1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. الاستخفاء بالدعوة

الاستخفاء بالدعوة

الكاتب : صالح أحمد الشامي


الفصل الأول

الاستخفاء بالدعوة

الدعوة سراً:

يذهب كثير من كتاب السيرة إلى اعتبار السنوات الثلاث الأولى التي أعقبت نزول الوحي عليه صلى الله عليه وسلم فترة سرية بدأت الدعوة حياتها بها، وعلى هذا فقد بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته سراً.

ولا نجد تفصيلاً لما حدث في هذه السنوات الثلاث في المصادر، فهي لم تتوقف طويلاً عند ذكر هذه المدة، بل لم تفرد لها عنواناً مستقلاً، أو فصلاً خاصاً، وإنما ورد الحديث عنها مجملاً ضمن الحديث عن الدعوة.

فابن هشام - على سبيل المثال - يقول نقلاً عن ابن إسحاق: ثم إن الله عز وجل أمر رسوله صلى الله عليه وسلم ان يصدع بما جاءه منه، وأن ينادي الناس بأمره، وأن يدعو إليه، وكان بين ما أخفى رسول الله صلى الله عليه وسلم أمره واستتر به إلى أن أمره الله تعالى بإظهار دينه سنين - فيما بلغني - من مبعثه . . (1).

وأغفلت بعض المصادر ذكر هذه الفترة إغفالاً تاماً (2).

لم يستخف صلى الله عليه وسلم بدعوته:

والذي يبدو لي من الرجوع إلى النصوص ومقارنتها، أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يتأخر عن إعلام دعوته إلى الناس حسب ما أمره الله تعالى به يوماً واحداً، وليس في القرآن الكريم ما يشير إلى ما اصطلح عليه باسم "الدعوة السرية" بل إننا نرى الآيات الكريمة الآمرة بالدعوة صريحة واضحة

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ} (1) {فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ} (2) {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ} (3)

، ومن اليقين الذي لا شك فيه، أنه صلى الله عليه وسلم قام بتنفيذ هذه الأوامر فور صدورها (4).

ولهذا المعنى - والله أعلم - لم يتوقف الإمام ابن القيم عند ما نسميه "الدعوة السرية" عندما تحدث عن مراحل جهاده صلى الله عليه وسلم، بل قال: "وشرع [صلى الله عليه وسلم] في الجهاد من حين بعث إلى توفاه الله عز وجل، فإنه لما نزل عليه:

{يَٰٓأَيُّهَا ٱلْمُدَّثِّرُ قُمْ فَأَنذِرْ وَرَبَّكَ فَكَبِّرْ وَثِيَابَكَ فَطَهِّرْ}

شمر عن ساق الدعوة، وقام في ذات الله أتم قيام، ودعا إلى الله ليلاً ونهاراً، وسراً وجهاراً، ولما نزل عليه:

{فَٱصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ}

فصدع بأمر الله لا تأخذه فيه لومة لائم، فدعا إلى الله الصغير والكبير، والحر والعبد، والذكر والأنثى، والأحمر والأسود، والجن والإنس. . " (1).

وأستطيع أن أوكد ما ذهبت إليه بما رواه ابن هشام عن إسلام أبي بكر إذ قال: "فلما أسلم أبو بكر رضي الله عنه أظهر إسلامه ودعا إلى الله ورسوله" (2). ومن المعروف أن أبا بكر رضي الله عنه من أوائل من أسلم إن لم يكن أول المسلمين، فكيف يًظهر إسلامه في الفترة التي افترض أن تكون سرية؟!

إننا على يقين من أن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستخف بدعوته في يوم من الأيام، منذ كلف بها (3). وإن كانت في البدء موجهة إلى من يتوسم بهم الاستجابة وعدم الإنكار.

وهذا يفسر لنا عدم تظاهر قريش بالعداوة من اليوم، وإنما استمعت وسكتت، ولعلها ظنت النبي صلى الله عليه وسلم واحداً من المتألهين الذين عرفوا قبله صلى الله عليه وسلم باسم الحنفاء. أمثال زيد بن عمرو بن نفيل، والذين لم يقف أحد في وجههم، بل تركوا وشأنهم.

قال ابن إسحاق: "فلما بادى رسول الله صلى الله عليه وسلم قومه بالإسلام، وصدع به كما أمره الله، لم يبتعد منه قومه ولم بردوا عليه - فيما بلغني - حتى ذكر آلهتهم وعابها، فلما فعل ذلك أعظموه وناكروه وأجمعوا خلافه وعداوته" (1).

وإذن فقد بدأ صلى الله عليه وسلم دعوته قوية صريحة، وقد أسلم عدد لا بأس به يقرب أو يزيد على عشرين صحابياً وصحابية - وهم الذين جاء في تراجمهم أن إسلامهم كان قبل دخول دار     الأرقم (2) - ثم وقفت قريش من وجه الدعوة فاتخذ صلى الله عليه وسلم دار الأرقم لا ليستخفي هو فيها، فقد كانت قريش كلها تعلم بدعوته، وإنما ليتيح لأتباعه الجدد الاستخفاء لدفع العدوان عن أنفسهم وقتاً ما (3)، ولأغراض أخرى سنتحدث عنها قريباً إن شاء الله.

