملوا كل ذلك راضين، ومرنت نفوسهم على ذلك، وكان هناك أمر آخر ينبغي أن يتدربوا عليه وهو ترك الوطن من أجل العقيدة. حتى تكون العقيدة هي كل شيء.
وكان من حكمة الله أن يسر لهم هذه الهجرة. والذي يدفعني إلى هذا الرأي أني نظرت في أسماء المهاجرين إلى الحبشة فلم أجد بينهم بلالاً ولا صهيباً، وأما عمار فمشكوك في هجرته الأمر الذي يدفع إلى التساؤل بأنه لو كانت الهجرة إلى الحبشة هرباً من الاضطهاد لكان هؤلاء أولى بها. ولكنها كانت تربية على أمر نفسي لم يكن بلال وصهيب وعمار بحاجة إليه فهم ليسوا من قريش. ومكة ليست بلدهم الأصل ولذا فلن يصعب عليهم تركه لو طلب منهم ذلك.
ومهما يكن من أمر فقد وقعت الهجرة، وبرهن المسلمون عملياً أنهم يقدمون عقيدتهم على بلدهم وأهلهم وقومهم، وذلك انتصار كبير يعرفه ويعرف قيمته كل المغربين عن أوطانهم والمبعدين عن أهلهم. .
المراجع
- سيرة ابن هشام 1/ 320.
- سيرة ابن هشام 1/ 321.
- انظر دليل ذلك تفصيلاً في كتاب (أضواء على دراسة السيرة) للمؤلف.
- انظر تفصيل ذلك في المرجع السابق