1. المقالات
  2. السِّيرَةُ النَّبويَّةُ (تَربِيةُ أمَّةٍ وَبنَاءُ دَوْلَةٍ)
  3. ضبط النفس

ضبط النفس

الكاتب : صالح أحمد الشامي


نستطيع القول الآن - وبعد تلك المعاناة المتعددة الجوانب - بأن هذه التربية قد استطاعت الوصول بالمسلمين الأول إلى درجة القوة، وأنهم استطاعوا التخلص من ضعفهم النفسي والجسدي مستعينين بالصبر والصلاة ومن الجوانب البارزة في هذه القوة ضبط أنفسهم تتنفيذاً لقوله تعالى:

{كُفُّوٓا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا ٱلصَّلَوٰةَ} (1)

وذلك طول كدة وجودهم في مكة.

إن العربي بطبيعته بأبي الضيم والذل. ولقد كانت الحماسة والاندفاع تدفع بعض الأحيان بعض المسلمين إلى اللجوء إلى السلاح للدفاع عن النفس وعن الكرامة ولكن الأمر صدر إليهم بالمنع. . ولقد التزموا بذلك والآية السابقة تشير إلى هذا الموقف الذي استمر الالتزام به حتى الهجرة إلى المدينة، فقد كان الحماس شديداً في بيعة العقبة الثانية حتى قال العباس بن عبادة لرسول الله صلى الله عليه وسلم: إن شئت لنميلن على أهل منى غداً بأسيافنا، فقال له: "لم نؤمر بذلك.." (1).

هذا الموقف من ضبط النفس طول تلك المدة، وعلى كثرة الحوادث التي أصابت المسلمين من ضرب واستذلال. . تؤكد أن قوة ضبط الأعصاب وقوة التحكم بالإرادة وفقاً للأوامر قد وصلت إلى الدرجة المطلوبة وأن تلك التربية قد آتت ثمارها.

ويقول سيد قطب رحمه الله في تحليل هذا الموقف:

"إن البيئة العربية كانت بيئة حرب ومسارعة إلى السيف، وأعصاب متوفزة لا تخضع لنظام، والتوازن في الشخصية الإسلامية كان يقتضي كبح جماح هذا التوفز الدائم، وإخضاعها لهدف وتعويدها الصبر وضبط الأعصاب، مع إشعار النفوس باستعلاء العقيدة على كل نزوة وكل مغنم، ومن ثم كانت الدعوة إلى الصبر على الأذى متفقة مع منهج التربية الذي يهدف إلى التوازن في الشخصية الإسلامية وتعليمها الصبر والثبات والمضي في الطريق" (2).

ومما ينبغي التأكيد عليه أن الأمر بالامتناع عن القتال كان أمراً عارضاً لأسباب محلية، ذلك أن الله تعالى وصف المؤمنين في سورة الشورى فقال: 

{.. وَٱلَّذِينَ ٱسْتَجَابُوا لِرَبِّهِمْ وَأَقَامُوا ٱلصَّلَوٰةَ وَأَمْرُهُمْ شُورَىٰ بَيْنَهُمْ وَمِمَّا رَزَقْنَٰهُمْ يُنفِقُونَ وَٱلَّذِينَ إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ وَجَزَٰٓؤُا سَيِّئَةٍۢ سَيِّئَةٌ مِّثْلُهَا ۖ فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُۥ عَلَى ٱللَّهِ ۚ إِنَّهُۥ لَا يُحِبُّ ٱلظَّٰلِمِينَ. .} (1).

والآيات هنا مكية نزلت في الوقت الذي منع فيه دفع الأذى ورد العدوان ومع ذلك فهي تصف المؤمنين بأنهم:

{إِذَآ أَصَابَهُمُ ٱلْبَغْىُ هُمْ يَنتَصِرُونَ}.

ذلك أنها تقرر صفة أصيلة لا بد م وجددها في نفس المسلم بقطع النظر عن الظروف الطارئة.

إن "ذكر هذه الصفة في القرآن المكي ذو دلالة خاصة. . فهي تقرير لصفة أساسية في الجماعة المسلمة، صفة الانتصار من البغي، وعدم الخضوع للظلم، وهذا طبيعي بالنسبة لجماعة أخرجت للناس لتكون خير أمة، لتأمر بالمعروف وتنهى عن المنكر. وتهيمن على حياة البشرية بالحق والعدل، وهي عزيزة بالله

{وَلِلَّهِ ٱلْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِۦ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (2)

فمن طبيعة هذه الجماعة ووظيفتها أن تنتصر من البغي وأن تدفع العدوان، وإذا كانت هناك فترة اقتضت لأسباب محلية في مكة، ولمقتضيات تربوية في حياة المسلمين الأوائل من العرب خاصة أن يكفوا أيديهم ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة، فذلك أمر عارض لا يتعلق بخصائص الجماعة الثابتة الأصلية" (3).

المراجع

  1. سورة النساء: الآية 77. قال ابن كثير: كان المؤمنون في ابتداء الإسلام وهم بمكة مأمورين بالصلاة والزكاة. . وكانوا مأمورين بالصفح والعفو عن المشركين والصبر إلى حين، وكانوا يتحرقون ويودون لو أمروا بالقتال ليشتفوا من أعدائهم، ولم يكن الحال إذ ذاك مناسباً لأسباب كثيرة منها: قلة العدد. . ومنها: كونهم كانوا في بلدهم وهو بلد حرام. . ا هـ. أقول: وقد قال عمر يوم إسلامه مخاطباً المشركين: . . فأحلف بالله أن لو كنا ثلاثمائة لقد تركناها لكم أو تركتموها لنا. [سيرة ابن هشام 1/ 349] وما ذاك إلا لشعور منه بأهمية العدد في هذا الميدان. وقال سيد قطب رحمه الله مشيراً إلى بعض حكمة هذا الموقف: "إن البيئة العربية كانت بيئة نخوة، تثور لصاحب الحق الذي يقع عليه الأذى، واحتمال المسلمين للأذى وصبرهم على عقيدتهم كان أقرب إلى استثارة هذه النخوة في صف الإسلام والمسلمين وهذا ما حدث بالقياس إلى حادث الشعب وحصر بني هاشم فيه، فقد ثارت النخوة ضد هذا الحصار، ومزقت العهد الذي حوته الصحيفة" [في ظلال القرآن 5/ 3166] وانظر أيضاً 1/ 185 من الظلال.
  2. سيرة ابن هشام 1/ 448.
  3. في ظلال القرآن 5/ 3166 -3167.
المقال السابق المقال التالى

مقالات في نفس القسم

موقع نصرة محمد رسول اللهIt's a beautiful day