المراجع

  1. السيرة النبوية، لابن هشام 1/ 262.
  2.  ومن هذه المصادر: مغازي رسول الله صلى الله عليه وسلم لعروة بن الزبير (النسخة المستخرجة) جمع وتحقيق الدكتور محمد مصطفى الأعظمي، من منشورات مكتب التربية العربي. قريباً من ذلك فعل ابن حزم في كتابه "جوامع السير" فإنه بعد ذكر المسلمين الأوائل، وقد عد منهم ما يزيد على الأربعين قال: "ثم أعلن رسول الله بالدعاء إلى الله عز وجل، وجاهرته قريش بالعداوة والأذى… " ص 51.
  3. = فكلمة "إعلان" هي الكلمة الوحيدة التي تشير إلى أنه قبل ذلك لم يكن في حالة من الإعلان، وهذا لا يعني أنه كان في حالة من السر، فقد لا يعلن الإنسان عن أمر ومع ذلك لا يتوخى السرية فيه.
  4. سورة المدثر: الآيتان 1- 2.
  5. سورة الحجر" الآية 94.
  6. سورة الشعراء: الآية 214.
  7. مما ورد - على سبيل المثال - بشأن آية الشعراء، ما رواه البخاري ومسلم وغيرهما، عن ابن عباس قال: لما أنزل الله عز وجل: {وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ ٱلْأَقْرَبِينَ} أتى النبي صلى الله عليه وسلم الصفا، فصعد عليه ثم نادى: يا صباحاه، فاجتمع الناس إليه بين رجل يجيء إليه، وبين رجل يبعث رسوله، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "يَا بَنِي عَبْدِ الْمُطَّلِبِ يَا بَنِي فِهْرٍ يَا بَنِي لُؤَيٍّ أَرَأَيْتُمْ لَوْ أَخْبَرْتُكُمْ أَنَّ خَيْلًا بِسَفْحِ هَذَا الْجَبَلِ تُرِيدُ أَنْ تُغِيرَ عَلَيْكُمْ صَدَّقْتُمُونِي قَالُوا نَعَمْ قَالَ فَإِنِّي نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذَابٍ شَدِيدٍ فَقَالَ أَبُو لَهَبٍ تَبًّا لَكَ سَائِرَ الْيَوْمِ أَمَا دَعَوْتَنَا إِلَّا لِهَذَا فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ { تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ}".
    وهكذا كانت مبادرته صلى الله عليه وسلم سريعة لتنفيذ الأمر وكذلك شأنه في كل أوامر الله تعالى.
  8. زاد المعاد، لابن القيم 3/ 12 بتحقيق شعيب الأرنؤوط وعبدالقادر الأرنؤوط.
  9. سيرة ابن هشام 1/ 249.
  10. ذهب إلى هذا الرأي الأستاذ محمد عزة دروزة في كتابه "سيرة الرسول صورة مقتبسة من القرآن الكريم" فقال: "إن الدعوة بدأت علنية وبقوة، خلافاً لما روي أنها بدأت سرية. . وكل ما يمكن أن يقال إزاء ما ورد في الروايات التي تروي أقوال بعض أصحاب الله، مثل ما روي في قصة إسلام عمر حيث سأل: (أنحن على حق أم باطل، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بل على حق" فقال" فقيم التخفي إذن). .أن النبي  صلى الله عليه وسلم حماية لأصحابه كان يلزم الحذر والتحفظ في الصلاة والاجتماع بهم، غير أن دعوته للناس كانت وظلت جهرة، وهذا هو المعقول المتسق مع هدف الدعوة وإيمان النبي بالله ورسالته" 1/ 154 - 155.
  11. سيرة ابن هشام 1/ 264.
  12. ممن ذكر في إسلامهم أنه كان قبل دخول دار الأرقم:
    خديجة أم المؤمنين، وعلي بن أبي طالب، وزيد بن حارثة، وأبو بكر، وعثمان، والزبير، وعبدالرحمن بن عوف، وسعد بن أبي وقاص، وطلحة بن عبيد الله، وأبو عبيدة بن الجراح، وأبو سلمة، والأرقم بن أبي الأرقم، وعبيدة بن الحارث، وسعيد بن زيد وزوجه فاطمة، وابن مسعود، وعياش بن أبي ربيعة، وعبدالله بن جحش، ومعمر بن الحارث، وحاطب بن عمرو، وواقد بن عبدالله بن مناف، وعثمان بن مظعون، وأخواه: عبدالله وقدامة، وعامر بن ربيعة، وخنيس بن حذافة. 
  13. هذا ما نراه الصواب في هذه القضية، ولا يعكر علينا النص الذي جاء في البداية نقلاً عن ابن إسحاق 3/ 24، والذي ينص على توقف علي حين دعي إلى الإسلام فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: "يا علي، إذ لم تسلم فاكتم..." وكره صلى الله عليه وسلم أن يفشي سره قبل أن يستعلن أمره. 
    والجواب على هذا: أن هذا الخبر لم يورده ابن هشام، وربما كان ذلك لمطعن فيه، ثم إن هذا الخبر ورد في آخره ما يناقض الواقع. ففي تتمة الخبر: ففعل علي وأسلم ومكث يأتيه على خوف من أبي طالب وكتم علي إسلامه ولم يظهره. اهـ. ونتساءل لما الخوف من أبي طالب، وعلي في هذه الفترة إنما كان يعيش مع الرسول صلى الله عليه وسلم. كما نص عليه ابن هشام 1/ 246. وقد أورد ابن كثير بعد هذا الخبر مباشرة خبراً آخر من رواية ابن إسحاق بسنده يؤكد أن علياً كان في هذه الفترة في حجر النبي صلى الله عليه وسلم. . وفي الخبر أيضاً أن أخ الأشعث بن قيس لأمه واسمه عفيف، كان تاجراً له علاقة بالعباس، قالتقيا أيام الحج قال: فبينا نحن إذ خرج رجل من خباء فقام يصلي تجاه الكعبة ثم خرجت امرأة فقامت تصلي وخرج غلام يصلي معه فقلت: يا عباس ما هذا الدين؟ فقال: 





المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day